«الروحانية العقلانية» لمعالجة أمراض الأفراد والدول

كتاب أميركي يدعو إلى الجمع بينهما

TT

«الروحانية العقلانية» لمعالجة أمراض الأفراد والدول

هل يمكن أن تتفق الروحانية والعقلانية؟ أليست الروحانية منبعثة من العاطفة (من القلب) والعقلانية منبعثة من العقل (من المخ)؟
مؤخراً، صدر هذا الكتاب «الوصول إلى السماوات... روحانية عقلانية لزماننا»، ويريد مؤلفه أوتو هولهورست أن يربط بين نقطتين؛ الأولى «الواقعية (العقلانية) هي حياتنا كما نعيشها، ونراها كل صباح وكل مساء». والثانية «الإيمان (الروحاني) الذي يتعدد، وقد يخطئ، ويصيب، ويتناقض، ويضلل». وكان قبل صدور هذا الكتاب بسبعة أعوام، قد تأسس في غاتلينبيرغ (ولاية نورث كارولينا) مركز يجمع بين الاثنين «ماونت سوما»، وهو جزء من معبد هندوسي، لكن الكتاب ليست له صلة بهذا المركز.
يركز الكتاب على حلول لمشكلات إنسانية عبر التاريخ، مثل؛ الفقر، والظلم، والفساد، والكراهية، والحروب. ويبحث عن حل «عقلاني» لها، رغم أن كثيرا من هذه المشكلات تدخل في نطاق العاطفة (الحب في مواجهة الكراهية، والغضب في مواجهة الصبر... إلخ).
تقول مقدمة الكتاب: «يمكننا أن نقترب من حلول عقلانية لكثير من مشكلات الإنسان عبر القرون بالدخول إلى أعماقنا، إلى عقولنا اللاواعية، لنرى كيف أنها تربط بين العقلانية والروحانية». وتعترف المقدمة بأن «الحلول واضحة، لكنها صعبة»، لأنها ليست فقط عن تفكير الفرد، ولكن، أيضا، عن تفكير مجموعات، ودول، بل عن «تفكير المجتمع الدولي».
في الفصل الأول، ابتعاد عن الأديان التقليدية (ونقد للمسيحية)، يقول المؤلف: «لا يقدر كثير منا على الاعتماد على ما يتعلمه من غيره في المؤسسات الدينية. لكن كثيرون منا يقدرون على الاعتماد على أنفسهم بالدخول إلى أعماقهم». وفي سبيل ذلك «يجب على كل واحد منا أن يكون مستعدا للتضحية في سبيل حرية التفكير في أعماقه، وإن واجه الموت». وفي فصل آخر، تركيز على الوعي، واعتباره الوسيلة التي يمكن أن تجمع بين الاثنين؛ الروح والعقلانية. ولكن ما هو الوعي؟ يقدم المؤلف إجابتين؛ الأولى عقلانية، وهي «لا نعرف، ولن نقدر على أن نعرف». والثانية روحانية، وهي «وعينا هو روحنا، وذاتنا، وأنفسنا»، لكن -يقول الكتاب- يمكن أن تقدر العقلانية على تفسير الروح، أو على الأقل العثور عليها، و«إذا لم يستطع الإنسان التأكد من شيء، فلا بد أن يقدر على أن يفترضه».
ويضيف: «إذا لا يقدر بلايين البشر على التأكد من رأي معين، بسبب عدم عثورهم على دليل له، أو عدم قدرتهم على الدفاع عنه عقلانيا (علميا)، مع أنهم يؤمنون به، فلا بد أن يكون هناك تفسير لذلك».
التفسير أو الافتراض، الذي يقدمه الكتاب هو الآتي؛ الربط بين الوعي واللاوعي. في جانب، الوعي الذي يعتمد على الحواس الخمس (ما تسمع الأذن، وما ترى العين، وما يذوق اللسان، وما تلمس اليد، وما تشم الأنف). وفي الجانب الآخر، اللاوعي الذي لا يسمع، ولا يرى، ولا يتذوق، ولا يلمس، ولا يشم.
لهذا، يعطي الكتاب الناس «العقلاء» حق «الإيمان» بما لا يسمعون، ولا يرون، ولا يتذوقون، ولا يلمسون، ولا يشمون. ثم يذهب الكتاب إلى أبعد من ذلك، فيقول أولا اللاوعي أهم من الوعي، وهو يسيطر عليه. أي أن الإيمان (الروح) يسيطر على الأفعال (الجوارح)، ثانيا يميل اللاوعي نحو الخير، ويميل الوعي نحو غير ذلك، (لا يقول: «نحو الشر». أي أن الإنسان ليس شريرا، لكنه ضحية عواطف، أكثرها سلبية، مثل الخوف، والغضب، والكراهية، والطمع).
لهذا، ليسيطر الإنسان «العاقل» على هذه العواطف السلبية، يجب عليه أن يربط بين الوعي واللاوعي، بين الروح والفعل، لكن كما قال الكتاب في البداية، ليس هذا سهلا.
إذا حدثت «المعجزة»، ونجح الإنسان في الربط بين الاثنين، فسيحس بأنه «وصل إلى السماء»، كما في عنوان الكتاب. ويكون قد ربط بين الروحانية والعقلانية. وحتى ينجح الإنسان في ذلك، يظل ضحية الاختلاف بين الوعي واللاوعي. في جانب اللاوعي (الروح) يميل نحو الخير.
وفي الجانب الآخر؛ الوعي (العواطف) تميل نحو غير ذلك. لهذا، يصاب الإنسان بأمراض مثل القلق، والتوتر، والإحباط.
في نهاية الكتاب، يتحدث المؤلف ليس فقط عن أمراض الشخص، ولكن عن أمراض الدول، وينتقد بشدة الثقافة الغربية. فهي، كما يقول، تعاني من هذه الأمراض رغم ثروتها، وقوتها (سيطرة جوارحها عليها، وعلى بقية العالم)، وذلك لأنها فشلت في الربط بين وعيها (عواطفها) ولاوعيها (روحها)، ولأنها، قبل ذلك، لم تصل إلى حقيقة روحها.
وكما في عنوان الكتاب، يجب عليها أن تربط عقلانيتها بروحها.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.