من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية
TT

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

من التاريخ: حروب الثورة الفرنسية

تابعنا على مدار الأسابيع الماضية الثورة الفرنسية وآثارها العميقة على الشعب الفرنسي، وكيف أن كثيرا من الأهداف الأساسية التي نادت بها هذه الثورة لم يتحقق، وكيف تحركت التطورات في فرنسا لمدة عقدين من الزمان بعد الثورة لتعيد البلاد إلى أحضان حكم أسرة «البوربون» بعدما تدخلت الدول الأوروبية للقضاء على القوة العسكرية الفرنسية ومعها المفاهيم الثورية التي بدأت تنتشر في أوروبا كلها، وهو ما يُدخلنا هنا إلى نموذج الثورة الفرنسية ودورها في تغيير الثقافة السياسية الإقليمية في أوروبا، وهو ما كان له أكبر الأثر على تطور السياسة والفكر الأوروبيين.
لقد خرج العالم الفرنسي العظيم للعلاقات الدولية «ريمون آرون» بنظرية هامة في كتابه «السلام والحرب: نظرية في العلاقات الدولية»، وتشير نظريته إلى أن النظم الإقليمية التي تضم الدول التي تتشابه ثقافاتها تكون أكثر ميلا لتصبح نظما متجانسة Homogeneous، أي أن الحروب فيها لا تكون إلا لأسباب تقليدية تتعلق بمحاولة التوسع على حساب الغير أو الانتقام أو رد الاعتبار.. إلخ. ولكنها لا تكون لمحاولة القضاء على دولة لأسباب متعلقة باختلافها فكريا أو ثقافيا أو لاعتناقها رؤى مخالفة، وفي حالة ما إذا تمركزت الاختلافات الثقافية في دولة داخل النظام السياسي الإقليمي فإنه يتحول من نظام غير متجانس Heterogeneous، وهو ما يجعل فرص الحروب تتسع بشكل كبير، وتستشهد هذه النظرية بمجموعة من الحالات التاريخية وعلى رأسها الدولة العثمانية في أوروبا وجنوب أفريقيا العنصرية في القارة الأفريقية، فترى أنه في الحالة الأولى فإن الدولة العثمانية مثلت دولة إسلامية ذات جذور وفكر وشرعية مختلفة تماما عن باقي النظام الأوروبي وهو ما جعل هناك حالة من عدم التجانس الواضح داخل النظام الأوروبي وجعل بقاءها هناك رهينة لدورها الهام في التوازن الاستراتيجي داخل القارة الأوروبية بعدما وهنت هذه الدولة، وبالتالي دارت معها حروب كثيرة وممتدة.
واستنادا إلى هذه النظرية، فإن الجمهورية الأولى ثم الإمبراطورية الفرنسية بعد الثورة مثلت نفس حالة الدولة العثمانية في النظام الأوروبي أو جنوب أفريقيا العنصرية في القارة الأوروبية، فالنظام الأوروبي كان مبنيا على أسس سياسية وعسكرية مقبولة لدى كل الأطراف، فهي نظم ملكية مبنية في أغلبها على مفهوم الحقوق الملكية المطلقة، بل إن مفهوم شرعية الحكم يكاد يكون واحدا، كذلك كانت أغلبية نظم إدارة الدولة وفكرها وقوانينها، بل إن الأسر الحاكمة كانت على اتصال مباشر بعضها ببعض، ويجري التزاوج بينها ليس فقط لأسباب تتعلق بالتحالفات السياسية والعسكرية ولكن لأسباب أخرى تتعلق بوحدة المفاهيم والأهداف للأسر الحاكمة، وهو ما كان يجعل كثيرا من الملوك يوجهون رسائلهم لنظرائهم في الدول الأخرى بعنوان «جلالة الملك وابن العم الكريم» وذلك لكثرة التزاوج بين الأسر الحاكمة والتي تحكم على أسس شرعية موحدة. من ناحية أخرى فإن الجيوش الأوروبية كانت على شاكلة واحدة، فهي لم تكن مبنية على أسس قومية أو وطنية، ولكنها كانت مبنية على مؤسسية مرتبطة بالملك، وهو ما جعل بعض الضباط يتركون الخدمة في جيش دولة لينتقلوا إلى جيوش أخرى، كما أن وجود المرتزقة في هذه الجيوش كان بالأمر الطبيعي وغير المستغرب في ذلك الوقت.
ومع اندلاع الثورة الفرنسية بمراحلها المختلفة، بدأت ملامح التغيير السياسي تؤثر مباشرة، فلقد غيرت الثورة مفهوم الحكم ومعه مفهوم الشرعية، فالفكرة الأساسية بأن الملك يحكم بتفويض إلهي حتى مع بدء ضعفها، كانت أساسا هاما بنيت عليه الشرعية، وكان التوريث هو النظام الأساسي للانتقال السلمي للسلطة السياسية، ولكن الثورة الفرنسية ألغت الملكية بثورة شعبية وقرار من ممثلي الشعب، وقد تزامن مع ذلك أيضا تغيير في أسس الشرعية وهو أن الشعب هو مصدر السلطات وفقا للدستور الجديد الذي أقرته هذه الثورة، كما أن فكرة الطبقية بدأت تهتز بشدة، فالنظام الاجتماعي في فرنسا شابته تغيرات واسعة النطاق، وبدأت حملة التصفية للإقطاع والأرستقراطية أو طبقة النبلاء، كما بدأت الدولة الجديدة تنشر أفكارا غربية مثل مفاهيم الحرية والإخاء والمساواة، فأصبح أفراد الشعب ينادون بعضهم البعض بلفظ «مواطن» وهو ما كان أمرا غريبا لأنه بدأ يضرب في أساس التركيبة الاجتماعية للدولة الفرنسية بما يخالف تماما الأنظمة الأخرى. أما على الصعيد العسكري، فلقد أدخلت فرنسا تغييرا جوهريا في نظام العسكرية، حيث أدخلت ما أطلق عليه الـLevee en Mass، أي الجيش الوطني المبنى على أساس يقارب التجنيد، وهو مفهوم ألغى مفهوم الجيوش القائمة في ذلك الوقت، فأصبح للدولة الآن جيش قوامه الشعب نفسه ولكن هذا لم يمثل عائقا أمام انضمام بعض الجنسيات الأخرى لهذا الجيش اعتناقا لمذاهب فكرية أو فرصة للترقي الوظيفي، خاصة بعدما جرت تصفية كثير من النخب العسكرية التابعة للنظام الملكي الفرنسي المخلوع.
وقد كانت هذه المتغيرات كفيلة بأن تزعج كل الممالك الأوروبية الأخرى وتخلق نظاما أوروبا متباينا لأن فرنسا الثورية ضربت مفاهيم الشرعية السياسية وأسس الحكم والتركيبة الاجتماعية في مقتل، فتحول النظام الأوروبي إلى ساحة للاقتتال الفكري والثقافي والثوري والعسكري على حد سواء، فمن الناحية الفكرية خرج بعض المفكرين برؤى سياسية رافضين مفهوم الثورة بصفة عامة، وعلى رأسهم الكاتب الإنجليزي العظيم «إدموند بورك» في كتابه المؤثر (تأملات حول الثورة في فرنسا) وذلك بعد مرور عام على الثورة هناك تنبأ فيه ببعض أحداثها مثل الفوضى السياسية والدماء وحكم الحديد والنار، من ناحية أخرى فلقد رفضت كل الدول هذه الأفكار الغريبة خوفا من انتشارها وتأثيرها المباشر على السلام الاجتماعي في ممالكهم، وقد بدأت أوروبا كلها حركة ضد الردة الفرنسية من وجهة نظرها لا سيما بعدما لجأت حكومة الجمعية الوطنية لتبني مفهوم «تصدير الثورة»، وهو ما دفع بعض الساسة الفرنسيين لمحاولة احتوائه خشية أن تتكالب أوروبا على الثورة، ولكن نصائحهم ذهبت أدراج الريح.
كان من الطبيعي أن تسعى الدول الأوروبية لمحاولة حصار فرنسا الثورية وعزلها سياسيا واجتماعيا عن النظام السياسي الإقليمي في أوروبا، وهو ما تمخض عنه في النهاية سلسلة من التحالفات ضد فرنسا من قبل الدول الأوروبية الكبرى والصغرى على حد سواء، بدأ بما هو معروف باسم إعلان «بيلنتز» بعد الثورة بثلاثة أعوام والذي بمقتضاه أعلنت بروسيا والنمسا استعدادهما للتضامن مع الدول الأوروبية من أجل التدخل في الشأن الفرنسي لمساندة الملك قبيل خلعه، وهو ما فتح المجال على مصراعيه لما عرف بـ«حروب الثورات الفرنسية» والتي انتهت فعليا بهزيمة نابليون الأولى في معركة «ليبزيغ»، ثم بعد ذلك في معركة «واترلو» عام 1815، ولم تهدأ الدول الأوروبية إلا بعد أن أعادت الملكية مرة أخرى إلى فرنسا، ومع ذلك فهي لم تستطع أن تغير حقيقة أساسية وهي أن المفاهيم التي أصبحت تمثل عقيدة سياسية جديدة اعتنقها الشعب الفرنسي كانت أكبر من أن يجري احتواؤها بقوة السلاح، وهو ما دفع فرنسا لسلسلة من الأحداث والحكومات المتعاقبة إلى أن بدأت هذه المبادئ ترسخ تدريجيا بنهايات القرن التاسع عشر ونصف العشرين، ولكن ليس قبل أن تخلق حالة فرقة في النظام الأوروبي لاختلاف مفاهيم الشرعية والفكر وطريقة الحكم، ولو أن فرنسا استوعبت الخوف الأوروبي أغلب الظن أن مصير الثورة كان يمكن أن يكون أحسن حالا بدلا من جعل الجيران يتكالبون عليها.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».