أوروبا أصبحت أكبر ممول لـ«القاعدة» بالفدى التي تدفع لإطلاق الرهائن

الخزانة الأميركية تقدر المبالغ المدفوعة بـ165 مليون دولار

صور ومتعلقات احتفظ بها السويدي هارلد أيكلر (في الإطار) خلال اختطافه في الصحراء الجزائرية عام 2003 ({نيويورك تايمز})
صور ومتعلقات احتفظ بها السويدي هارلد أيكلر (في الإطار) خلال اختطافه في الصحراء الجزائرية عام 2003 ({نيويورك تايمز})
TT

أوروبا أصبحت أكبر ممول لـ«القاعدة» بالفدى التي تدفع لإطلاق الرهائن

صور ومتعلقات احتفظ بها السويدي هارلد أيكلر (في الإطار) خلال اختطافه في الصحراء الجزائرية عام 2003 ({نيويورك تايمز})
صور ومتعلقات احتفظ بها السويدي هارلد أيكلر (في الإطار) خلال اختطافه في الصحراء الجزائرية عام 2003 ({نيويورك تايمز})

وصل المسؤول الألماني المكلف توصيل هذه الشحنة إلى هنا اليوم على متن طائرة عسكرية فارغة من الركاب تقريبا، وسرعان ما انتقل إلى اجتماع سري مع رئيس مالي، والذي قدم إلى أوروبا حلا يحفظ ماء الوجه إزاء المشكلة المحيرة. رسميا، قدمت ألمانيا تلك الأموال في صورة مساعدات إنسانية لجمهورية مالي القارية الفقيرة.
غير أن حقيقة الأمر، هي أن جميع الأطراف تدرك أن تلك الأموال في طريقها إلى مجموعة غامضة من المتطرفين الإسلاميين الذين يحتجزون 32 رهينة أوروبية، طبقا لتصريحات ستة دبلوماسيين كبار شاركوا بصورة مباشرة في عملية التبادل.
حملت الحقائب على متن سيارات نقل رباعية سافرت مئات الأميال شمالا ناحية الصحراء، حيث قام المقاتلون الملتحون، والذين سوف يصبحون عما قريب الذراع الرسمي لتنظيم القاعدة، بعد الأموال على بطانية أفردت فوق رمال الصحراء.
كانت حلقة عام 2003 بمثابة تجربة تعليمية لكلا الجانبين. فبعد أحد عشر عاما أخرى، صارت عملية التسليم في باماكو من الطقوس المعروفة جيدا، حيث تجري عشرات عمليات التسليم المماثلة في كل أرجاء العالم.
صار اختطاف الرهائن الأوروبيين لقاء الفدية من الأعمال المربحة لتنظيم القاعدة، وأحد مصادر التمويل الرئيسة لعمليات التنظيم حول العالم.
وفي حين تنكر الحكومات الأوروبية دفع الفدية، إلا أن تحقيقا أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» كشف عن أن تنظيم القاعدة وفروعه المباشرة قد جنوا أرباحا تقدر بـ125 مليون دولار على أدنى تقدير من إيرادات عمليات الاختطاف الحالية منذ عام 2008، منها 66 مليون دولار قد سددت خلال العام الماضي فقط.
وفي مختلف الأخبار والبيانات الصحافية، رصدت وزارة الخزانة الأميركية مبالغ الفدية، بمجموعها، لتصل إلى مبلغ وقدره 165 مليون دولار خلال ذات الفترة.
ويجري تسديد تلك المبالغ بصورة حصرية من خلال الحكومات الأوروبية، والتي تنقل تلك الأموال عبر شبكة من الوكلاء، وأحيانا ما تضيف عليها صورة المساعدات التنموية، وذلك طبقا لمقابلات أجريت مع رهائن سابقين، ومفاوضين، ودبلوماسيين، ومسؤولين حكوميين في عشر دول أوروبية، وأفريقية، وفي منطقة الشرق الأوسط. وجرى الكشف عن الأعمال الداخلية لتجارة الاختطاف في آلاف الصفحات من الوثائق الداخلية لتنظيم القاعدة التي عثر عليها بواسطة ذلك المراسل أثناء عمله في مهمة لصالح وكالة الأسوشييتد برس في شمال مالي العام الماضي.
وتلقى تنظيم القاعدة معظم تمويلاته في سنواته الأولى من المتبرعين الأثرياء، غير أن مسؤولي مكافحة الإرهاب يعتقدون حاليا أن الجماعة تمول معظم أعمال التجنيد، والتدريب ومشتريات الأسلحة من الفدى التي تسدد لتحرير الرهائن الأوروبيين. وبمزيد من الصراحة، صارت أوروبا وكيلا تمويليا غير معتمد لصالح تنظيم القاعدة.
وقد أنكرت وزارات الخارجية الفرنسية، والسويسرية، والنمساوية، والإيطالية، والألمانية، في رسائل بالبريد الإلكتروني ومحادثات هاتفية أن بلادهم قد دفعت أي أموال للإرهابيين. وقال فنسنت فلوريني، نائب مدير الاتصالات بوزارة الخارجية الفرنسية: «ذكرت السلطات الفرنسية مرارا وتكرارا أن فرنسا لا تدفع فدى للإرهابيين».
وقد وصف الكثير من كبار الدبلوماسيين المشاركين في المفاوضات السابقة قرار دفع الفدية لتحرير مواطنيهم بالحسابات الموجعة: فإما الخضوع لمطالب الإرهابيين، وإما السماح بمقتل أناس أبرياء، بطريقة علنية وبشعة في غالب الأمر. ومع ذلك فحقيقة استمرار أوروبا ووسطائها في سداد الفدى قد انتقل بالأمر كله إلى دائرة مفرغة.
ويقول ديفيد كوهين، وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، في خطاب له في عام 2012 «صار الاختطاف لقاء الفدية من أهم مصادر تمويل الإرهاب في الوقت الحاضر. فكل معاملة تشجع تنفيذ معاملة أخرى».
ويزدهر العمل في أن عمليات الاختطاف المنفذة في عام 2003 جاءت بمردود ربحي بلغ 200 ألف دولار لكل رهينة، إلا أن الرقم تصاعد الآن وصولا إلى عشرة ملايين دولار. تلك الأموال التي يصفها الرجل الثاني في القيادة المركزية لتنظيم القاعدة مؤخرا بأنها تمثل ما يقرب من نصف إيرادات العمليات.
ويقول ناصر الوحيشي، زعيم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية: «إن اختطاف الرهائن هو غنيمة سهلة. وإنني أصفه بالتجارة المربحة والكنز الثمين».
إن تدفق الإيرادات لذو أهمية كبيرة، حيث تظهر الوثائق الداخلية أنه منذ خمس سنوات سابقة، كانت القيادة المركزية لتنظيم القاعدة في باكستان تشرف على مفاوضات حول رهائن اختطفوا في أماكن بعيدة مثل أفريقيا. وعلاوة على ذلك، ويبدو من تصريحات الناجين المحتجزين عبر آلاف الأميال البعيدة أن الأفرع الرئيسة الثلاثة للجماعة الإرهابية - وهي القاعدة في المغرب العربي، في شمال أفريقيا، والقاعدة في شبه الجزيرة العربية، في اليمن، وحركة شباب المجاهدين في الصومال - تنسق الجهود فيما بينها، وتلتزم ببروتوكول مشترك حيال عمليات الاختطاف.
وتقليلا للمخاطر التي قد يتعرض لها مقاتليهم، فإن الأذرع الإرهابية المذكورة قد كلفت عصابات إجرامية بتنفيذ عمليات اختطاف الرهائن مقابل عمولات مالية. ويقتطع المفاوضون نسبة عشرة في المائة من مبلغ الفدية، مما يخلق حافزا على كلا جانبي الأبيض المتوسط إزاء زيادة إجمالي المدفوعات، طبقا لرهائن سابقين ومسؤولين بارزين في مكافحة الإرهاب.
تتضمن خطة أعمالهم عملية تفاوضية بطيئة، تبدأ بفترات صمت طويلة تهدف إلى إثارة الذعر في الوطن. ثم يظهر الرهائن على مقاطع الفيديو يتوسلون إلى حكوماتهم من أجل التفاوض.
وعلى الرغم من تهديد الخاطفين بقتل ضحاياهم، كشفت مراجعة لحالات معروفة عن أن نسبة ضئيلة من الرهائن، التي اختطفتهم الأفرع التابعة لتنظيم القاعدة، هي التي تعرضت للإعدام خلال السنوات الخمس الماضية، وهو تحول ملحوظ من عقد مضى، حينما كانت مقاطع الفيديو تظهر عمليات قطع رؤوس الأجانب التي نفذتها الأفرع التابعة للتنظيم في العراق والتي كانت ترفع بانتظام على شبكة الإنترنت. أما الآن فقد أدركت الجماعة أنه يمكنها المضي قدما في قضية الجهاد عن طريق الاحتفاظ بالرهائن أحياء ومقايضتهم مقابل السجناء وحقائب الأموال.
ولم تقاوم دفع الفدى إلا حفنة قليلة من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
على الرغم من أن هاتين الدولتين قد تفاوضتا مع الجماعات المتطرفة - وهو الأمر الثابت مؤخرا حيال مبادلة الولايات المتحدة لسجناء من طالبان مقابل الرقيب باو بريغدال - إلا أنهما قد اتخذتا موقفا صارما في ما يتعلق بدفع الفدى.
وكان لذلك القرار عواقبه الوخيمة. ففي حين جرى الإفراج عن عشرات الأوروبيين من دون تعرضهم للأذى، فإن القليل من المواطنين الأميركيين أو البريطانيين الذين خرجوا من تلك الأزمات على قيد الحياة. وقد استطاعت قلة محظوظة منهم الفرار هاربين، أو جرا إنقاذهم بواسطة عمليات للقوات الخاصة. وجرى إعدام الباقين أو ظلوا محتجزين لآجال غير مسماة.
وقالت فيكي هادلستون، النائبة السابقة لوزير الدفاع الأميركي للشؤون الأفريقية، والتي كانت تشغل منصب سفيرة الولايات المتحدة في مالي في عام 2003 إبان السداد الألماني للفدية الأولى سالفة الذكر: «لدى الأوروبيين الكثير من التساؤلات محل الإجابة. إنها سياسة مزدوجة بالكامل. إنهم يدفعون الفدى، ثم ينكرون أي صلة لهم بالأمر. والخطر من وراء ذلك لا يكمن فقط في نمو خطر الحركة الإرهابية، بل يعرض كافة مواطنينا لخطر الاختطاف كذلك».

حادثة السائحين
في 23 فبراير (شباط) 2003، كانت مجموعة من السائحين السويسريين، من بينهم اثنتان من النساء يبلغن من العمر 19 عاما، قد استيقظوا من أكياس نومهم على صيحات الرجال المسلحين في جنوب الجزائر. وقد أمر الرجال النساء الشابات بتغطية شعورهن بالمناشف، ثم استولوا على شاحنتهم المغلقة واختفوا معهم.
وعبر الأسابيع التالية، اختفت سبع مجموعات سياحية في نفس الزاوية الصحراوية. وسارعت الحكومات الأوروبية للعثور على مواطنيها المفقودين.
ثم مرت أسابيع قبل عودة طائرة استطلاع ألمانية، كانت قد أرسلت لمسح الأراضي الصحراوية، بصور للسيارات المهجورة. ثم مرت أسابيع أخرى قبل عثور بعثة كشفية على الأقدام، كانت قد أرسلت لتفقد المكان، على شيء أبيض من خلال النظارات الميدانية.

رسالة تحت صخرة
كانت رسالة مكتوبة بخط مضطرب، توضح مطالب الجماعة الجهادية غير المعروفة التي تطلق على نفسها الجماعة السلفية للدعوة والقتال.
استطاع الخاطفون المسلحون بعدد قليل من بنادق (AK - 47) الهجومية في السيطرة على عشرات السائحين عبر أسابيع متتالية، ومعظمهم من ألمانيا، وكذلك من سويسرا، والنمسا، والسويد، وهولندا. وعلى الرغم من أنهم خططوا للكمائن القليلة الأولى، فإنه يبدو أنهم اختطفوا بقية السائحين عن طريق المصادفة، مثل زوج من التعساء البالغين 29 عاما من إنسبروك بالنمسا، واللذين عثر عليهما بسبب إشعالهما النار من أجل طهي بعض المعكرونة.
وعقب عملية الاختطاف الأولى، لا يبدو أنه كانت لدى الخاطفين خطة. وكان الغذاء الوحيد الذي تناولوه من الأطعمة المعلبة التي كانت بحوزة السائحين. وما كان معهم من وقود إلا الموجود في كل خزان بكل سيارة. وقد تخلوا عن السيارات واحدة تلو الأخرى كلما نفد وقودها، مما أجبر الرهائن على المضي سيرا على الأقدام.
ويتذكر الرهينة السويدي، هارالد إيكلر، البالغ من العمر 47 عاما، شعوره بجوع شديد حتى إنه لم يعثر على القليل من فتات كعكة الزبد الدنماركية، لملمها بعناية بالغة على راحة يديه، ثم تركها تذوب في فمه.
وقال ريتو والتر من إنترسيجينتال في سويسرا، والذي كان ضمن أوائل المجمعات التي تعرضت للاختطاف «بمجرد ما اختطفونا، لم يكونوا يعلمون ماذا سيفعلون بنا. فقد كانوا يرتجلون أفعالهم».
وعلى الرغم من الطبيعة غير المحترفة لتلك العملية، فإن الجهاديين كانوا في موقف ضعيف. فلم يقاومهم أحد من الرهائن قط، فقد رفعوا أيديهم بمجرد رؤيتهم للرجال المسلحين. وعلى الرغم من زيادة عدد الأوروبيون على خاطفيهم، فإن الرهائن لم يحاولوا الفرار قط خلال فترة الأسر التي امتدت لستة شهور لبعضهم، ووصفت الصحراء المحيطة بهم من كل جانب بأنها «سجن الهواء الطلق».
وعلى نحو حاسم، وعلى الرغم من تفوق القوة النيرانية الأوروبية على المسلحين المتفرقين، فإن الدول الأوروبية عدت مهمة الإنقاذ من الخطورة بمكان.
طالب الخاطفون بالسلاح. ثم تقدموا بمطالب يستحيل تنفيذها سياسيا، مثل إسقاط الحكومة الجزائرية. وعندما توفيت امرأة ألمانية من الرهائن تبلغ 45 عاما من العمر بسبب الجفاف، بدا المسؤولون الأوروبيون ينظرون في تقديم الفدية تحت غطاء المساعدات الدولية كأحد الخيارات الأقل خطرا.
وقال أحد السفراء الأوروبيين الذين كانوا في الجزائر بتلك الفترة، والذي كان واحدا من ستة كبار مسؤولين غربيين من ذوي المعرفة المباشرة لحادثة الاختطاف التي جرت عام 2003 والذي أكد تفاصيل هذه المقالة: «قال لنا الأميركيون مرارا وتكرارا ألا ندفع الفدية. وقلنا لهم، إننا لا نريد دفع الفدية. ولكننا لا يمكننا فقدان مواطنين كذلك». هذا وقد تحدث الجميع شريطة عدم الكشف عن هويتهم نظرا لسرية المعلومات التي يدلون بها.
وأضاف: «لقد كان موقفا عصيبا للغاية. ولكن في نهاية الأمر، إننا نتحدث عن حياة البشر».
ولم تمر أفعال مجموعة مجاهدي الصحراء مرور الكرام.
بعد عام، وفي 2004، نشر عبد العزيز المقرن، وهو من رجال تنظيم القاعدة دليلا حول كيفية تنفيذ عمليات اختطاف الرهائن، أوضح فيه مفاوضات الفدية الناجحة لإخوانهم في الجزائر. لكنه وفي ذات الوقت، أشاد بعملية إعدام دانيال بيرل مراسل جريدة «وول ستريت جورنال»، والذي كان قد اختطف في باكستان في عام 2002 وقطع رأسه عقب تسعة أيام من خطفه على يد خالد شيخ محمد، أحد كبار أعضاء تنظيم القاعدة والذي يعتقد بأنه مهندس تخطيط أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
وفي غضون بضع سنوات، كان هناك انقسام داخل تنظيم القاعدة، حيث عمد فرع «القاعدة» في العراق على اختطاف الأجانب فقط لإعدامهم.
في الجزائر، اتبع خاطفو السائحين الأوروبيين مسارا مغايرا.
فقد استخدموا مبلغ الفدية وقدره خمسة ملايين يورو لتمويل حركتهم الناشئة، وتجنيد وتدريب المقاتلين الذين نظموا سلسلة من الهجمات المدمرة. ثم تحولوا إلى قوة إقليمية ثم جرى اعتمادهم كفرع رسمي لشبكة تنظيم القاعدة، تحت اسم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب. وبتحول إيرادات عمليات الاختطاف إلى مصدر التمويل الرئيس بالنسبة لهم، فإنهم وفقا لذلك صقلوا وحسنوا من أساليب عملياتهم.
بحلول الثاني من فبراير عام 2011، عندما رصدت نقاط المراقبة في جنوب الجزائر سائحة إيطالية تبلغ من العمر 53 عاما، ماريا ساندرا مارياني، التي أعجبت كثيرا بالكثبان الرملية من خلال نظارتها الميدانية، كان الخاطفون ينفذون عملية اختطاف ناعمة.
كان مرشدها السياحي هو أول من اكتشفهم، فصرخ عليها لكي تفر. وبمجرد ما أسرعت سياراتهم نحو سيارتها، ركضت إلى أحد المنازل الصحراوية القريبة وأغلقت على نفسها الباب. ولم تكن تستطيع فعل شيء سوى المكوث في سكون حال اقتحامهم باب المنزل عليها. ثم ألقوا بها في سيارة بالخارج، وكبلوا أيديها إلى لوحة القيادة. قبل أن ينطلقوا مغادرين، حرصوا على وضع بطانية رحلات بالقرب منها، حتى لا يتصل جسدها بجسد الجهادي الجالس بجانبها.
سألتهم المرأة: «من أنتم؟».
فأجابوها: «نحن القاعدة».
إذا كانت مهام الاختطاف السابقة كانت تفتقر إلى خطط مدروسة، فإن خاطفي مارياني، ولأيام عدة، كان يبدو عليهم أنهم يسيرون وفق طريق معروف. فكلما انخفض مخزون الوقود لديهم، كانوا ينطلقون إلى بقعة لا تبدو إلى المرأة أنها تختلف كثيرا عن غيرها من البقع تحت ضوء قمر المساء.
وتحت شجيرات شوكية، فإنهم يعثرون على برميل يمتلئ بالبنزين. أو كومة من الإطارات حيث يمكنهم استبدال الإطار المثقوب لديهم. ولم ينفد منهم الطعام أبدا.
وسوف تعلم مارياني لاحقا أنهم يمتلكون بنية تحتية من المؤن المدفونة في الرمال والتي تحمل علامات لإحداثيات نظام التموضع العالمي.
بعد ظهر أحد الأيام، توقفوا فوق لسان لأحد الكثبان الرملية، انحدر المقاتلون لأسفل وخلعوا مجرفة من السيارة. ثم سمعت صوت محرك سيارة. وفجأة، خرجت شاحنة صغيرة ومحركها يزمجر، لقد دفنوا سيارة بكاملها في جبل من الرمال.
قالت مارياني: «وقتها فقط أدركت أنهم ليسوا مجرمين عاديين».

أصوات الصمت
مرت أسابيع قبل أن يعلن خاطفو مارياني أنهم سوف يسمحون لها بإجراء مكالمة هاتفية. وقادوا السيارة لساعات قبل التوقف عند هضبة من الهضاب، كانت أرضا بيضاء ترابية مسطحة.
وقبل سنوات، كانت استراتيجيتهم لإرسال مطالبهم تتمثل في ترك رسالة تحت إحدى الصخور. أما الآن فلديهم هواتف الأقمار الصناعية وقائمة من الأرقام. أعطوها نصا مكتوبا ثم اتصلوا برقم قناة «الجزيرة».
قالت السيدة: «اسمي ماريا ساندرا مارياني. إنني مواطنة إيطالية تعرضت للاختطاف. وإنني قيد الاحتجاز من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
سارعت الحكومة الإيطالية إلى إنشاء وحدة أزمات، بما في ذلك خط ساخن على مدار 24 ساعة للإبلاغ عن الخاطفين.
أثناء فترة اختطافها لمدة 14 شهرا، كلما شعر الخاطفون أن الاهتمام قد انخفض، نصبوا خيمة في الصحراء وأجبروا مارياني على تسجيل رسالة فيديو، تظهرها محاطة بخاطفيها المسلحين.
وأفاد 11 رهينة سابقون، أمسك بهم وحدات من «القاعدة» في الجزائر ومالي والنيجر واليمن وسوريا ممن وافقوا على إجراء حوارات معهم بشأن هذا الموضوع، عن مجموعة مماثلة من الخطوات التي كانت تتخذ في المفاوضات، تبدأ بفترة صمت. لم يكن تسجيل رسائل فيديو والقيام بمكالمات هاتفية شيئا متكررا، كان يجري ذلك غالبا بعد عدة أشهر. بدا أن هناك غرضا وراء ذلك الصمت، حيث كان يهدف إلى ترويع عائلات الأسرى، الذين كانوا بدورهم يضغطون على حكوماتهم.
وفي قرية سان كاسيانو الإيطالية في فال دي بيسا، توقفت أم مارياني التي تبلغ من العمر 80 عاما عن النوم في غرفة نومها، وانتقلت للنوم بشكل دائم على أريكة أمام التلفزيون. وكان والدها الطاعن في العمر ينفجر باكيا من دون سبب. وفي فرنسا، أصيب شقيق الرهينة التي حجزت لمدة عام في سوريا بقرحة.
وفي جميع أنحاء أوروبا، احتشدت الأسر للضغط على الحكومات حتى تدفع المال لتحرير ذويهم. وأفرج في نهاية المطاف عن مارياني بالإضافة إلى اثنين من الرهائن الإسبانيين بفدية وصلت إلى نحو ثمانية ملايين يورو حسبما أفاد به أحد المفاوضين المشاركين في قضيتها.

الرقابة التي تفرضها «القاعدة»
انتقاد بلمختار لقبوله مبلغا هزيلا
الجزء الأكبر من عمليات الخطف مقابل فدية نفذ باسم تنظيم «القاعدة» في أفريقيا، وحديثا في اليمن وسوريا. هذه المناطق تبعد بآلاف الأميال عن القيادة المركزية للشبكة الإرهابية في باكستان. والآن يصدر التنظيم رسائل صوتية، فضلا عن خطابات سرية بين القادة تشير إلى أن كبار قادة التنظيم يشاركون مباشرة في المفاوضات.
وفي أوائل عام 2008، أغضب قائد احتجز دبلوماسيين كنديين قادته نظرا لتفاوضه على الفدية من تلقاء نفسه، حيث جاء في رسالة اكتشفها هذا المراسل عندما كان في مهمة عمل لوكالة أسوشييتد برس في مالي العام الماضي، أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ألقى باللوم على القائد مختار بلمختار لحصوله على «مبلغ هزيل» وصل إلى 700 ألف يورو (أي بما يعادل نحو مليون دولار)، وينسبون السبب في ذلك إلى عدم رغبته في اتباع التعليمات من القيادات في باكستان.
تحدث أسامة بن لادن في آخر تسجيل له قبل وفاته في عام 2011 حديثا مطولا عن حالة أربعة مواطنين فرنسيين تحتجزهم «القاعدة» في مالي، مما يجعل من الواضح أنه كان يتابع عن كثب عمليات الخطف الفردية.
ويقول الرهائن الذين كانوا محتجزين في الآونة الأخيرة من العام الماضي في اليمن إنه كان من الواضح أن المفاوضات كان تجري بواسطة قيادة بعيدة.
آت وليلى كاليفا، اثنان فنلنديان احتجزا لمدة خمسة أشهر من قبل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في عام 2013، استنتج ذلك من الكم الهائل من المراسلات التي رأوها وهي تسلم إلى خاطفيهم.
قال آت كاليفا: «كان هناك الكثير من الرسائل الصادرة والواردة». وأضاف: «كان من الواضح أن لديهم تسلسلا هرميا، وكانوا يستشيرون قادتهم حول ما يجب فعله معنا».

سلعة ذات قيمة
كان التهديد بالإعدام يحوم حول كل رهينة في ظل العشرات من عمليات الاختطاف التي تنفذها «القاعدة»، حيث كان يظهر الضحية في مقاطع الفيديو محاطا بحراس جهاديين مسلحين. في الواقع، قلة من الرهائن جرى إعدامهم أو قضوا نحبهم منذ عام 2008، بنسبة لم تتخط نحو 15 في المائة كثير منهم ماتوا أثناء عمليات إنقاذ فاشلة، وفقا لتحليل أجرته صحيفة الـ«تايمز».
أصبح الرهائن يمثلون قيمة كبيرة نظرا للدخل المحتمل الذي يجلبونه للتنظيم. ففي عام 2012 كتب الرجل الذي كان السكرتير الشخصي لأسامة بن لادن والذي أصبح الآن ثاني رجل في قيادة تنظيم القاعدة، رسالة إلى زملائه الجهاديين في أفريقيا، قال فيها إن ما لا يقل عن نصف ميزانيته في اليمن كان بتمويل من الفدية.
وكتب ناصر الوحيشي، زعيم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية: «بفضل الله، معظم تكاليف المعارك، إن لم يكن كلها، كانت تدفع من خلال الغنائم». وأضاف: «جاء ما يقرب من نصف الغنائم من الرهائن».
أدرك آت كاليفا أن خاطفيه لم يكونوا عازمين على قتله عندما مرض بعدوى الجيارديا، حيث أحضر خاطفوه القلقون الدواء فورا.
وعندما أصيبت مارياني بالدوسنتاريا الشديدة في رمال الصحراء المالية الحارقة، قام طبيب جهادي بتعليق محاليل وريدية لها وقام بتمريضها حتى تماثلت للشفاء.
وفي مكان آخر في الصحراء، نقل الجهاديون أدوية مخصصة لامرأة فرنسية تبلغ من العمر 62 عاما مصابة بسرطان الثدي.
قال كاليفا: «كان واضحا لنا أننا أكثر قيمة عندهم ونحن على قيد الحياة وليس ونحن أموات». ولكن الرهائن الذين لا تدفع بلادهم الفدية يواجهون مصيرا قاسيا. ففي عام 2009، استولى خاطفون على سيارة أربعة سياح لدى عودتهم إلى النيجر من حفل موسيقى أقيم في مالي وأطلقوا النار على إطاراتها. كان من بين الرهائن امرأة ألمانية، واثنان سويسريان، ورجل بريطاني يدعى إدوين داير يبلغ من العمر 61 عاما.
ومنذ بداية المفاوضات، أكدت الحكومة البريطانية أنها لن تدفع نظير إطلاق سراح داير. وعليه فقد أصدر فرع تنظيم القاعدة بشمال أفريقيا مهلة، ثم جرى تمديدها 15 يوما أخرى.
قال أحد المفاوضين في بوركينا فاسو، الذي كان يعد وسيطا: «أراد البريطانيون مني أن أرسل رسالة مفادها أنهم لن يدفعوا». وأضاف: «لقد حذرتهم بألا يفعلوا ذلك. ولكنهم أرسلوا الرسالة على أي حال».
بعدها بفترة نشر المكتب الإعلامي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بيانا جاء فيه: «إنه في يوم الأحد الموافق 31 مايو (أيار) من عام 2009، في تمام الساعة 19:30 بالتوقيت المحلي، قتل الأسير البريطاني إدوين داير». وأضاف البيان: «يبدو أن بريطانيا لا تولي مواطنيها اهتماما كبيرا».
وجرى الإفراج عن المواطنين السويسريين والألمان الذين جرى احتجازهم مع داير بعد دفع فدية وصلت قيمتها إلى ثمانية ملايين يورو، وفقا لما أفاد به أحد المفاوضين السويسريين الذين ساعدوا في إنجاح عملية الإفراج عنهم. وفي نفس العام، صوت المشرعون في برن على إقرار ميزانية وطنية «جلبت خطا إضافيا للمساعدات الإنسانية لمالي بصورة مفاجأة»، حسبما قال المسؤول.
كان داير مواطنا بريطانيا، لكنه أمضى العقود الأربعة الأخيرة من حياته في النمسا، أحد البلاد التي تدفع الفدية. استقر بعد تخطيه العشرين من عمره في قرية جبلية على مسافة ساعة بالسيارة من منزل زوجين نمساويين أفرج عنهما في مالي قبل بضعة أشهر بينما قتل داير. دفعت النمسا مليوني يورو لخاطفي الزوجين من تنظيم القاعدة، وفقا لإبراهيم أغ الصالح، عضو برلماني في مالي تفاوض للإفراج عنهما.
وقال هانز شقيق داير الحزين، إن جنسية أخيه كلفته حياته. إن «جواز سفر المملكة المتحدة هو في جوهره شهادة وفاة»، على حد تعبيره.

