بعد إلحاح أيام، قررت قبول الدعوة ومشاهدة «كلام على ورق» في منزل صديق كان يريد تسجيل هدف مزدوج: مشاهدة المسلسل والاستماع إلى تعليقي. وصلت إلى شقته بعدما بدأ مشاهدة الحلقة الثانية والعشرين فوجدته جالسا على نحو معوج. حين سألته ما السبب أجاب أنه جلس مستقيما أكثر من مرة ولم يفهم من المسلسل شيئا يذكر «ولذلك قررت أن أجلس مائلا وتستطيع أن تحكم بنفسك».
كانت نكتة لكنها مستخلصة من الواقع فصانعو هذا المسلسل يحبون الكاميرا ذات الزاوية المائلة، إلى اليمين حينا وإلى اليسار حينا آخر. في بعض الأحيان تعتقد أنهم سوف يقلبون الكاميرا رأسا على عقب بحيث يبدو الممثل كما لو كان يمشي مقلوبا على السقف.
اقترحت عليه أن يجد طريقة لتغيير وضع جهاز التلفزيون بحيث يقف على أحد جانبيه. فتدخل ابنه وقال: «بابا، لماذا لا تركب أرجوحة وكلما رغبت في مشاهدة المسلسل ركبتها. بذلك تستطيع مشاهدة الحلقة من كل زواياها».
الكاميرا التي تميل ليست هي الوحيدة المتكررة في هذا المسلسل، بل أيضا الانتقال السريع من لقطة لأخرى. انتقال ليس مبنيا على ما يجب أن يبرز من حوار أو موقف، بل مع ما يختاره المخرج تبعا لحساباته الخاصة.
هذا كله مؤسف، لأن المسلسل يحتوي في فحواه على موضوع جيد وفكرته التي تدور الكثير من مشاهدها داخل زنزانة في قسم البوليس في بيروت مثيرة بحد ذاتها، وليس حسب ما آلت إليه.
في سطر واحد، هو عن امرأة نصف لبنانية / نصف مصرية (هيفاء وهبي) متهمة بقتل زوجها المصري. في الحلقة الأولى يسألها المحقق إذا ما كانت ارتكبت الجريمة. في الحلقة الرابعة والعشرين، أي بعد 24 ليلة، يسألها إذا ما ارتكبت الجريمة. تقول له «آه، لأ» ثم تخبره أن على القاضي أن يقرر ذلك.
عندما يتم تقديم الشخصية التي تؤديها هيفاء وهبي في الحلقة الأولى نسمعها تتكلم باللهجتين اللبنانية والمصرية. عبارة كاملة باللهجة الأولى وعبارة كاملة باللهجة الثانية ثم تنتقل إلى الأولى وهكذا. تفسيرا لذلك تقول للمحقق إنها نصف لبنانية - نصف مصرية كما تقدم. لكن من ينشأون على لهجتين في البيت الواحد عادة المزج بين اللهجتين باستخدام كلمات وسط اللهجة الأكثر ترددا. لم أكن أعلم أنهم يقضون حياتهم وهم يقفزون بين عبارة مصرية وأخرى لبنانية أو بين أي لهجتين أو لغتين على هذا النحو.
في الحلقة الرابعة والعشرين لا يزال المحقق يتبرم. حين يسألها سؤال فترد عليه بالمصري يقول: «يا الله.. رجعت تترغل بالمصري»… لم يتعود بعد. لكن الأهم هو أنه لا يزال لا يدري كيف يتعامل معها.. ليس واثقا من أنها القاتلة ولا من براءتها أيضا. لو أن الأحداث حقيقية لانهار أحدهما من اليوم الثاني أو الثالث، أو بالكثير، اليوم الخامس. هي انهارت واعترفت، أو هو انهار وفقد عقله.
بعيدا عن الزنزانة، والكاميرا تخرج طبعا إلى أحداث أخرى، هناك بضعة خيوط تثري الحبكة الرئيسة وتتعلق بها. والحقيقة هي أنه على الرغم من مسألة اللهجات، إلا أن الفكرة بحد ذاتها، أي فكرة إنتاج مسلسل مصري يجري تصويره بعدد من الممثلين اللبنانيين والمصريين، رائعة والموضوع البوليسي - الجنائي الذي تماثل في الحلقات الفاصلة بين الأولى والأخيرة (حتى الآن) إطار مناسب لإبراز أساليب تمثيل مختلفة لكنها جميعا جيدة لا يخونها سوى الحوار خصوصا ذلك القائم بين المحقق والمتهمة.
هيفاء وهبي تعرف في فن التمثيل أكثر مما أبدته في فيلم «حلاوة روح» الذي عرض سينمائيا في ربيع هذه السنة. والباقون من أشرف زكي وحسين الإمام وعبير صبري والشاب أحمد صلاح السعدني لجانب اللبنانيين رودني حداد وجهاد الأطرش وروجينا بتماوجون على نحو مثير في تشكيلته. للأسف، ذلك القرار الذي اتخذه المخرج محمد سامي بخصوص الانشغال بحركات الكاميرا وبالمونتاج ربما كان فكرة صالحة لبعض المشاهد، وبل ربما لفيلم سينمائي إذا ما كان له سبب فعلي، لكن في مسلسل موجه إلى جمهور المنازل فإن الناتج عن عائق مباشر بين المشاهد وبين التفاعل مع الحكاية وبينه وبين كامل الإحساس بالشخصيات المشاركة.
في أحد المشاهد الداكنة (وهي كثيرة) يمشي الراحل حسين الإمام في الصالة كما لو كان يتدحرج هبوطا لأن الكاميرا صورته بزاوية مائلة كثيرا إلى اليمين. في مشهد آخر يبدو الحديث بين الزوج والزوجة كما لو أن الأول يطير فوقها للسبب نفسه!
على المخرج، أي مخرج، عدم الاعتقاد بأن حركة الكاميرا (وهناك حركات عدة في مسلسلات هذا العام) هي التي ستمنح المسلسل الذي يعمل عليه قيمته. مما سيمنح القيمة، إذا ما كان المضمون جيدا، هو ملء المساحة بين الدراما وبين المشاهد بالإيحاء والخيال والمضمون الصامت وبالحوار الذي يتواصل ولا يصر.
شاشات: مسلسل {كلام على ورق}.. فكرة مثيرة!
شاشات: مسلسل {كلام على ورق}.. فكرة مثيرة!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة