أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

على مدار عقد من الزمن فشلت إسرائيل في تحييدها عسكريا.. والآن تجرب التكنولوجيا

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض
TT

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

أنفاق غزة.. مدينة تحت الأرض

قبل نحو أسبوع، بينما كان الجنود الإسرائيليون يغادرون قطاع غزة مع دباباتهم إلى الشريط الحدودي، وذلك بعد نحو شهر من عملية عسكرية «معقدة» استهدفت تدمير الأنفاق «الهجومية» كما يسميها الإسرائيليون، داخل المدن الحدودية في القطاع، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتهنئة جيشه و«الشاباك» (الأمن العام) على «إنهاء عمليات تحييد (تدمير) الأنفاق الإرهابية في قطاع غزة»، قائلا لشعبه: «العملية العسكرية وجهت ضربة إلى المنظومة الاستراتيجية التي استثمرت فيها حماس جهدا هائلا على مدار سنين»، لكنه عاد بعد ذلك ودون تأخير ليقول لشعبه، إنه لا يضمن أنه عملية الجيش و«الشاباك» نجحت 100 في المائة.
نتنياهو وجيشه و«الشاباك» أكثر من يعرف أن العملية لم تنجح بشكل حاسم وليس لها تأثير مباشر على المدى البعيد، وأنه بعد عام أو اثنين ستكون حماس قد بنت مجددا ما هدمه الجيش الإسرائيلي. وقالت إسرائيل إنها بعد 30 يوما من العمل في غزة تمكنت من تدمير 32 نفقا ضخما لحماس، من دون أن تشير إلى عدد الأنفاق التي لم تستطع تدميرها. ولا أحد في إسرائيل يعرف كيف تبدو عليه شبكة الأنفاق العسكرية في قطاع غزة، ولا أين تبدأ أو تنتهي، ويتضح من فيديوهات نشرتها حماس وإسرائيل، إضافة إلى طرائق تنفيذ عمليات في الحرب الأخيرة أن الحركة الإسلامية بنت مدينة صغيرة تحت المدينة الأم. تركت فوق الأرض للناس وبنت تحت الأرض مدينتها.
وخلال الحرب الأخيرة على غزة، اتضح أهمية هذه المدينة القائمة على أنفاق طويلة ومتشابكة، بعدما شنت القسام من داخلها عدة عمليات تسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي العامل في القطاع، وكانت عمليات مؤثرة وقاسية على إسرائيل. ومن بين ما نشرته القسام فيديو يمكن وصفة بلقطة الحرب، خرج فيه قساميون من فوهة نفق إلى خارج حدود غزة وهاجموا معسكرا للجيش الإسرائيلي، قبل أن تظهر اللقطات اللاحقة رجال القسام وهم يدوسون رأس أحد الجنود على الأرض ويحاولون خطفه، ثم يعودون مجددا من فتحة النفق إلى غزة. كان هذا في خضم إعلان الجيش الإسرائيلي تحقيقه إنجازات كبيرة على صعيد «تحييد» الأنفاق، وانقلب السحر في إسرائيل على الساحر، وارتفعت المطالبات عاليا من أجل التحقيق بالفيديو «الإهانة».
أثبتت عمليات أخرى نفذتها حماس إلى جانب عملية المعسكر، داخل وخارج غزة، الأهمية الاستثنائية للأنفاق والتي أعطت حماس ميزة عنصر المفاجأة خلال المواجهات. ويكفي الإشارة إلى أن حملة هدم الأنفاق الـ32 في الحرب الأخيرة على غزة، كلفت الخزينة العامة مليارات الدولارات، وكلفت الجيش الإسرائيلي خسارة 63 جنديا، وخطف اثنين، دون أن ينجح في القضاء عليها.
ومنذ عام 2008 وحتى الآن، شنت إسرائيل ثلاث حروب على قطاع غزة بهدف ضرب بنية حماس التحتية (الأنفاق). واليوم بعد أن انتهت الحروب الثلاث بما فيها حرب «الجرف الصامد»، أدرك الإسرائيليون استحالة المهمة دون احتلال كامل لغزة. وطالب وزراء في الحكومة الإسرائيلية بينهم وزير الاقتصاد نفتالي بينت ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، بتنفيذ هجوم كامل على غزة واحتلالها وإسقاط حماس، لكن الجيش الإسرائيلي وضع سيناريو «رعب» أمام المسؤولين الإسرائيليين حول تكلفة احتلال غزة وتنظيفها نهائيا من الأنفاق. وقال السيناريو الذي وضعه الجيش، إن عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين سيكون بالمئات خلال المرحلة الأولى فقط، في حين سيتعرض عدد غير محدود لعمليات اختطاف، أما القتلى من سكان غزة فسيكونون بالآلاف.
وأشارت التقديرات إلى أن التكلفة المالية لاحتلال غزة ستصل إلى عشرات المليارات. أما سياسيا فوضعت إسرائيل نصب عينها أن عملية كهذه ستضع أيضا معاهدتي السلام مع مصر والأردن في خطر شديد. وقال مسؤول عسكري إسرائيلي ردا على طلب وزراء احتلال غزة: «ستكون عملية احتلال جنوب لبنان سابقا مثل نزهة». وأضاف: «من أجل أن نخلق نظاما هناك وسط هذه الفوضى العارمة سنحتاج لسنوات طويلة». وحذر مسؤولو الأمن الإسرائيلي، وزراء «الكابنيت» كذلك من أن انتفاضة في الضفة الغربية أو في الداخل ستصبح أمرا واقعا.
وأصر العسكريون الإسرائيليون على موقفهم على الرغم من محاولات وزراء «الكابنيت» التشكيك في التقرير والقول إنهم يحالون تخويفهم من احتلال القطاع. وكان خلافات ظهرت أثناء الأسبوع الثالث من العملية العسكرية التي استمرت 29 يوما قبل توقيع هدنة تنتهي اليوم، بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. وأرادت قيادة الجيش من «الكابنيت» حسم الأمر تجاه احتلال غزة أولا، وقال عسكريون إن المستوى السياسي متردد، ورد وزراء بأن الجنرالات يريدون العودة إلى منازلهم. ووسط هذا الخلاف أنهى الإسرائيليون عملية غزة وشرعوا في التفكير بطرائق أخرى لتحييد خطر الأنفاق.
وقال قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي الميجور جنرال سامي ترجمان، إن الاختبار الأكبر يتمثل باستتباب الهدوء في قطاع غزة لفترة طويلة من الزمن، قائلا: «يجب منع حماس بكل وسيلة من إعادة حفر الأنفاق حتى إذا اقتضى ذلك الدخول مجددا إلى القطاع لتدمير هذه الأنفاق». ويبدو أن هذه التهديدات، بما فيها طلب إسرائيل إيجاد آلية دولية ضمن أي اتفاق للتأكد من عدم حفر أنفاق جديدة، تلقى بالا عند حماس. وقالت القسام لاحقا إنها تواصل حفر الأنفاق. ونقل عن مسؤول في «وحدة حفر الأنفاق»، أنهم في الوحدة يواصلون عملهم بشكل طبيعي، ولم يتلقوا أي تعليمات جديدة.
ووحدة حفر الأنفاق، هي وحدة مستقلة عن بقية تشكيلات القسام. وقال مسؤول ميداني في الوحدة: «نحن نواصل عملنا وفق الخطة الموضوعة لنا، وقد أنهينا حفر الكثير من الأنفاق أثناء الحرب وسلمنا خرائطها للقيادة». وتقسم أنفاق حماس العسكرية إلى هجومية وأخرى دفاعية. والدفاعية يتحصن بها مقاتلو حماس من أجل مواجهة الإسرائيليين، وتكون عادة داخل حدود القطاع فقط، وقد استخدمها المقاتلون في الشجاعية ورفح وبيت حانون حين فاجأوا جنودا إسرائيليين في هذه المدن، أما الهجومية فتبدأ في غزة وتنتهي في إسرائيل. وأثارت الأنفاق الهجومية رعب السكان في المستوطنات الإسرائيلية. ويصل طول بعض أنفاق حماس الهجومية إلى ثلاثة كيلومترات، وبعمق 25 مترا تحت الأرض بحسب ما كشف عنه الجيش الإسرائيلي.
وتشيد القسام كل نفق بأطنان من الإسمنت حتى لا ينهار، ويكون عادة عريضا إلى حد يسمح بتحرك الأفراد بسهولة وبعضها مجهز بسكك حديدية خفيفة وعربات نقل سريعة وفتحات جانبية. وتقدر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أن حماس تستثمر نحو 140 مليون دولار في السنة لحفر الأنفاق تحت الأرض، سواء تلك التي تستعمل لتهريب السلاح من جهة سيناء أم لتنفيذ عمليات في الجانب الإسرائيلي. وتعتقد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، أن المسافة العامة للأنفاق تمتد إلى عشرات الكيلومترات. وتجرب إسرائيل الآن «التكنولوجيا» في محاربة الأنفاق. ومنذ أعوام، استخدمت إسرائيل أفضل العلماء لتطوير تقنيات متقدمة تساعدها على ذلك وسط جدل حول نجاعة الأفكار المطروحة.
وتعتزم إسرائيل في وقت قريب تجريب «مجسات» استشعار جديدة لكشف الأنفاق، قبل أن تقرر إذا ما كانت ستبني جدارا إلكترونيا فاصلا في باطن الأرض بين غزة وإسرائيل.
وقال ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي: «إن إسرائيل تعد لإقامة شبكة من أجهزة الاستشعار في مسعى لرصد عملية بناء الأنفاق التي تصل لأراضيها من قطاع غزة، لكن الأمر قد يستغرق شهورا لتحديد أن كانت هذه التكنولوجيا ستحقق النتائج المرجوة».
وقال مسؤول آخر، إنه حتى ذلك الحين فإن الجيش قد يعاود احتلال القطاع الساحلي لتدمير أي أنفاق يكتشفها أو يعتقد أنها قيد البناء في محاولة لتهدئة مخاوف الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من القطاع. ويأمل الجيش أن تساعد هذه الأجهزة ليس فقط في رصد الأنفاق قيد البناء، ولكن أيضا تلك الموجودة بالفعل. وخلال مؤتمر صحافي قال الضابط الذي طلب عدم نشر اسمه، إن أجهزة الاستشعار ستحاط بحواجز على حدود القطاع البالغ طولها 68 كيلومترا. وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن أحد أكثر الحلول المطروحة إقامة جدار تحت الأرض على عمق عشرات الأمتار، وعلى طول الحدود مع غزة (65 كيلومترا) لاعتراض الأنفاق، إضافة إلى فكرة زرع «مجسات» بدل الجدران.
وبينما كان الجيش الإسرائيلي يعترض على فكرة إقامة جدران قبل الحرب الحالية، لأنها قد لا تكون حاسمة، وستكلف نحو ثمانية مليارات شيقل (نحو ملياري دولار)، عاد يفكر في ذلك من بين أمور أخرى. وقال المحلل الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الأمنية، رونين رغمان، إن إسرائيل تتجه لبناء «جدار إلكتروني» تحت الأرض على طول الحدود مع غزة بهدف مواجهة الأنفاق. وأضاف: «سيجري تخصيص ميزانيات لوزارة الدفاع من أجل تمويل إنشاء جدار إلكتروني تحت الأرض على طول الحدود مع غزة.. سيعمل بتكنولوجيا شبيهة بتكنولوجيا التنقيب عن النفط والغاز».
لكن قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، سامي ترجمان، شكك بذلك وقال إن الجيش ليس لديه أي حلول تقنية لأنفاق غزة حتى الآن. وأوضح في تصريحات نقلتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «بدأنا عملية الجرف الصامد، ودخلنا أطراف غزة لتدمير الأنفاق، لأنه ليس لدينا حلول، وكل مرة نكتشف نفقا كنا ندخل إليه من أجل تدميره». ومن المقرر أن يقوم الجيش الإسرائيلي قريبا بإجراء تجربة جديدة على جهاز «مجسات» لتحديد وجود أنفاق أو لا. وعملت إسرائيل على تطوير هذه التكنولوجيا منذ عام ونصف العام، وأجرت تجارب عليها في المناطق التي تحوي أنفاقا لمياه الصرف الصحي في تل أبيب.
وقال ضابط في الجيش الإسرائيلي، إن الجهاز يعمل بواسطة مجموعة «مجسات» قادرة على التقاط عمليات الحفر تحت الأرض، أو تحديد وجود فراغات في باطن الأرض.
وبحسبه، فإن تكلفة الجهاز تتراوح بين مليار ونصف المليار وملياري شيقل، وإدخال الجهاز إلى العمل، في حال نجحت التجربة، سيستغرق نحو عام، منذ لحظة اتخاذ القرار.
وأصاب هوس الأنفاق المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تعتقد بوجود أنفاق شبيهة في الشمال، عن طريق «حزب الله». وقال قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي يائير جولان: «الجيش يستعد للتعامل مع سيناريو وجود أنفاق في الجبهة الشمالية من جهة لبنان، رغم عدم وجود تهديد استراتيجي لهذه الأنفاق حتى الآن».
وأضاف: «لا توجد أي معلومات لدى الجيش الإسرائيلي عن وجود أنفاق من الأراضي اللبنانية نحو إسرائيل، لكن الجيش يستعد للتعامل مع هذا السيناريو». ورد العقيد احتياط آتي شيلاش بتأكيده أن «حزب الله» يمتلك أنفاقا تعبر الحدود إلى الشمال، وقال: «من يعتقد أن تهديد الأنفاق غير موجود في الشمال فهو لا يعيش في منطقة الشرق الأوسط». وأكد شيلاش أن خطر الأنفاق في بداية طريقه، معربا عن ثقته في تطوير تكنولوجيا جديدة يمكنها التعامل مع خطر الأنفاق في المرحلة المقبلة. وتابع: «لم أتفاجأ من أنفاق حماس في قطاع غزة، ولكن اندهشت من مستوى التطور التشغيلي لها». ولا يتوقف امتلاك حماس للأنفاق على العسكرية فقط، بل تملك الحركة أنفاقا أخرى لأغراض تهريب أسلحة وأموال واحتياجات القسام الأخرى، وهذه تبدأ من غزة وتنتهي عند الجانب المصري.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.