دور أوروبا الضخم
يعتقد المفاوضون أن فروع تنظيم القاعدة قد حددت الآن الحكومات التي تدفع.
اختطفت فروع تنظيم القاعدة الرسمية خلال السنوات الخمس الماضية 53 رهينة، ثلثهم فرنسيون. ودول صغيرة مثل النمسا وسويسرا وإسبانيا، والتي لم يكن لديها جاليات كبيرة في البلدان التي تحدث فيها عمليات الخطف، بما يعادل أكثر من 20 في المائة من الضحايا.
وعلى النقيض، لم يختطف سوى ثلاثة أميركان على يد تنظيم القاعدة أو الشركات التابعة لها مباشرة، وهو ما يمثل خمسة في المائة فقط من إجمالي المختطفين.
وقال جان بول رويلر، خبير ومدير بمركز جنيف للتدريب وتحليل الإرهاب، حيث ساعد في إعداد برنامج سويسرا لمكافحة الإرهاب.. «بالنسبة لي، من الواضح أن القاعدة تستهدفهم حسب الجنسية». وأضاف: «الرهائن يعدون استثمارا، وأنت لن تخطط للاستثمار إلا إذا كنت متأكد جدا من تحصيل التعويضات».
وقال كوهين، وكيل الولايات المتحدة للإرهاب والاستخبارات المالية، افترضت المعلومات التي جمعتها وزارة الخزانة أن «القاعدة» ربما لم تعد ترغب في خطف الأميركيين، وهو تحول جذري عما كان عليه الوضع قبل عقد من الزمان. وقال في خطاب ألقاه عام 2012 في مؤسسة «تشاتهام هاوس» البحثية في لندن: «إننا نعلم أن محتجزي الرهائن الذين يسعون وراء تقاضي الفدية يميزون بين تلك الحكومات التي تدفع الفدية وتلك التي لا تدفع، وما يثبت ذلك هو أنهم لا يأخذون رهائن من تلك الدول التي لا تدفع». وأضاف: «تشير الاتجاهات الأخيرة للاختطاف مقابل الفدية إلى أن الخاطفين يفضلون عدم أخذ رهائن من الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، يكاد يكون ذلك مؤكدا لأنهم يفهمون أنهم لن يحصلوا على الفدية».
وقَّعت الكثير من الدول الغربية اتفاقيات تدعو إلى وضع حد لدفع الفدية، بما في ذلك قمة مجموعة الثماني التي عقدت العام الماضي، حيث وقع أكبر دافعي الفدية في أوروبا على إعلان يقضي بإنهاء تلك الممارسة. على الرغم من ذلك لا تزال الحكومات في أوروبا - خاصة فرنسا وإسبانيا وسويسرا - مسؤولة عن بعض المدفوعات الكبرى، بما في ذلك فدية قدرها نحو 40 مليون دولار دفعت في الخريف الماضي لتحرير أربعة فرنسيين في مالي، وفقا للرهائن المفرج عنهم هذا العام والمفاوضين المخضرمين.
وقال مستشار رئاسي في بوركينا فاسو قام بالمساعدة في تأمين الإفراج عن الكثير من الغربيين المحتجزين في الصحراء، إنه يتعامل بشكل روتيني مع الدبلوماسيين الغربيين العدوانيين الذين يطالبون بالإفراج عن مقاتلي تنظيم القاعدة المحتجزين في السجون المحلية في محاولة لتأمين الإفراج عن رهائنهم، وهو أحد المطالب الإضافية التي يشترطها الخاطفون في كثير من الأحيان.
وأضاف: «إن الضغط الذي يمارسه الغرب للتأثير على البلدان الأفريقية لا يمكن تصديقه». وأوضح: «أنتم الغرب من تمثلون لهم شريان الحياة. أنتم من يمولونهم».
وأشار إلى أن حقائب الأموال لم تعد تلقى في عاصمة البلد المعني.
وذهب المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، إلى حد وصف كيفية نقل المال. وقال إن الحكومات الأوروبية ترسل مرافقا يسافر بالمال مئات الأميال في الصحراء حتى آخر مخفر آمن، ويغادر عادة من واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، أو نيامي في النيجر. ويقول المسؤول إن المفاوض وسائقه يواصلان بعد ذلك القيادة طوال النهار، وأحيانا طوال الليل، ويعبران الكثبان المتموجة.
وبمجرد وصول المفاوض إلى نقطة الالتقاء، ينتظر حتى يصل إلى هاتفه الذي يعمل عبر الأقمار الصناعية رسالة نصية. وفي الرسالة يجد إحداثيات «جي بي إس». ثم يقود السيارة خمس إلى ست ساعات أخرى حتى يصل إلى العنوان الجديد في الصحراء، وينتظر الرسالة النصية التالية التي تحتوي على مجموعة أخرى من الإحداثيات. تتكرر تلك العملية ما لا يقل عن ثلاث مرات، حتى يظهر الجهاديون بأنفسهم في نهاية المطاف.
يجرى عد المال على بطانية يجلس عليها المقاتلون القرفصاء وبنادقهم إلى جانبهم، حسب ما قاله المسؤول. ثم يجري تقسيم الملايين في مخابئ، ملفوفة في البلاستيك ومدفونة في حفر تبعد مئات الأميال عن بعضها البعض، وأوضح المسؤول أنه تمكن من جمع تلك التفاصيل جراء اللقاءات المتكررة مع الخلايا الإرهابية. إنهم يقومون بتحديد تلك المواقع باستخدام إحداثيات الـ«جي بي إس»، ويحفظون أماكنها بنفس الطريقة التي تجري مع السيارات وبراميل الوقود المدفونة.
وفي اليمن، تكون قطر وسلطنة عمان هما الوسيطان اللذان يدفعان الفدية نيابة عن الحكومات الأوروبية، بما في ذلك أكثر من 20 مليون دولار لتحرير مجموعتان من الرهائن العام الماضي، وفقا لمسؤولين أوروبيين ويمنيين.
اعتقدت ماريا ساندرا مارياني التي قبعت في الأسر لمدة عام في 2012 أنها لن تتمكن من استرداد حريتها مرة أخرى. كان خاطفوها يحملونها على سطح من الغرانيت الأسود في شمال مالي، حيث تصل درجات الحرارة إلى درجة خانقة. عندما كانت الرياح تهب، كانت تشعر كما لو أن شخصا يحمل مجفف شعر قرب جلدها. أمضت يوما كاملا بجانب دلو من الماء وظلت ترش نفسها بالماء في محاولة منها للحفاظ على درجة برودة جسدها.
أخبرت حارسها بأن عائلتها المتواضعة، التي تربي أشجار الزيتون في تلال أعلى فلورنسا، ليس لديهم المال، وأن حكومتها رفضت دفع الفدية.
فأعاد آسرها وطمأنها قائلا: «تقول حكوماتكم دائما إنها لا تدفع، ولكنني أريدك أن تخبري قومك عندما تعودين أن حكومتك تدفع في نهاية المطاف. إنهم يدفعون دائما».
* خدمة {نيويورك تايمز}



إردوغان يعرض وساطة لحل الخلاف بين السودان والإمارات

من لقاء سابق بين إردوغان والبرهان في أنقرة (الرئاسة التركية)
من لقاء سابق بين إردوغان والبرهان في أنقرة (الرئاسة التركية)
TT

إردوغان يعرض وساطة لحل الخلاف بين السودان والإمارات

من لقاء سابق بين إردوغان والبرهان في أنقرة (الرئاسة التركية)
من لقاء سابق بين إردوغان والبرهان في أنقرة (الرئاسة التركية)

عرض الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وساطة بلاده لحل الخلاف بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة على غرار ما قامت به لتسوية الأزمة بين الصومال وإثيوبيا حول اتفاق الأخيرة مع إقليم أرض الصومال على استخدام ساحلها على البحر الأحمر.

وقال إردوغان، في اتصال هاتفي، الجمعة، مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، إن «بإمكان تركيا التوسط لحل الخلاف بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة». وبحسب بيان للرئاسة التركية، تناول إردوغان مع البرهان، خلال الاتصال الهاتفي، العلاقات بين تركيا والسودان، وقضايا إقليمية وعالمية، وأكد أن تحقيق السلام والاستقرار في السودان والحفاظ على وحدة أراضيه وسيادته ومنع تحوله إلى ساحة للتدخلات الخارجية، من المبادئ الأساسية لتركيا.

ولفت إردوغان، بحسب البيان، إلى أن تركيا توسطت لحل الخلاف بين الصومال وإثيوبيا، وأن الاتفاق بين البلدين سيساهم في السلام بالمنطقة.

اتهامات متبادلة

ودأب قادة الجيش السوداني على اتهام دولة الإمارات العربية المتحدة، بدعم قوات «الدعم السريع» وتزويدها بالأسلحة والمعدات. وتقدم مندوب السودان في الأمم المتحدة الحارث إدريس الحارث، بشكوى رسمية ضدها، واتهمها بالتخطيط لإشعال الحرب ودعم «قوات الدعم السريع» بمساعدة من تشاد، طالباً إدانتها، بيد أن أبوظبي فندت تلك الاتهامات ووصفتها بأنها "ادعاءات لا أساس لها من الصحة، وتفتقر للأدلة الموثوقة.

وفي المقابل وجهت دولة الإمارات رسالة إلى مجلس الأمن في 21 أبريل (نيسان)، شددت خلالها على أن نشر المعلومات المضللة والروايات الزائفة، يرمي إلى التهرب من المسؤولية، وتقويض الجهود الدولية الرامية إلى معالجة الأزمة الإنسانية في السودان بعد عام من الصراع بين الجيش و«قوات الدعم السريع». وأكدت أنها «ستظل ملتزمة بدعم الحل السلمي للصراع في السودان، ودعم أي عملية تهدف إلى وضع السودان على المسار السياسي للتوصل إلى تسوية دائمة، وتحقيق توافق وطني لتشكيل حكومة بقيادة مدنية».

الشيخ محمد بن زايد وعبد الفتاح البرهان في أبو ظبي 14 فبراير (أ.ف.ب)

وفي يوليو (تموز) الماضي، بحث رئيس الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في اتصال هاتفي، مع رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، «سبل دعم السودان للخروج من الأزمة التي يمر بها»، وأكد حرص دولة الإمارات على دعم جميع الحلول والمبادرات الرامية إلى وقف التصعيد وإنهاء الأزمة في السودان.

تعهدات تركية للبرهان

ووفقاً لنشرة صحافية صادرة عن مجلس السيادة السوداني، فإن الرئيس إردوغان تعهد للبرهان باستمرار تدفق المساعدات الإنسانية التركية للسودان، وباستئناف عمل الخطوط الجوية التركية قريباً، وباستعداد بلاده لتعزيز العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتعاون في الزراعة والتعدين.

وذكر السيادي أن البرهان أشاد بمواقف تركيا «الداعمة للسودان»، وجهودها من أجل السلام والاستقرار في المنطقة والإقليم، ودورها في معالجة الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، ودورها في الملف السوري، مبدياً ترحيبه بأي دور تركي لوقف الحرب «التي تسببت فيها ميليشيا الدعم السريع المتمردة». ودعا البرهان لتعزيز الاستثمارات التركية في مختلف المجالات، مؤكداً ثقته في مواقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحكومته الداعمة للشعب السوداني وخياراته.

ويرى مراقبون أن الاتصال الهاتفي بين إردوغان والبرهان في هذا التوقيت يأتي في ظل متغيرات وترتيبات جديدة في المنطقة تشمل السودان، بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.

ومنذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، يخوض الجيش السوداني البرهان، و«قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حرباً خلفت أكثر من 20 ألف قتيل، وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.

حضور تركي في القرن الأفريقي

وقطعت تركيا، الأربعاء الماضي، خطوة كبيرة على طريق حل النزاع بين الصومال وإثيوبيا، بعد جولات من المباحثات بين الطرفين في إطار ما عرف بـ«عملية أنقرة»، يراها مراقبون ترسيخاً للحضور التركي القوي في منطقة القرن الأفريقي.

إردوغان يتوسط الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي خلال مؤتمر صحافي في أنقرة مساء الأربعاء الماضي (الرئاسة التركية)

وأعلن الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، ورئيس الوزراء الصومالي، آبي أحمد، في مؤتمر صحافي مع إردوغان مساء الأربعاء، أعقب 8 ساعات من المفاوضات الماراثونية سبقتها جولتان من المفاوضات في أنقرة في الأشهر الماضية، أنهما قررا بدء المفاوضات الفنية بحسن نية بحلول نهاية فبراير (شباط) 2025 على أبعد تقدير، والتوصل إلى نتيجة منها والتوقيع على اتفاق في غضون 4 أشهر، بحسب ما ورد في «إعلان أنقرة». وقبل الطرفان العمل معاً على حل نزاع حول خطة أديس أبابا لبناء ميناء في منطقة أرض الصومال الانفصالية، التي تسببت في زيادة زعزعة استقرار منطقة القرن الأفريقي.

وقال إردوغان إن البلدين الجارين توصلا، في ختام مفاوضات جرت بوساطته في أنقرة، إلى اتفاق «تاريخي» ينهي التوترات بينهما.

وبحسب نص إعلان أنقرة، الذي نشرته تركيا، اتفق البلدان على «التخلّي عن الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، والتقدّم بحزم في التعاون نحو رخاء مشترك، والعمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولاً إلى البحر «موثوقاً به وآمناً ومستداماً تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفيدرالية».

وأعرب إردوغان عن قناعته بأنّ الاتفاق سيضمن وصول إثيوبيا إلى البحر، قائلاً: «أعتقد أنه من خلال الاجتماع الذي عقدناه سيقدّم أخي شيخ محمود الدعم اللازم للوصول إلى البحر لإثيوبيا».

إردوغان مع الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي عقب توقيع إعلان أنقرة (الرئاسة التركية)

وتدخلت تركيا في النزاع بطلب من إثيوبيا، التي وقعت في الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي اتفاقية مع منطقة «أرض الصومال»، التي أعلنت انفصالها عن الصومال عام 1991، لكن لم تحظ باعتراف المجتمع الدولي، وتشمل النقل البحري واستخدام ميناء بربرة على البحر الأحمر، واستغلال 20 كيلومتراً من ساحل أرض الصومال لمدة 50 عاماً مقابل الاعتراف باستقلالها عن الصومال، مع منحها حصة من شركة الخطوط الجوية الإثيوبية.

ترحيب دولي

ورحب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال لقائه إردوغان في أنقرة، ليل الخميس – الجمعة، بنجاح تركيا في التوصل إلى اتفاق بين الصومال وإثيوبيا. كما رحب الاتحاد الأوروبي بالاتفاق، وأشاد بدور الوساطة الذي لعبته تركيا بهذا الخصوص.

وترتبط تركيا بعلاقات قوية بإثيوبيا، كما أصبحت حليفاً وثيقاً للحكومة الصومالية في السنوات القليلة الماضية. وافتتحت عام 2017 أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج في مقديشو، وتقدم تدريباً للجيش والشرطة الصوماليين.

وبدأت في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أنشطة المسح الزلزالي للنفط والغاز الطبيعي في 3 مناطق مرخصة في الصومال تمثل كل منها مساحة 5 آلاف كيلومتر مربع، بموجب مذكرة تفاهم وقعت بين البلدين في مارس (آذار) الماضي، لتطوير التعاون في مجال النفط والغاز الطبيعي.

وجاء توقيع المذكرة بعد شهر واحد من توقيع اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي، تقدم تركيا بمقتضاها دعماً أمنياً بحرياً للصومال، لمساعدته في الدفاع عن مياهه الإقليمية لمدة 10 سنوات.