قد لا يكون اسمه متداولاً بين دبلوماسيي العالم، إلا أن وزير الخارجية البريطاني الجديد جيريمي هنت صنع لنفسه هوية سياسية فريدة قادته إلى مكانة مرموقة في هرم السلطة البريطاني. إذ جاء تعيين هنت، بعد الاستقالة الصادمة لوزير الخارجية بوريس جونسون، مفاجأة في عواصم العالم وفي أروقة «وايتهول» على حد سواء، وبخاصة بعدما كان أمام هنت، وهو وزير الصحة السابق، عراقيل هددت بإبعاده عن منصبه قبل أشهر قليلة. وفي حين أرجع البعض تعيين وزير الخارجية الجديد إلى سعي رئيسة الوزراء تيريزا ماي لحماية منصبها من «المتمردين» في صفوف حزبها، فإنه في واقع الأمر يحظى بشعبية واحترام كبير داخل حزبه المحافظ، ويُعتبر وجهاً يتوافق عليه مختلف أطياف الحزب الحاكم رغم انقساماته. واليوم سيواجه هنت تحدياً من نوع خاص... يتمثل في تحقيق التوازن بين دوره في تطبيق سلس لـ«بريكست» (انسحاب بريطانيا من الأسرة الأوروبية) واستعادة وهج الدبلوماسية البريطانية على الساحة الدولية.
قبل أشهر معدودة، كان جيريمي هنت يواجه تهديد الإقالة على خلفية الأزمة الخانقة التي كانت تهدد «خدمة الصحة الوطنية» البريطانية (إن إتش إس). فلقد واجه هنت الذي كان يشغل في حينه حقيبة وزير الصحة تحديات عدة، كان من أبرزها شح الموارد المالية، وإضرابات للأطباء الشباب، وسخط المواطنين عن مستوى أداء المستشفيات والعيادات الحكومية.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أعدت الصحف المحلية والنشرات الإخبارية عناوين تتوقع إبعاد هنت عن منصبه على رأس وزارة الصحة. إلا أنه بعد دقائق خرج من الباب الأمامي لمقر رئيسة الحكومة (الرقم 10 داونينغ ستريت) محتفظاً بحقيبته الوزارية، بل أضاف إليها حقيبة أخرى هي الرعاية الاجتماعية.
بذا نجح هنت حيث فشل آخرون قبله؛ وذلك بعدما نجح في تأمين ميزانية إضافية للـ«إن إتش إس»، وإقناع رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي بضرورة ضخ 20 مليار جنيه إسترليني إضافي في «الخدمة» التي تعدّ العمود الفقري للدولة البريطانية. ومن ثم، لُقّب بعضهم هنت بـ«منقذ خدمة الصحة الوطنية»... إحدى جواهر التاج البريطاني.
أكثر من هذا، أصبح هنت، الأب الخمسيني لثلاثة أطفال، الوزير الذي شغل أطول فترة على رأس وزارة الصحة منذ إنشاء «خدمة الصحة الوطنية» التي تمولها الحكومة، وهي فترة تجاوزت 5 سنوات وشهوراً. ونقلت صحيفة «الغارديان» – المحسوبة على تيار اليسار المناوئ للمحافظين – عن مسؤول رفيع في قطاع الصحة قوله، إنه «في بيئة تعيق فيها مفاوضات (بريكست) عمل مختلف الوزارات وتعرقل تحقيق أي إنجاز كبير، سيستطيع هنت التباهي بأنه أنقذ الخدمة (وهذا إنجاز كبير)».
- بداية مسيرة متعثرة
ولد جيريمي هنت يوم أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 في العاصمة البريطانية لندن، وحياته المهنية بعيداً عن السياسة. فبعدما تخرج في جامعة أكسفورد (كلية مودلين) بشهادة علوم سياسية واقتصاد وفلسفة، وفيها ترأس منظمة طلاب حزب المحافظين في عام 1987. عمل هنت مع إحدى الشركات التي تقدم استشارات استراتيجية لمدة سنتين، قبل أن يقرر السفر إلى اليابان والعمل مدرّس لغة إنجليزية.
وبعد العودة إلى بريطانيا، جرب هنت حظه في مشروعات استثمارية، كان بينها محاولة تصدير مواد غذائية بريطانية إلى اليابان، لكنها باءت كلها بالفشل. وهكذا انتقل إلى مشروع جديد متعلق بتقنية المعلومات، تشارك فيه مع أحد أصدقاء طفولته في عام 1991، وباع الرجلان الشركة بعد بضع سنوات، ليؤسسا شركة تقدم خدمات تعليمية أثارت اهتمام مؤسسات كبيرة. وفي يناير 2017، باع هنت رصيده من الشركة، واسمها «هوت كورسز»، إلى جهة أسترالية، وحقق عبر هذه الصفقة ربحاً قدّر بـ14 مليون جنيه إسترليني.
وعاد هنت في بداية الألفية إلى الاهتمام بالسياسة، وانتخب نائباً عن دائرة جنوب غربي سري (في الريف جنوبي لندن) في الانتخابات العامة لعام 2005. ودعم هنت حملة ديفيد كاميرون لترؤس حزب المحافظين، وكوفئ بتعيينه وزير ظل لشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة، ليعيّن بعد سنتين من ذلك وزير ظل للثقافة والإعلام والرياضة.
- في السلطة
وفي الحكومة الائتلافية التي شكلها كاميرون، بالتحالف مع حزب «الديمقراطيين الأحرار» في انتخابات 2010، تولى هنت رسمياً حقيبة الثقافة والإعلام والرياضة، وأُضيف إليها إدارة الألعاب الأولمبية التي احتضنتها لندن في 2012، ثم أسندت إليه حقيبة وزارة الصحة في العام نفسه، ولقد احتفظ بها في حكومتي كاميرون وماي، حتى تاريخ تعيينه وزيراً للخارجية خلفاً لبوريس جونسون في الخارجية يوم 9 يوليو (تموز) الحالي.
عقب تقديم كاميرون استقالته في 2016، بعدما صوّت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، طُرح اسم هنت لقيادة حزب المحافظين، إلا أنه لم يحظَ بالدعم الكافي. وكانت استقالة رئيس الوزراء كاميرون قد تزامنت آنذاك مع فضيحة إضراب الأطباء، الذي كان الأول من نوعه منذ 40 سنة. كما أن دعم هنت العلني للبقاء في الاتحاد الأوروبي حال دون اعتباره مرشحاً توافقياً في بيئة محافظة منقسمة على نفسها، شريحة واسعة منها متحمسة لتنفيذ رغبة الشعب البريطاني بالخروج.
في المقابل، واجه هنت سلسلة انتقادات قاسية، واتهامات باستغلاله مناصبه السياسة لتحقيق مكاسب مالية أو شخصية. وفي أبريل (نيسان) الماضي، اضطر إلى تقديم اعتذار لتخلفه عن الكشف عن امتلاكه مجموعة من الشقق الفاخرة. ويومذاك أرجع هنت الأمر إلى «خطأ إداري». إلى ذلك، واجه أداء هنت في وزارة الصحة انتقادات حادة، أهمها الحاجة الماسة إلى إعداد المزيد من الأطباء والممرضات، وتردي مستويات الرعاية الصحية المتاحة لكبار السن، وارتفاع معدل الانتظار لتلقي العلاج. وهذه المهمة، بعد انتقال هنت إلى وزارة الخارجية، الآن باتت ملقاة على عاتق مات هانكوك الذي أصبح وزيراً للصحة، بينما جرى تعيين المدعي العام جيريمي رايت وزيراً للثقافة والإعلام والرياضة خلفاً لهانكوك.
- تحدي «بريكست»
قد يكون منصب وزير الخارجية مكافأة لمعظم السياسيين البريطانيين الساعين إلى ترؤس حزب المحافظين، وشق طريقهم صعوداً نحو رئاسة الوزراء، إلا أنه في حالة جيريمي هنت قد يشكل تحدياً قد يؤول إلى إنهاء مسيرته السياسية، أو على الأقل عرقلة تقدمه نحو «داونينغ ستريت». وثمة من يقول، إنه بينما اختار سلفه المثير للجدل بوريس جونسون «القفز من السفينة قبل ارتطامها بحائط بريكست»، ظل هنت داعماً ومخلصاً لتيريزا ماي. ونقل الإعلام البريطاني عن أحد الوزراء قوله، إن «هنت يمضي الكثير من الوقت في مدح رئيسة الوزراء»، كما عبر عن دعمه الكامل الخطة التي طرحتها لتقنين علاقة بلادها مع الاتحاد الأوروبي.
وحقاً، كما سبقت الإشارة، كان هنت رافضاً لفكرة «بريكست»، ولم يتردد في إعلان موقفه علانية بعكس موقف ماي الملتبس، إلا أنه غيّر رأيه في العام الماضي؛ إذ قال خلال مقابلة مع إذاعة «إل بي سي»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، إنه «غيّر رأيه في هذه المسألة جزئياً بسبب ما شهده من غطرسة مخيّبة للآمال» في سلوك الاتحاد الأوروبي أثناء المفاوضات.
على أي حال، يواجه هنت في منصبه الجديد تحدي الموازنة بين الحفاظ على مكانة بلاده على الساحة الدولية، وتنفيذ رغبة ناخبيه بالخروج من الاتحاد الأوروبي بأقل خسائر اقتصادية ومالية ممكنة. ولعل ما يزيد من صعوبة هذا التحدي هو الهجوم بغاز الأعصاب الذي استهدف عميلاً روسياً مزدوجاً سابقاً وابنته في أحد شوارع مدينة سولزبري البريطانية، الذي أدى إلى موت مواطنة بريطانية قبل أيام في حادث متصل. ولقد اتهمت الحكومة البريطانية روسيا بالوقوف وراء الهجوم ضد العميل سيرغي سكريبال، وأطلقت بالتعاون مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» حملة طرد جماعية لعشرات الدبلوماسيين الروس. لكن روسيا رفضت الاتهامات البريطانية، وطالبت لندن بتقديم دلائل ملموسة على مزاعمها، وهو أمر يتوقع أن يعقّد مهمة وزير الخارجية الجديد.
- ترمب... وأزمات أخرى
أكثر من هذا، إذا لم تكن هذه التطورات غير المسبوقة تحدياً كافياً، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ساهم في زيادة تعقيد المشهد السياسي البريطاني خلال الزيارة الرسمية التي قام بها لبريطانيا في الأسبوع الماضي. إذ استبعد ترمب في مقابلة مع صحيفة «الصن» إبرام اتفاق تجارة حرة تتطلع له بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في حال طبقت ماي خطتها التي تحافظ على علاقات تجارية وثيقة مع الاتحاد. ولم يقف الرئيس الأميركي، الذي أثارت زيارته جدلاً واسعاً، عند هذا الحد، بل امتدح «صديقه» بوريس جونسون، ورأى أنه «قد يكون رئيس وزراء جيداً».
وإلى جانب هذه القضايا، تعمل لندن مع مختلف الأفرقاء على حل أزمة الحرب السورية، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، والسلام في الشرق الأوسط، والتهديدات الأمنية والسيبرانية التي تطرحها روسيا.
لكن رغم كل الأزمات، يبدو أن تفاصيل الـ«بريكست» الداخلية طغت على عمل وزارة الخارجية خلال الأشهر الماضية، بل إنها أطاحت بوزير سابق يتمتع بنفوذ وشعبية داخل حزبه المحافظ وخارج الحدود البريطانية. ولم يبرهن خليفته حتى الآن عن نيته إعادة تركيز الوزارة على القضايا المنوطة بها؛ إذ اكتفى هنت خلال الأيام العشرة الماضية منذ تعيينه بالتعبير عن دعمه الكامل لخطة رئيسة الوزراء وصورة على «تويتر» تعكس مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأخيرة ببروكسل ومتابعته مباريات كأس العالم.
أما جونسون، سلف هنت، فلقد خصّص أول كلمة له أمام البرلمان، بعد موجة استقالات ضربت الحكومة من بعده، لقضية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحذّر جونسون، الذي يراه البعض الآن منافساً محتملاً لماي، من أن خطتها ستترك بريطانيا «في حالة دائمة وتعيسة من الرقص على الحبال». وقال، إنه من خلال عرض اتباع قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن التجارة في السلع، ومن دون أن يكون لبريطانيا أي رأي في وضع هذه القوانين «فإننا نتطوع لنكون تابعين اقتصادياً»، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. إلا أنه أكد أنه «لم يفت الوقت لإنقاذ (بريكست). لدينا وقت في هذه المفاوضات. لقد غيّرنا المسار مرة ونستطيع تغييره مرة أخرى». كذلك اعتبر جونسون أن ماي عادت عن «رؤيتها الرائعة» حول «بريكست» التي اشتملت على الانفصال عن محاكم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، وإبرام اتفاقيات تجارة جديدة.
من جانب آخر، عرضت رئيسة الوزراء ماي اقتراحها القاضي بإنشاء منطقة تبادل حر للسلع بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، قبل أسبوعين على وزرائها في مقر إقامتها الريفي في تشيكرز. وأوضحت أن خطتها تسعى إلى الحفاظ على علاقة تجارية وثيقة مع الاتحاد، على أن يواكب ذلك وضع «مجموعة من القواعد المشتركة». لكن أنصار الانفصال اعتبروا أن خطة ماي بمثابة خيانة لتصويت البريطانيين على مغادرة الأسرة الأوروبية، وفي مقدمهم جونسون وزميله المستقبل أيضاً وزير «بريكست» ديفيد ديفيس.