المهدي جمعة.. هل ينقذ حكومة الترويكا؟

المهدي جمعة.. هل ينقذ حكومة الترويكا؟
TT

المهدي جمعة.. هل ينقذ حكومة الترويكا؟

المهدي جمعة.. هل ينقذ حكومة الترويكا؟

تباينت ردود الفعل في تونس على اختيار «المهندس الليبرالي» المهدي جمعة لرئاسة حكومة التكنوقراط التي يدور منذ خمسة أشهر جدل كبير حولها بين أحزاب «الترويكا» ومعارضيها.. مما تسبب في أخطر أزمة سياسية عرفتها تونس منذ ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
هذا المهندس والخبير في الطاقة والتكنولوجيا الذي لقي اختياره ترحيبا من قبل جل الأطراف الاجتماعية والسياسية والعواصم الغربية - وعلى رأسها باريس وواشنطن وبروكسل - واحد من بين «الوزراء التكنوقراط» في حكومة القيادي في حزب النهضة الإسلامي علي العريض التي تشكلت قبل تسعة أشهر.. ولم يعرف عنه أي بروز في وسائل الإعلام ولا في المحافل السياسية.
فلماذا وقع اختياره؟ وهل لديه مؤهلات خاصة؟ وهل هو فعلا «إسعاف جديد» للأغلبية الحاكمة منذ انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 بزعامة حركة النهضة من خلال وجه ليبرالي له ميول إسلامية «ليس لديه ماض في (التنظيم السري)» للحركة؟
هل يمكن مجرد «رئيس الحكومة الثالثة للترويكا» التي تتزعمها حركة النهضة وتضم حزبي التكتل والمؤتمر العلمانيين وبعض المستقلين؟
أم أن العكس هو الصحيح أي إن المهدي جمعة سيكون أقرب إلى المعارضة والنقابات والمنظمات الحقوقية التي كانت وراء الضغوطات في الشارع ووسائل الإعلام حتى وافقت حكومة علي العريض على الاستقالة؟
أم هو في الوقت نفسه «الإسعاف الأخير» للنهضة وحلفائها في «الترويكا الفاشلة» وللمعارضة الضعيفة والمقسمة التي يصفها خصومها بـ«معارضة صفر فاصل» للتذكير بنتائجها الهزيلة في انتخابات أكتوبر 2011؟
وحسب كمال مرجان وزير الخارجية والدفاع في الحقبة الأخيرة من عهد زين العابدين بن علي زعيم حزب «المبادرة الوطنية الدستورية» المعارض حاليا، فإن تكليف المهدي جمعة بتشكيل الحكومة الجديدة يعد «الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد من مسلسل الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها».
ونوه كمال مرجان في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بمؤهلات رئيس الحكومة الجديد المقترح وعده فعلا من بين «التكنوقراط والمستقلين عن كل الأحزاب». وبرر مرجان بذلك تصويت حزبه لفائدة السيد جمعة في الجلسة العامة الأخيرة للحوار الوطني بعد أن اقترحته نقابتا رجال الأعمال والعمال ومنظمتا حقوق الإنسان والمحامين.
توافق منقوص لكن عددا من قادة الأحزاب والمنظمات التي ساندت ترشيح المهدي جمعة، مثل عبد الستار موسى رئيس رابطة حقوق الإنسان ومحمد محفوظ نقيب المحامين، أقروا أن «التوافق على المهدي جمعة داخل الجلسة العامة للحوار الوطني كان منقوصا».. لأن بعض الأحزاب القوية مثل حزب نداء تونس بزعامة الباجي قائد السبسي والحزب الجمهوري بزعامة أحمد نجيب الشابي و«الجبهة الشعبية» بزعامة حمة الهمامي اعترضت عليه.. أو رفضت المشاركة في التصويت أصلا.
لكن كثيرا من زعماء أحزاب الترويكا والمعارضة مثل مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وزعيم حزب التكتل أو ومحمد الحامدي زعيم حزب «التحالف الديمقراطي» عدوا أن «التوافق لا يعني الإجماع».. وأن المهدي جمعة الذي لم يفز بثقة مائة في المائة من الأحزاب «نجح في أن يكون أول مرشح منذ أشهر تدعمه في نفس الوقت نقابات العمال ورجال الأعمال ونحو 10 أحزاب تتحكم في نحو 70 في المائة من البرلمان الانتقالي (المجلس الوطني التأسيسي) الذي يحتاج أي رئيس حكومة جديد لتزكية نصف أعضائه زائد واحد قبل تنصيبه».
العلاقة بالخارج وإذ سارع سفراء العواصم الكبرى بتونس للترحيب بخطوة اختيار المهندس المهدي جمعة - وخاصة سفارات ألمانيا وفرنسا وأميركا - فقد شكك كثير من نشطاء المواقع الاجتماعية التونسية مثل «فيس بوك» - التي يوجد بها نحو 5 ملايين منخرط أي نصف عدد المواطنين - في شخصية رئيس الحكومة الجديد.. وخاصة في ولائه للبلاد.
واستدل هؤلاء بـ«حجة» توليه مسؤوليات عليا في شركات أوروبية عملاقة من بينها شركة نفطية متعددة الجنسيات في فرنسا. كما تساءل آخرون عن الأسباب التي جعلت بعض «الجهات الأجنبية» تروج خلال الأسابيع الثلاثة الماضية للسيد المهدي جمعة.. عبر «افتعال خبر محاولة انقلابية ضد حكومة علي العريض» واتهامه بالوقوف وراءها صحبة وزير الخارجية الحالي السفير عثمان الجارندي رغم ما عرف به الرجلان من استقلالية وابتعاد عن الأضواء وحيادية عن كل الصراعات الحزبية.
كما تساءل بعض خصوم رئيس الحكومة الجديدة عن «سر ترويج السفير الألماني في موقعه في فيس بوك لصورة مع المهدي جمعة عند تناولهما (وجبة لحم مشوي) في مطعم شعبي غربي العاصمة تونس على هامش نشاط مشترك بين السفارة الألمانية ووزارة الصناعة التي يتولى جمعة الإشراف عليها».
وكانت تلك الصورة وزعت بكثافة في المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام التونسية ونشرت تعليقات إيجابية عليها تحت عنوان «دبلوماسية اللحم المشوي».. بما جلب شعبية للوزير قبل أيام من ترشيحه المفاجئ للمنصب الحكومي الرفيع.
ناشط إسلامي سابق لكن هذه الاتهامات لم تلق صدى كبيرا لدى قيادات كبرى الأحزاب التي رشحت المهدي جمعة ولا تلك التي عارضت اختياره مثل بعض القيادات اليسارية والنقابية - مثل الحقوقية نزيهة رجبية - التي اتهمته بكونه كان «طالبا إسلاميا في الجامعة قبل ثلاثين عاما».. وشككت في استقلاليته وتوقعت أن يكون «مواليا لحزب النهضة وحلفائه مثل حزبي المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي والتكتل بزعامة مصطفى بن جعفر».
وقد نفى قياديون في حركة النهضة على رأسهم راشد الغنوشي زعيمها انتماء السيد جمعة إلى حركتهم.. وأكدوا على كونه غادر تونس منذ عقود وأنه لم يكن في عهد بن علي من بين اللاجئين السياسيين أو النشطاء.
الاختبارات الصعبة؟
وقد ساير هذا التقييم وأكد على استقلالية المهدي جمعة حسين العابسي الأمين العام لاتحاد نقابات العمال وعدد من رموز المعارضة بقوة لحركة النهضة مثل المهدي بن غربية عن التحالف الديمقراطي وسمير الطيب الناطق الرسمي باسم حزب المسار (الحزب الشيوعي سابقا).
إلا أن المدافعين عن رئيس الحكومة الجديد أشاروا إلى أن «الحكم لفائدته وتأكيد استقلاليته الحزبية والسياسية وكفاءته سيكون رهين فوزه في عدد من الاختبارات الصعبة».. وعلى رأسها «شكيل فريقه الحكومي في أقرب وقت من بين الكفاءات والخبرات المستقلة.. دون الرضوخ لوصاية الأطراف السياسية والحزبية التي رشحته ووقفت إلى جانبه».
ولوح العباسي وعدد من قيادات النقابات العمالية والأحزاب بـ«سحب الثقة» من المهدي جمعة إذا قام بما يوحي بانحيازه الحزبي وبكونه لن يحترم «خارطة الطريق».. التي كانت وراء اختياره من بين أكثر من 20 مرشحا من الحجم الكبير بينهم زعيم المعارضة في عهد بورقيبة أحمد المستيري.. ووزراء المالية والاقتصاد والشؤون الاجتماعية سابقا جلول عياد ومنصور معلى وصلاح الدين بن مبارك ومحمد الناصر.
الواقعية والاعتدال في الأثناء حذر عبد الفتاح مورو المحامي والقيادي في حزب النهضة من «المضاعفات السلبية للتهجم على المهدي جمعة أو محاولة شيطنته.. أو على أي شخصية مستقلة يقترحها البعض لإصلاح الأوضاع وقيادة البلاد في المرحلة المقبلة».
مورو نوه بخصال رئيس الحكومة الجديد لكنه دعا التونسيات والتونسيين وزعامات الأحزاب والمجتمع المدني إلى «الواقعية والاعتدال». وقال إن مؤهلات المهدي جمعة والفريق الذي سيختاره لا تعني قدرتهم على معالجة «كل الملفات المتراكمة في البلاد منذ عشرات السنين». وأكد أن أغلب المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية والأمنية ستحتاج «على الأقل لعشرين عاما حتى تعالج بصفة جذرية».. لكن المطلوب اليوم من «كفاءة عالمية مثل المهدي جمعة بدء مثل هذا المشوار الإصلاحي» ومساعدة الطبقة السياسية والبرلمان الانتقالي للمرور إلى الانتخابات المقبلة في أقرب وقت.
الاستغناء فجأة عن أبرز المرشحين من جهة أخرى سجل المراقبون أنه على الرغم من ترحيب أهم النقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب باختيار المهندس المهدي جمعة لرئاسة الحكومة حتى إنجاز الانتخابات المقبلة، فإن الطرف الرئيس الذي ظل ينتقد بصوت مرتفع هذا الاختيار هو الحزب الجمهوري بزعامة أحمد نجيب الشابي زعيم المعارضة القانونية في عهد بن علي.
لكن نقاط استفهام كثيرة لا تزال تؤرق صناع القرار والسياسيين.. من بينها ملابسات استبدال المرشحين السابقين لهذا المنصب «فجأة وفي الوقت الضائع» بوزير الصناعة الذي يبدو أن علاقات مهنية وخاصة متطورة سبق أن جمعته بالسيدة وداد بوشماوي رئيسة نقابة رجال الأعمال - اتحاد الصناعة والتجارة - وحسين العباسي أمين عام اتحاد الشغل.
وحسب مصادر كثيرة فإن الثنائي بوشماوي والعباسي كانا منذ نحو الساعة الثامنة من صباح السبت الماضي أول من اقترح اسم السيد المهدي جمعة.. بعد مشاورات في الكواليس قد تكون شملت مباشرة وغير مباشرة مع قياديين من الصف الأول في «الأحزاب السبعة».. وخاصة في حزبي نداء تونس والنهضة.. ولم تبرز تلك المشاورات تحفظات جوهرية عليه على الرغم من اقتراح بعضهم اسمي السيدين محمد بن عيسى (رئيس الجامعة سابقا والمستشار السابق برتبة كاتب دولة في ديوان السيد الباجي قائد السبسي) والحبيب الصيد وزير الداخلية الأسبق والوزير المستشار الأمني في حكومتي السبسي والجبالي.
والسؤال اليوم الكبير هو: ما أهم سيناريوهات الحقبة المقبلة بعد هذا الاختيار «التاريخي»؟
العودة إلى مجلس الدولة؟
يعتقد كثيرون أن اختيار «شخصية تكنوقراط» لها خبرة 9 أشهر على رأس وزارة فنية رحبت بها المنظمات الاجتماعية و10 أحزاب (أحزاب الترويكا الثلاثة و6 أحزاب صغيرة بينها حزبا المبادرة والوطن حيث الأغلبية من بين الدستوريين) قد يكون وضع حدا لمقترح السيد الباجي قائد السبسي بإحداث «مجلس للدولة» يعوض رئيس الجمهورية. لكن بعض المراقبين المطلعين يعتقدون أن العكس هو الصحيح..
هؤلاء يقولون إن حظوظ إحداث مجلس أعلى للدولة يضم عسكريا وقياديين من نداء تونس والنهضة والنقابات «تعززت اليوم».. إذا سلمنا أن الفقرة الأولى غير المعلنة في «التوافق بين قيادتي حزبي النداء والنهضة» تتضمن إعطاء «النهضة والترويكا» صلاحية اختيار رئيس الحكومة وأغلب أعضائها مقابل تعديل القانون المؤقت المنظم للسلطات في اتجاه إنشاء «آلية تنفيذية موسعة جديدة في رئاسة الجمهورية» بزعامة السيد الباجي قائد السبسي.
لكن ماذا إذا لم ينجح هذا السيناريو؟
إسعاف «الحكومة الفاشلة (و) المعارضة الضعيفة»..
حسب كثير من صناع القرار فإن «ميزان القوى الحالي» في البلاد أقنع قيادات «الحكومة الفاشلة (و) المعارضة الضعيفة» بأنه لا سبيل لأي طرف سياسي أن يحتكر السلطة لوحده..
وحسب هذا السيناريو فإن كبار الساسة اقتنعوا أنه ليس من مصلحة أي حزب في الحكم والمعارضة «احتكار السلطة» مستقبلا.. لأن «حجم التحديات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية (و) تعقيدات الأوضاع إقليميا ودوليا» يستوجب «انسحاب الزعامات السياسية من الصف الأول».. وإتاحة الفرصة للخبراء مثل المهندس السيد المهدي جمعة كي يحاول تدارك الموقف عبر إصلاحات عاجلة.
ووفق هذا التمشي فإن «حكومة التكنوقراط» التي سيشكلها السيد المهدي جمعة، تكون بمثابة «فرصة إسعاف أخيرة» للنخب الحاكمة والمعارضة في نفس الوقت.. بعد أن تبين تراجع شعبيتها جميعا وتناقص قدراتها على تحريك الشارع.. إلى درجة تبادل رموزها الاتهامات بالفشل.. في وقت أصبح فيه كثير من المراقبين المستقلين يصفون أحزاب الائتلاف الثلاثي الحاكم بـ«الفشل» والأحزاب المناوئة له بـ«معارضة صفر فاصل» للتذكير بالنتائج التي حصل كل منها عليه في انتخابات أكتوبر 2011.. الأمر الذي مكن الإسلاميين وحلفاءهم من أن يحكموا البلاد بمجرد فوزهم بنحو مليون ونصف المليون من أصوات الـ8 ملايين ناخب.. الذين لم يشارك أكثر من نصفهم في الاقتراع العام.
ويأمل أنصار هذا السيناريو أن تمكن «حكومة التكنوقراط» كل الأطراف الحاكمة والمعارضة من فرصة القيام بنقدها الذاتي العلني.. وبدء الاستعدادات للانتخابات المقبلة.. بعيدا عن «ماكينة الدولة» وعن توظيف أموالها ومؤسساتها «خدمة لأغراض حزبية وشخصية..»؟
سيناريو «الصدام» و«القطيعة» لكن المتتبعين لفسيفساء المستجدات الأمنية والاجتماعية في البلاد لا يستبعدون سيناريوهات «قاتمة» بعد استقالة حكومة السيد علي العريض واختيار المهدي جمعة.. من بينها استفحال العنف والعنف المضاد والصراعات بين قطبين كبيرين: الأول بزعامة «الدستوريين» والمقربين «نداء تونس» والثاني بزعامة حزب النهضة وحلفائه في المجلس التأسيسي.. الذين يسيطرون على نحو ثلثي مقاعد المجلس وقد يختار «المتشددون من بينهم» الدخول في مواجهات «للمعتدلين» في أحزابهم وفي الحكومة المقبلة وحلفائها في المنظمات الاجتماعية والحقوقية.. كما قد يتمرد بعضهم مجددا على السيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس المتمسك بمواقفه «الوسطية المعتدلة».
كل السيناريوهات واردة.. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التناقضات الداخلية في اتحادات الشغل والصناعة والتجارة والأحزاب الكبرى.. لا سيما في حزبي النهضة ونداء تونس.. وهي تناقضات قد تستفحل بعد أن يبدأ رئيس الحكومة الجديد تنفيذ برنامجه.. واقترابه من بعض «الخطوط الحمراء».. التي يبررها بحرصه على «إنقاذ البلاد» أكثر من سعيه «لإسعاف الترويكا والمعارضة ».
وفي كل الحالات سيكون أمام المهدي جمعة تحديات اقتصادية وأمنية وسياسية كبرى يحتاج إلى رفعها بحزم وفي وقت قياسي مستفيدا من الدعم الذي قدمته له غالبية الأحزاب القوية والعواصم الغربية المؤثرة في القرار الداخلي التونسي لا سيما باريس وواشنطن.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.