بينما نال فيلم لوك بيسون الأخير «لوسي» علامات استحسان فوق المتوسط في الصحافة الفرنسية، استقبل بعلامات ما دون المتوسّط في الولايات المتحدة. الفارق بين الاثنين أن النقاد الأميركيين لم يجدوا في الأفكار التي تدلت خارج الفيلم ما يمكن أن يثير الاهتمام، بينما تحدّث نقاد موقع «كالتشر بوكس» وصحيفة «الباريسي» عن تلك الرموز الكبيرة والمهمّة في هذا الفيلم والبعض، مثل الناقد بيير مورات كتب في «تيليراما» عن «تلك الأبعاد التي تحلى بها الفيلم».
وفي حين أن نقد الفيلم يحتمل وجهات النظر، ولو أن الحقيقة في النهاية تبقى واحدة، إلا أن المؤكد هو أن المخرج الفرنسي بيسون أقلع من جديد فوق سطح المحيط الأطلسي محققا فيلما آخر له باللغة الهوليوودية، أو إذا ما أردت تسميتها أيضا بـ«اللغة الإنجليزية».
بيسون يعترف بأنه ابن لهوليوود وُلد في فرنسا. لم يتكلف عناء الذهاب إلى «السينماتيك فرنسيز» ولا التحق بركب مشاهدي مخرجي الأمس الكبار ولم تكن لديه النيّة في أن ينجز أفلاما فنيّة.
وُلد بيسون في باريس سنة 1959 ولو أن سنوات عمره السبعة عشر الأولى قضاها ما بين اليونان وكرواتيا بسبب عمل والديه. عندما عاد في السبعينات شابّا إلى باريس انشغل بالصور. وهو، حسب مقابلة أجرتها معه صحيفة «الغارديان» البريطانية سنة 2000 دخل المجال السينمائي على نحو غير طارئ:
«كنت أحب الكتابة والتقاط الصور ثم فكّرت أنها قد تكون فكرة عظيمة لو أنني حضرت تصوير فيلم». كان فيلما قصيرا عمل فيه كمساعد مخرج ثالث، لكنه أيقن هناك أنه يريد أن يسرد قصصا بالصور المتحركة. لم يدرس السينما بل جلس وكتب عددا من الحكايات نفّذ أولها وهو في الثالثة والعشرين من العمر باسم «المعركة الأخيرة» (1983) والحكم كان قاسيا. حسب «كاييه دو سينما»: «لو اختصر منه ثلاثة أرباعه لأصبح فيلما قصيرا مقبولا».
* نكهة فرنسية
كانت صفعة تلقاها بيسون، لكنه مضى صوب فيلمه الثاني «محطات المترو» Subway سنة 1985 مع حظ أوفر من النجاح. هذه المرّة أنتج فيلمه بنفسه كما كتبه (مع آخرين) وجلب إليه كل من كريستوفر لامبرت وإيزابيل أدجاني. الأول يعيش تحت الأرض حيث محطات المترو والثانية هي فتاة جميلة قام الأول بسرقة محفظتها وأخذ يبتزها بعدما كشف سرّها.
ومن تحت الأرض إلى تحت سطح الماء بعد ثلاث سنوات عندما أنجز فيلم «الأزرق الكبير». أراده استعراضا كبيرا ولو على حساب العمق ما أثار حفيظة الذين شاهدوه في عرضه العالمي الأول في مهرجان «كان» سنة 1988. وجاء ناطقا بثلاث لغات (الإنجليزية والفرنسية والإيطالية) موزّعا البطولة بين الأميركية روزانا أركيت والفرنسيين جان رينو وجان مارك بار كما الإيطالي سيرجيو كاستاليتو.
مرّة أخرى، لم ينثن بيسون عن العمل رغم موقف نقاد «كان». فرأيناه في عام 1990 يحقق شريطه التشويقي الأول «الأنثى نيكيتا» مع آن باريلو ومارك دوريه في البطولة. كان هذا أول مرّة يمنح المرأة دور «سوبر هيرو» كما الحال مع بطلته الجديدة سكارلت جوهانسن في «لوسي». فنيكيتا امرأة كان محكوما عليها بدخول السجن، لكن أحدا قرر أن الحكومة الفرنسية تستطيع الاستفادة منها عبر تدريبها وإطلاقها كقاتلة محترفة. ملصق الفيلم لخّص عنصري الإثارة المستخدمين في هذا الفيلم: آن باريلو جالسة على الأرض بفستان قصير كاشف ورافعة مسدسها مستعدة لاستخدامه: هي بذلك الأنثى الجميلة والقاتلة المحترفة.
بعده جرب الأفلام التسجيلية بـ«أتلانتيس»، الذي غاص فيه داخل البحر مرّة ثانية ليلتقط حياة الأسماك والحيوانات البحرية التي فيه. صفّق للفيلم معجبون كُثر لكنه لم ينجز تجاريا أمواجا وموجات. على إثره انشغل بيسون بإنتاج أفلام من إخراج آخر حتى عام 1994 عندما عيّن جان رينو بطلا لفيلم بوليسي تشويقي آخر هو «ليو: المحترف» لجانب غاري أولدمن وداني أييلو ونتالي بورتمن.
«ليو: المحترف» لم يكن فيلما رديئا على الإطلاق. معالجة بيسون كانت محتوية على العناصر الهوليوودية المنتشرة لكن نكهته الفرنسية كانت لا تزال تميّز العمل من نواح عدّة ما يجعل الفيلم مختلقا عن الأفلام الأميركية الشبيهة بقدر ما هو تابع لخطواتها وكنية علاقتها مع الجمهور.
في عام 1997 أخرج فيلما من الخيال العلمي حقق عبره النجاح الأكبر إلى ذلك الحين. الفيلم هو «العنصر الخامس» ومع هذا الفيلم خطى بيسون خطوة أكثر وثوقا في سبيل تعزيز مكانته العالمية، وفي هوليوود أساسا. ليس فقط أن الفيلم ناطق بالإنجليزية وأن بطله الأول هو نجم هوليوودي باب أول حينها (بروس ويليس) بل هي المعالجة الكليّة التي هضمت كيف تفكّر هوليوود حين تصنع أفلام الدهشة والتشويق وتأتي من الخارج في مسعى لبزّها بلطف.
* خلاف مع بيغلو
في العام ذاته (1997) سعى إليه الممثل البريطاني غاري أولدمان لكي يساعده إنجاز فيلمه الأول كمخرج. النتيجة فيلم رائع ومهدور لم يعره نقاد ذلك العام الكثير من الاهتمام هو «لا شيء في الفم» Nil By Mouth: دراما جيدة عن حياة فرد مسؤول عن أسرة يواجه أوضاعا قد تتلف مستقبله. شيء لم يعمد إلى تحقيقه لوك بيسون مطلقا كمخرج.
لكن بيسون كان لديه طموح مختلف: أراد تحقيق فيلم ديني عن «جان دارك» وأراد من زوجته الممثلة ميلا جوفوفيتش (التي التقى بها عندما اختارها للبطولة النسائية في «العنصر الخامس») القيام ببطولته. في البداية كان مكتفيا بإنتاجه واتصل بالمخرجة الأميركية ذات المراس الصعب كاثرين بيغلو طالبا منها تحقيق الفيلم. لكن بيغلو لم تجد في زوجة بيسون الممثلة الصحيحة ما أدّى إلى خلاف ثم إلى قضية رفعتها المخرجة بيغلو ضد المخرج بيسون لكن جرى حلها خارج المحكمة. على ذلك لم يشأ بيسون التراجع عن خطّته وجلب زوجته إلى حلبة ذلك الفيلم الديني وشهد معها إخفاق الفيلم تجاريا ونقديا.
حدث ذلك سنة 1999 وبعد ذلك العام تجنّب الجلوس في كرسي الإخراج وانطلق في الإنتاج المتواصل. النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنتج ما لا يقل عن خمسة عشر فيلما فرنسيا. في النصف الثاني خمسة عشر فيلما آخر بعضها بالإنجليزية مع استثناء وحيد إذ أخرج سنة 2005 فيلما فرنسيا بعنوان «الملاك A» مع جمال دبوس في البطولة.
مع مطلع 2007 عاد إليه الحلم بإنشاء إمبراطورية فرنسية أميركية كبيرة فأنتج «ترانسبورتر 3» و«مخطوفة». وهذا الثاني أنجز نجاحا جيّدا دفعه للعودة إليه في جزء ثان سنة 2012 وحاليا يحضّر لعرض الجزء الثالث ثم لاستكمال حلقات «ترانسبورتر» وذلك من بين مشاريع أخرى.
طوال هذه السنوات وإلى اليوم، ومعارك بيسون مع النقاد مفتوحة. إنه ليس الفنان المحبوب بين النقاد الفرنسيين ولا هو بالمرحّب به كثيرا بين النقاد الأميركيين. إنتاجاته ربما حفظت الدرس الهوليوودي جيّدا وسلسلة «مخطوفة» Taken خير دليل، لكن كمخرج ما زال، كما الحال في «لوسي» يسعى لجلجلة من الأصوات والأضواء والقليل من الفعل الفني والأسلوبي.
حين كتب أحد النقاد الفرنسيين مقالا عاب فيه على بيسون توجهه إلى هوليوود قرر بيسون تأديبه فرفع دعوة عليه ساهمت في رفع أعداد المجلة الصغيرة التي نشر فيها الناقد مقالته (اسمها «برازيل» تيمنا بفيلم تيري جيليام على الأرجح) وفي انخفاض جديد في شعبيته بين المثقفين ما دفعه لسحب الدعوى وإغلاق ملفّها. قبل ثلاث سنوات صرّح بأنه لن يقوم بالإخراج مرّة أخرى بل سيكتفي بالإنتاج، لكن «لوسي» يثبت أن نيّته تلك لم تكن نهائية وها هو يعود لينجز ما يعتقد هو أنه تحفة سينمائية خلاّبة.
* شخصيات واحدة
لكن حتى يكون المرء عادلا، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن لوك بيسون إذ ترك الوجه الفرنسي للسينما لأترابه الراغبين في مواصلة تحقيق أفلام تنبع من ثقافة فرنسية خالصة، لم يسقط في الفراغ بل أسس فعلا عالمه الخاص وأصبح، كما الحال اليوم، أحد كبار المنتجين العاملين ما بين الاستوديو الذي شيده في سان دنيز (ضواحي باريس على نهر السين) وبين هوليوود. لم يجهده أن وضع قدما هنا وقدما هناك بل أنجز ما سعى إليه من دون خجل. بالنسبة إليه السينما الأميركية هي العالم السينمائي، ونقل عنه أنه قال لصحافي: «لك حرية أن تعتقد ما تريد وأن تشجع السينما التي تحب، لكن السينما العالمية الوحيدة وتلك التي استهوتني وأنا صغير هي السينما الأميركية وليس عندي مشكلة في تحقيق أفلام على منوالها».
هذا المنوال لا يميّز أفلامه وحده، بل هناك رديف مهم. بيسون أنتج لليوم نحو 120 فيلما وكتب منها 77 فيلما وأخرج 21 فيلما طويلا. وما حافظ عليه في كتاباته لأفلامه وأفلام سواه من المخرجين على نحو غالب هو جلب بطل من خارج البطولة. شخص هامشي الأثر حتى وإن كان محترف قتل وتركه يواجه المؤسسات الكبرى. لوسي في «لوسي» هي نيكيتا كما لعبتها آن باريلو وكلتاهما نسخة منقّحة من شخصية جان رينو في «ليو: المحترف» وهذا ليس بعيدا في ملامحه الشخصية عن شخصية كوربن كما مثلها بروس ويليس في «العنصر الخامس». أما ليام نيسون في «مخطوفة» فهي تنهل من هذه الشخصيات مرّة أخرى. كلها في نهاية المطاف تبقى أميركية وفرنسية تعود بجذورها إلى أفلام هوليوودية قدّمها مخرجو الأربعينات والخمسينات والستينات وأحبها، قبل بيسون، مخرجون فرنسيون قام بعضهم، مثل جان بيار ملفيل، بنقلها بأمانة إلى أفلامه. لكن ملفيل لم يفكّر في أن يصنع أفلاما أميركية، بل فرنسية. لم يكترث لأن يمد جسرا فوق الأطلسي بل قنع بأن يوظّف حبّه للسينما البوليسية الأميركية فيما يفيد سينماه الفرنسية وحسنا فعل.