من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى

من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى
TT

من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى

من التاريخ: مائة عام على معركة «المارن» الأولى

تحل هذا الأسبوع الذكرى المئوية لمعركة فاصلة في تاريخ البشرية وهي المعروفة باسم معركة «المارن Marne الأولى» في 5 سبتمبر 1914. وهي المعركة التي كان لها دورها الحاسم في مسيرة الحرب العالمية الأولى والتي أدت في النهاية إلى تسليم ألمانيا الراية وطلب الدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب بعد أربع سنوات، وإذا ما أخذنا التعريف العام للانتصار العسكري كما أورده بعض الاستراتيجيين على اعتباره كسر إرادة العدو وإثنائه عن الاستمرار في هذه الحرب، فهذا ما ينطبق على هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الحرب العالمية الأولى.
لقد اندلعت الحرب العالمية الأولي لأسباب متعددة سبق تناولها من خلال سلسلة مقالات، ولكننا نتعرض اليوم للمعركة الفاصلة في هذه الحرب من الناحية الاستراتيجية التي ستلقي الضوء على جزء مهم من التاريخ العسكري لهذه الحرب. ولكن، ما يهمنا إبرازه هو أن الساحة الأوروبية كانت معدة من أجل اندلاع الحرب العالمية، فهناك فريقان يتربص بعضهما ببعض، الأول يضم بريطانيا وفرنسا وروسيا وحلفاءهم، بينما يضم الثاني كلا من ألمانيا القوية والإمبراطورية النمساوية المجرية وحلفائهما، وقد اندلعت شرارة الحرب بمجرد قتل ولي العهد النمساوي في سراييفو على أيدي متطرفين من الصرب، وهو ما كان كفيلا ببدء الحرب، خاصة بين فرنسا وألمانيا اللتين استعدتا تمام الاستعداد لهذه الحرب بينهما التي جاءت بعد النكسة الفرنسية إبان حرب 1871 التي حاصرت فيها القوات الألمانية العاصمة الفرنسية وأجبرتها على التنازل عن مقاطعتي «الألزاس واللورين» لصالح ألمانيا، ومن ثم أصبحت هذه الحرب تمثل الفرصة الفرنسية الكبيرة لاستعادة الكرامة ومعها هاتين المقاطعتين.
لقد وضعت القيادة العسكرية الفرنسية خطتها منذ عقود، التي كانت ترمي إلى وضع سلسلة من التمركزات الدفاعية على مجرى الحدود بين الدولتين لتصل إلى قرابة 150 ميلا، على أن تبقى القوات الفرنسية خلف هذا الخط لتستطيع التحرك صوب العدو الألماني بعد تعطيل تحركاته من خلال هذه التمركزات الأمامية بما يسمح بإلحاق الهزيمة به، ولكن الجنرال «جراندميزون Grandmaison» رفض هذه الخطة تدريجيا ورأى ضرورة تغييرها من خلال الخطة «السابعة عشرة Plan XVII»، وهي خطة في حقيقة الأمر متواضعة الفكر والتطبيق، حيث رمت إلى حشد القوات الفرنسية بكثافة عددية كبيرة على الحدود الألمانية بما يسمح لها باختراق الدفاعات الألمانية بشكل مباشر لاستعادة مقاطعتي «الألزاس واللورين»، وقد أمّن على هذه الخطة الجنرال «جوفر Joffre» الذي صار رئيسا للأركان.
على الصعيد الآخر، فإن الألمان كانوا يدركون أن الحرب آتية، ومن ثم صاغت القيادة الألمانية خطة شهيرة حملت اسم واضعها وهو «فون شليفن Von Schlieffen»، كانت تهدف إلى قيام القوات الألمانية باختراق بلجيكا، رغم حيادها، بما يمكنه من التحرك المباشر والالتفاف حول تمركزات العدو ليتجه صوب باريس مباشرة في أيام معدودات ويحاصرها من الغرب والشمال بدلا من هزيمة الجيش الفرنسي المتمركز على الحدود الشرقية بكثافة، وقد كانت هذه الخطة تهدف إلى عدم خوض حرب مباشرة متوقعة تكون مكلفة وغير مبتكرة، وقد اعتمدت القيادة الألمانية على قيامها بعملية تعبئة واسعة تستخدم فيها السكك الحديدية والآلة التنظيمية الألمانية، كما أنها كانت تدرك أهمية الانتهاء على الفور من الجبهة الفرنسية حتى تستطيع مواجهة الجبهة الشرقية التي كان يتوقع لها أن تشهد معارك ضارية مع روسيا، وقد وضعت الخطة فخا عسكريا مبتكرا من خلال إضعاف الجبهة الغربية الألمانية لدفع الجانب الفرنسي نحو الهجوم، وكان على هذه الجبهة أن تتراجع تدريجيا لتمتص الثقل العسكري الفرنسي في أراضيها حتى لا تستطيع هذه القوات المشاركة في المعركة الفاصلة السيطرة على باريس. ولكن مثلما حدث مع فرنسا، فإن قدرات رئيس الأركان الألماني الجديد «فون مولتك Von Moltke» لم ترق لعبقرية الخطة، فلقد خشي الرجل على جبهته الغربية أكثر من التركيز على الجبهة الشمالية. وكرجل عسكري محافظ وغير قادر على ابتكار فكر متطور غير مباشر يحقق له الانتصار، بدأ بتقوية قواته المتمركزة في الغرب على حساب الجبهة الشمالية التي كان من المفترض أن تهجم بضراوة وقوة، مما بدأ يضعف الخطة تدريجيا، خاصة من الناحية اللوجيستية.
نظرا إلى المتغيرات التي طرأت على الخطط من الجانبين، فعندما اندلعت الحرب بدأ التطبيق الجزئي للخطة الألمانية، ولكن أمرين أثرا مباشرة في عدم النجاح المأمول، فلقد عطلت المقاومة البلجيكية الهجوم الألماني بشكل لم يكن متوقعا، وهو ما أفقدها الكثير من الوقت وقوة الدفع، كما أن اندفاع الجيش الفرنسي نحو الجبهة الغربية الألمانية سمح لهم ببعض التقدم، ولكن الجنرال «جوفر» أدرك على الفور خطورة ترك باريس بلا مقاومة تذكر، فكان عليه أن يجهز على الفور للمعركة القادمة بالقرب من عاصمته. هنا، تجلى ذكاء هذا الرجل، فلقد أدرك على الفور أن «الخطة السابعة عشرة» لا تساوى الحبر الذي كتبت به، وأنه لا يمكن الاعتماد عليها لإنقاذ العاصمة، وهنا اتخذ الرجل قرارا جريئا بتشكيل جيش جديد لمواجهة التقدم الألماني وهو الجيش السادس الميداني، وطلب من المحافظ العسكري لمدينة باريس أن يحشد كل شاب قادر على حمل السلاح، في تشكيل عسكري سريع، وهو ما تم باستخدام كل الوسائل المتاحة بما في ذلك سيارات الأجرة، وهكذا استعدت باريس للعدو الألماني القادم من الشمال بعدما قضى على المقاومة البلجيكية، ولكنه كان بلا سند لوجيستي قوي بسبب إضعاف هذه الجبهة نتيجة وساوس «فون مولتك»، ولكن الخطأ الأكبر الذي اتخذه هذا الرجل كان تغيير مسار الجيش المهاجم الذي كانت لا تزال أمامه فرصة سانحة لإنهاء هذه المعركة لصالحه، فبدلا من تحريك الجيش لمهاجمة باريس من الغرب والشمال في آن واحد في حركة التفاف عسكري موجودة في الخطة الأساسية، حرك «فون مولتك» قواته صوب شرق باريس لأسباب لوجيستية وسعيا لكسب الوقت، وهو ما سمح للفرنسيين بتجهيز دفاعاتهم، مستعينين بأجزاء من الجيوش الفرنسية التي استطاعت أن تبدأ مناوشة الجيش الألماني وتكبيده الخسائر الفادحة ولم تجعله يستطع إسقاط باريس سريعا وإخراج فرنسا من الحرب نهائيا كما كان منتظرا.
وهكذا، بدأت معركة «المارن الأولى» بفقدان ألمانيا قوة الدفع والقدرة على المناورة والتحرك السريع خارج توقعات الفرنسيين بما يمكن أن يكفل لها الانتصار بأقل خسائر، وقد بدأت المعركة ولأيام كثيرة دون أن يستطع أي طرف كسر قدرة الطرف الآخر على مواصلة الحرب، وأصبحت المعركة تقليدية لجيشين متواجهين بلا أي فرصة لمناورات أو تحركات واسعة، وقد صمد الفرنسيون وأبلوا بلاء حسنا أمام الآلة العسكرية الألمانية، ورغم أنه لا يمكن القول بأن طرفا استطاع التغلب على الآخر، فإن حالة التعادل التي سادت هذه الجبهة المعركة السمة الأساسية للجبهة بين فرنسا وألمانيا، فلقد دخل الطرفان في حرب ممتدة معروفة بعد ذلك بحرب الخنادق، وأصبح اختراق أي طرف للآخر أمرا صعبا للغاية، وهكذا دخل المسرح الغربي في مرحلة توازن عسكري لم يخرج منها حتى نهاية الحرب.
ولعل من أغرب التقديرات هي التي وردت على لسان أحد أعظم المحللين العسكريين والتي وصف فيها الخطتين الألمانية والفرنسية بأن الأولى تمثل تجسيدا لفكر نابليوني فرنسي بحت، بينما الخطة الفرنسية تمثل تجسيدا لفكر مؤسس علم الاستراتيجية الألماني «كارل فون كولزويتز Carl Von Clauzewitz»، ولكن حقيقة الأمر أن الطرفين أفسدا خطتيهما، متناسيَيْن أن الانتصارات العسكرية غالبا ما تعتمد على السرعة والحركة والقدرة على الحشد والمناورة، وقد عبر عن ذلك «نابليون بونابرت» عندما أكد أن الانتصار يساوي السرعة مضروبة في الكثافة، كما أن عدم القدرة على الابتكار، خاصة عند «فون مولتك»، كان من شأنها تقليل فرص الألمان في تحقيق النصر السريع، وذلك في الوقت الذي غير «جوفر» خطته على الفور واستطاع أن يتواءم مع المتغيرات الجديدة، بينما اتسم فكر نظيره الألماني بالبطء والتخوف المبالغ فيه وعدم القدرة على الابتكار، فالحرب مثل أي سلوك سياسي تحتاج للابتكار والرؤية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.