الجاذبية الأرضية.. ذلك السر الكبير

العلماء يجاهدون لفهمها

الجاذبية الأرضية.. ذلك السر الكبير
TT

الجاذبية الأرضية.. ذلك السر الكبير

الجاذبية الأرضية.. ذلك السر الكبير

بعد فترة ليست طويلة من قصف مدينتي نغازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية، وبينما كان العالم يحسب الف حساب لشبح الطاقة النووية هذه، كان رجل أعمال يدعى روجر بابسون مهتما بقوة أخرى من قوى الطبيعة، تدعى الجاذبية.

* الجاذبية المدمرة
لقد مضت 55 سنة على غرق شقيقته في نهر أنسكوام بغلوستر في ولاية ماساتشوستس بأميركا، عندما قامت قوة الجاذبية، كما يصف ذلك بابسون: «بالإمساك بها كالوحش الكاسر وجرها إلى الأعماق». وفي وقت لاحق، أخذ هذا الوحش حفيده أيضا إلى مصيره القاتم، بينما كان يحاول إنقاذ صديقه خلال رحلة بحرية مأساوية.
إذن، لا بد من عمل ما، و«لا بد أيضا من اكتشاف (عازل) ولو جزئي يمكن استخدامه لإنقاذ الملايين من الأرواح، ومنع مثل هذه الحوادث»، كما كتب بابسون في بيان له: «فالجاذبية هي عدونا رقم واحد». وفي عام 1949، معولا على ثروته الكبيرة، بدأ بتأسيس مؤسسة تعنى بأبحاث الجاذبية، وشرع يوزع جوائز نقدية سنوية لمكافأة أفضل أصحاب الأفكار الجديدة، بغية إيلاء المسألة مزيدا من الاهتمام.
لكن كل الأفكار انتهت إلى الفشل الذريع. وفي الوقت الذي جرى فيه الإعلان عن جوائز العام الحالي في الشهر الماضي، لم تعد المؤسسة تأمل التغلب على الجاذبية، لأنها تشكل أحد أركان الزمن الفضائي. ولفهم هذه المسألة أكثر، فالذي ابتدئ به كمسعى صعب، أخذ يتحول إلى مسعى طبيعي. وعلى مر السنين شملت قائمة الفائزين بالجوائز أشخاصا من أمثال ستيفن هوكنغ، فريمان دايسون، روجر بنروز، ومارتن ريس.

* قوى الطبيعة
وعبر نظريته النسبية العامة، وصف أينشتاين الجاذبية بأناقة وبعبارات منمقة لم يتمكن أحد من المجيء بأفضل منها. فكتلة مثل الشمس، تجعل الكون ينثني جاعلا الكتل الأخرى الأصغر حجما مثل الكواكب تتجه إليها.
لكن المشكلة هي أنه قد جرى وصف القوى الثلاث الأخرى في الطبيعة بأسلوب مختلف تماما، عن طريق ميكانيكا الكم. ففي هذا النظام، يجري نقل القوى عبر الأجزاء، والفوتونات (وحدات الكم الضوئي) التي هي أفضل مثال مألوف، هي الحاملة للضوء. وبالنسبة إلى الكثير من العلماء، فإن الجائزة النهائية هي إثبات أن الجاذبية يجري حملها عن طريق الـ«غرافيتون» graviton (الاسم كما نرى مأخوذ من كلمة الجاذبية gravity)، مما يجعلها تتناغم بدقة مع بقية هذه الآليات.
وظلت هذه المعضلات عصية لا تقهر، تماما كحلم بابسون القديم. لكن بعد مضى قرن تقريبا من التجارب، كان أفضل ما جاء به علم الفيزياء هو نظرية الأوتار الفائقة المتسقة superstring theory، لكنها ربما هي هيكل أجوف من الرياضيات التي تعتمد على وجود أبعاد أخرى توحي بأن كوننا هذا هو واحد من أكوان كثيرة، كل منها غير معروف للآخر.
ورغم كل الإنجازات التي حققها الإنسان، فقد نغفر له أنه قد وصل إلى نهاية مسدودة فيما يخص مسعاه هذا، لكن الطبيعة البشرية ترغمنا على الاستمرار. فالجائزة الكبيرة لهذا العام، وقيمتها 4000 دولار، ذهبت إلى لورانس كراوس وفرانك ولزيك. وكان الأخير قد تشارك بجائزة نوبل في عام 2004 لدوره في تطوير القوة النووية الكبيرة التي تمسك بالكواركات معا لتشكل قلوب النوويات.
وثمة أحجية وأشياء غامضة أخرى علينا الاقتناع بها، فقد ظل المنظرون محتارين حول السبب في أن قوى الجاذبية أضعف بكثير من قوى الكهرومغناطيسية. فإذا قمت بإمساك قطعة المغناطيس فوق مشبك معدني للورق، لرأيت المشبك الصغير يحلق إلى الأعلى بعيدا عن جاذبية الأرض. ولشرح ذلك، يعتقد الفيزيائيان ليزا راندال ورامان ساندروم، أن قوى الجاذبية تضعف وتتبدد، لأنها ترشح إلى الكون الموازي أو المحاذي.
بيد أن أحد المنظرين الشباب، الذي يدعى برايس دي وت، هو أحد الذين ساعدوا بابسون على التحرر من التمسك بحلمه في القضاء على مثل هذه القوة الهائلة. ففي كتاب جديد بعنوان «النظرية المثالية» حول النسبية العامة، يبلغنا بيدرو فيريارا العالم في الفيزياء الكونية بجامعة أكسفورد، كيف أن دي وت كان بحاجة إلى دفعة أولية من المال يسدده كجزء من ثمن منزل، هو الذي أرغمه في عام 1953 على الدخول في مسابقات مؤسسة بابسون الخاصة بأبحاث الجاذبية، عن طريق تقرير يظهر أن أي محاولة لاستنباط نظام يقاوم الجاذبية مضيعة للوقت.
وفاز بالجائزة لتصبح المؤسسة أكثر احتراما ومصداقية، وليصبح دي وت بعدها واحدا من أبرز المنظرين في النسبية العامة. لكن ذلك لم يردع بابسون كلية. ففي عام 1962 وبعد قضاء 100 رحلة سياحية بارزة، قضى نحبه في حادثة طائرة بباريس، بعدما قدم هبة بقيمة 5000 دولار لجامعة إيموري في أميركا، مرفقة بنصب مرمري «لتذكير الطلاب بالبركات المقبلة حال التغلب على مشكلة الجاذبية». وقام بنصب تماثيل أخرى مشابهة في أكثر من عشرة حرم جامعية، بما فيها جامعة «تفتس»، حيث يقوم المتخرجون الجدد بشهادة الدكتوراه في الفيزياء الكونية بالانحناء أمامه في مراسم تقتضي إسقاط تفاحة فوق رؤوسهم.

* خدمة «نيويورك تايمز»



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً