تحل هذا الأسبوع الذكرى المئوية لمعركة فاصلة في تاريخ البشرية وهي المعروفة باسم معركة «المارن Marne الأولى» في 5 سبتمبر 1914. وهي المعركة التي كان لها دورها الحاسم في مسيرة الحرب العالمية الأولى والتي أدت في النهاية إلى تسليم ألمانيا الراية وطلب الدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب بعد أربع سنوات، وإذا ما أخذنا التعريف العام للانتصار العسكري كما أورده بعض الاستراتيجيين على اعتباره كسر إرادة العدو وإثنائه عن الاستمرار في هذه الحرب، فهذا ما ينطبق على هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الحرب العالمية الأولى.
لقد اندلعت الحرب العالمية الأولي لأسباب متعددة سبق تناولها من خلال سلسلة مقالات، ولكننا نتعرض اليوم للمعركة الفاصلة في هذه الحرب من الناحية الاستراتيجية التي ستلقي الضوء على جزء مهم من التاريخ العسكري لهذه الحرب. ولكن، ما يهمنا إبرازه هو أن الساحة الأوروبية كانت معدة من أجل اندلاع الحرب العالمية، فهناك فريقان يتربص بعضهما ببعض، الأول يضم بريطانيا وفرنسا وروسيا وحلفاءهم، بينما يضم الثاني كلا من ألمانيا القوية والإمبراطورية النمساوية المجرية وحلفائهما، وقد اندلعت شرارة الحرب بمجرد قتل ولي العهد النمساوي في سراييفو على أيدي متطرفين من الصرب، وهو ما كان كفيلا ببدء الحرب، خاصة بين فرنسا وألمانيا اللتين استعدتا تمام الاستعداد لهذه الحرب بينهما التي جاءت بعد النكسة الفرنسية إبان حرب 1871 التي حاصرت فيها القوات الألمانية العاصمة الفرنسية وأجبرتها على التنازل عن مقاطعتي «الألزاس واللورين» لصالح ألمانيا، ومن ثم أصبحت هذه الحرب تمثل الفرصة الفرنسية الكبيرة لاستعادة الكرامة ومعها هاتين المقاطعتين.
لقد وضعت القيادة العسكرية الفرنسية خطتها منذ عقود، التي كانت ترمي إلى وضع سلسلة من التمركزات الدفاعية على مجرى الحدود بين الدولتين لتصل إلى قرابة 150 ميلا، على أن تبقى القوات الفرنسية خلف هذا الخط لتستطيع التحرك صوب العدو الألماني بعد تعطيل تحركاته من خلال هذه التمركزات الأمامية بما يسمح بإلحاق الهزيمة به، ولكن الجنرال «جراندميزون Grandmaison» رفض هذه الخطة تدريجيا ورأى ضرورة تغييرها من خلال الخطة «السابعة عشرة Plan XVII»، وهي خطة في حقيقة الأمر متواضعة الفكر والتطبيق، حيث رمت إلى حشد القوات الفرنسية بكثافة عددية كبيرة على الحدود الألمانية بما يسمح لها باختراق الدفاعات الألمانية بشكل مباشر لاستعادة مقاطعتي «الألزاس واللورين»، وقد أمّن على هذه الخطة الجنرال «جوفر Joffre» الذي صار رئيسا للأركان.
على الصعيد الآخر، فإن الألمان كانوا يدركون أن الحرب آتية، ومن ثم صاغت القيادة الألمانية خطة شهيرة حملت اسم واضعها وهو «فون شليفن Von Schlieffen»، كانت تهدف إلى قيام القوات الألمانية باختراق بلجيكا، رغم حيادها، بما يمكنه من التحرك المباشر والالتفاف حول تمركزات العدو ليتجه صوب باريس مباشرة في أيام معدودات ويحاصرها من الغرب والشمال بدلا من هزيمة الجيش الفرنسي المتمركز على الحدود الشرقية بكثافة، وقد كانت هذه الخطة تهدف إلى عدم خوض حرب مباشرة متوقعة تكون مكلفة وغير مبتكرة، وقد اعتمدت القيادة الألمانية على قيامها بعملية تعبئة واسعة تستخدم فيها السكك الحديدية والآلة التنظيمية الألمانية، كما أنها كانت تدرك أهمية الانتهاء على الفور من الجبهة الفرنسية حتى تستطيع مواجهة الجبهة الشرقية التي كان يتوقع لها أن تشهد معارك ضارية مع روسيا، وقد وضعت الخطة فخا عسكريا مبتكرا من خلال إضعاف الجبهة الغربية الألمانية لدفع الجانب الفرنسي نحو الهجوم، وكان على هذه الجبهة أن تتراجع تدريجيا لتمتص الثقل العسكري الفرنسي في أراضيها حتى لا تستطيع هذه القوات المشاركة في المعركة الفاصلة السيطرة على باريس. ولكن مثلما حدث مع فرنسا، فإن قدرات رئيس الأركان الألماني الجديد «فون مولتك Von Moltke» لم ترق لعبقرية الخطة، فلقد خشي الرجل على جبهته الغربية أكثر من التركيز على الجبهة الشمالية. وكرجل عسكري محافظ وغير قادر على ابتكار فكر متطور غير مباشر يحقق له الانتصار، بدأ بتقوية قواته المتمركزة في الغرب على حساب الجبهة الشمالية التي كان من المفترض أن تهجم بضراوة وقوة، مما بدأ يضعف الخطة تدريجيا، خاصة من الناحية اللوجيستية.
نظرا إلى المتغيرات التي طرأت على الخطط من الجانبين، فعندما اندلعت الحرب بدأ التطبيق الجزئي للخطة الألمانية، ولكن أمرين أثرا مباشرة في عدم النجاح المأمول، فلقد عطلت المقاومة البلجيكية الهجوم الألماني بشكل لم يكن متوقعا، وهو ما أفقدها الكثير من الوقت وقوة الدفع، كما أن اندفاع الجيش الفرنسي نحو الجبهة الغربية الألمانية سمح لهم ببعض التقدم، ولكن الجنرال «جوفر» أدرك على الفور خطورة ترك باريس بلا مقاومة تذكر، فكان عليه أن يجهز على الفور للمعركة القادمة بالقرب من عاصمته. هنا، تجلى ذكاء هذا الرجل، فلقد أدرك على الفور أن «الخطة السابعة عشرة» لا تساوى الحبر الذي كتبت به، وأنه لا يمكن الاعتماد عليها لإنقاذ العاصمة، وهنا اتخذ الرجل قرارا جريئا بتشكيل جيش جديد لمواجهة التقدم الألماني وهو الجيش السادس الميداني، وطلب من المحافظ العسكري لمدينة باريس أن يحشد كل شاب قادر على حمل السلاح، في تشكيل عسكري سريع، وهو ما تم باستخدام كل الوسائل المتاحة بما في ذلك سيارات الأجرة، وهكذا استعدت باريس للعدو الألماني القادم من الشمال بعدما قضى على المقاومة البلجيكية، ولكنه كان بلا سند لوجيستي قوي بسبب إضعاف هذه الجبهة نتيجة وساوس «فون مولتك»، ولكن الخطأ الأكبر الذي اتخذه هذا الرجل كان تغيير مسار الجيش المهاجم الذي كانت لا تزال أمامه فرصة سانحة لإنهاء هذه المعركة لصالحه، فبدلا من تحريك الجيش لمهاجمة باريس من الغرب والشمال في آن واحد في حركة التفاف عسكري موجودة في الخطة الأساسية، حرك «فون مولتك» قواته صوب شرق باريس لأسباب لوجيستية وسعيا لكسب الوقت، وهو ما سمح للفرنسيين بتجهيز دفاعاتهم، مستعينين بأجزاء من الجيوش الفرنسية التي استطاعت أن تبدأ مناوشة الجيش الألماني وتكبيده الخسائر الفادحة ولم تجعله يستطع إسقاط باريس سريعا وإخراج فرنسا من الحرب نهائيا كما كان منتظرا.
وهكذا، بدأت معركة «المارن الأولى» بفقدان ألمانيا قوة الدفع والقدرة على المناورة والتحرك السريع خارج توقعات الفرنسيين بما يمكن أن يكفل لها الانتصار بأقل خسائر، وقد بدأت المعركة ولأيام كثيرة دون أن يستطع أي طرف كسر قدرة الطرف الآخر على مواصلة الحرب، وأصبحت المعركة تقليدية لجيشين متواجهين بلا أي فرصة لمناورات أو تحركات واسعة، وقد صمد الفرنسيون وأبلوا بلاء حسنا أمام الآلة العسكرية الألمانية، ورغم أنه لا يمكن القول بأن طرفا استطاع التغلب على الآخر، فإن حالة التعادل التي سادت هذه الجبهة المعركة السمة الأساسية للجبهة بين فرنسا وألمانيا، فلقد دخل الطرفان في حرب ممتدة معروفة بعد ذلك بحرب الخنادق، وأصبح اختراق أي طرف للآخر أمرا صعبا للغاية، وهكذا دخل المسرح الغربي في مرحلة توازن عسكري لم يخرج منها حتى نهاية الحرب.
ولعل من أغرب التقديرات هي التي وردت على لسان أحد أعظم المحللين العسكريين والتي وصف فيها الخطتين الألمانية والفرنسية بأن الأولى تمثل تجسيدا لفكر نابليوني فرنسي بحت، بينما الخطة الفرنسية تمثل تجسيدا لفكر مؤسس علم الاستراتيجية الألماني «كارل فون كولزويتز Carl Von Clauzewitz»، ولكن حقيقة الأمر أن الطرفين أفسدا خطتيهما، متناسيَيْن أن الانتصارات العسكرية غالبا ما تعتمد على السرعة والحركة والقدرة على الحشد والمناورة، وقد عبر عن ذلك «نابليون بونابرت» عندما أكد أن الانتصار يساوي السرعة مضروبة في الكثافة، كما أن عدم القدرة على الابتكار، خاصة عند «فون مولتك»، كان من شأنها تقليل فرص الألمان في تحقيق النصر السريع، وذلك في الوقت الذي غير «جوفر» خطته على الفور واستطاع أن يتواءم مع المتغيرات الجديدة، بينما اتسم فكر نظيره الألماني بالبطء والتخوف المبالغ فيه وعدم القدرة على الابتكار، فالحرب مثل أي سلوك سياسي تحتاج للابتكار والرؤية.
من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى
من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة