دعا مشاركون في ندوة «الفكر الديني الحاضن للإرهاب: المرجعية وسبل إزاحته» التي نظمت مساء الثلاثاء ضمن فعاليات «موسم أصيلة الثقافي» الـ40، إلى ضرورة إصلاح شامل للمجالات الدينية والتربوية والتعليمية في مواجهة ظاهرة التطرف العنيف والإرهاب. وانتقد مشاركون الاقتصار على المقاربات الأمنية والعسكرية في مكافحة الإرهاب.
وقال محمود جبريل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي سابقاً، الذي ترأس الجلسة الافتتاحية للندوة، إن «العنف ليس مرتبطاً بالدين فقط بل بأسباب أخرى قد تكون سياسية وقد تكون اقتصادية». وأضاف جبريل: «يجب ألا نكونَ سجناء لفكرة أننا في قفص الاتهام، فالإرهاب ظاهرة عالمية وليست مرتبطة بالإسلام فقط»، داعياً إلى التفكير في كيفية تدبير هذه الإشكالية على جميع المستويات، مؤكداً ضرورة رد الاعتبار في إصلاح الخطاب الديني للفلسفة الإسلامية. وقال بهذا الصدد: «الفلسفة الإسلامية تلعب دوراً رئيسياً، غير أنها لم تعد موجودة (...) نحتاج إلى فلسفة إسلامية جديدة تطرح فكرة التكليف بالتغيير باعتباره أمانة، وإلا فلن يكون للثورة معنى»، مضيفاً أن «بناء النموذج النهضوي لن يتأسس إلا بوجود هذه الأرضية الفلسفية التي تؤسس لفكرة التغيير من منظور إلهي، على أنه تكليف للمخلوق، وبالتالي يصبح التفكير في حد ذاته عبادة ويصبح التغيير عبادة».
وأضاف جبريل: «هذه القضايا تتطلب منا أن ننتقل من ثقافة الانبهار إلى ثقافة الاندهاش مرة أخرى. ثقافة الاندهاش التي كانت سائدة إبان ازدهار الفلسفة الإسلامية». وأشار إلى أنه «لا يستقيم فقط أن نصلح الخطاب والفهم الديني من دون أن يكون هناك إصلاح للخطاب الإعلامي والخطاب التعليمي والخطاب التربوي، لأن هذه هي مصانع بناء القيم وتحديث السلوك».
وفي تقديمه لموضوع الندوة، قال محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى «أصيلة»: «قد يفهم البعض غلطاً أن في عنوان الندوة ربطاً بين الدين والإرهاب، وقد يتبادر للذهن أن الدين المعني هنا هو الإسلام الذي تستند إليه افتراء وتجنياً التنظيمات الراديكالية. ما يتعين التأكيد عليه هنا هو أن منطلق هذه الندوة هو الدعوة إلى فك الارتباط بين الإرهاب من حيث هو ظاهرة عدمية مدمرة وجوهر الديانات التي تلتقي في قيم السلم والكرامة الإنسانية وحرمة الأنفس، وهي معانٍ حاضرة بقوة في الإسلام ديناً وثقافة وحضارة».
وأضاف بن عيسى قائلاً: «إذا كان الإرهاب يرتبط في زماننا بالإسلام الذي تنتسب إليه زوراً الجماعات التكفيرية المتشددة، إلا أن كل الديانات كانت في سياقات ومراحل معينة عرضة لهذا التحريف والاستغلال، فالتاريخ يعلمنا أن أفظع الجرائم التي تعرضت لها الإنسانية تمت باسم القيم والمعتقدات العليا، والدراسات الاجتماعية تبين لنا أن المقدس بقدر ما يحمي الكرامة الإنسانية ويصونها يكون ذريعة ومبرراً لأعتى التجاوزات والانتهاكات التي يتعرض لها البشر، فباسم الدين شُنّت حروب دموية مدمرة وأبيدت أمم وشعوب كاملة وكممت أفواه مخالفة، وليس الخلل في الدين ذاته بل في أنماط تأويله وفهمه التي تتلبس عادة أوضاعاً ظرفية ليس العامل الديني ذاته حاسماً فيها وإن احتل واجهة الحدث واستأثر بأساس الاهتمام».
وأوضح بن عيسى أن الإرهاب الذي يعاني منه العالم العربي والإسلامي مر بثلاث مراحل، انطلاقاً من «الجهاد الأفغاني» في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مروراً بظهور التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصولاً إلى استفحال الظاهرة في السنوات الأخيرة مع استغلال التنظيمات الإرهابية للأوضاع الانتقالية والأزمات الداخلية التي مرت بها بعض الدول العربية، من جانب، ونقل المواجهة إلى داخل المجتمعات باستهداف المدنيين العزل، من جانب آخر. وقال: «هكذا وصلنا إلى وضع خطير لم يعد من الممكن السكوت عنه، ولم تعد تجدي في التعامل معه القوالب الفكرية المألوفة والمقاربات التحليلية التقليدية. ومن هنا كان الطموح إلى طرح هذا الموضوع المحوري للنقاش الفكري الصريح والرصين في منتدى أصيلة، باعتباره مجالاً تداولياً مفتوحاً وميداناً حرّاً للنقاش الجاد».
من جانبه، ردَّ منصور خالد، وزير خارجية السودان الأسبق، أصول التطرف الإسلامي إلى زمن المحاولات الأولى للإصلاح الديني في العالم الإسلامي مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، التي أثارت ردود فعل معارضة للإصلاح، مشكِّلة النواة الأولى لظهور الجماعات المتشددة.
وأوضح منصور أن ظاهرة العنف ليست خاصة بالإسلام بل تلتقي فيها الديانات التوحيدية الثلاث. وأشار إلى أن الإسلام لا يقتصر على العرب، داعياً إلى تأمل النموذجين الآسيويين في باكستان والهند.
وأشار إلى أن زعماء الديمقراطية في الهند، خصوصاً نهرو وغاندي، رفضوا اعتبار الهندوسية الدين الرسمي للبلاد، رغم أنها تشكل 45 في المائة من السكان، مقابل 13 في المائة من المسلمين والباقي ديانات مختلفة. فيما انفصلت عنها باكستان ذات الغالبية المسلمة لتشكل مهد الأفكار التي أنتجت جماعة الإخوان المسلمين.
أما الباحث والمفكر الإسلامي اللبناني رضوان السيد، فأكد جازماً وجود ارتباط بين الدين والإرهاب في العالم العربي الإسلامي، وقال: «نعم، يوجد اليوم فكر ديني حاضن للإرهاب»، مشيراً إلى أن نشأة هذا الفكر بدأت قبل قرن من الزمن كرد فعل على تأثير الغرب.
وأشار السيد إلى أن التيارات الإصلاحية التحديثية التي رأت النور في العالم العربي الإسلامي قبل قرن اعتبرت أن «الدولة الوطنية» ليست فقط أداة لتدبير الشأن العام ولكنها أيضاً أداة لتطبيق الدين، من خلال تحويل الشريعة إلى قانون.
غير أن أمل هؤلاء خاب عندما استبعدتهم «الدولة الوطنية» بعد الاستقلال الوطني، خصوصاً مع سيطرة العسكر عليها، الذين رفضوا إشراكهم. وأضاف أن الدعاة الإصلاحيين انقسموا في السجون إلى تيارين؛ الأول يدعو إلى ممارسة العنف كسبيل للوصول إلى السلطة وتطبيق شرع الله في أرضه، والثاني يدعو إلى التغلغل في أوصال الدولة الوطنية لتقوم بدورها في مجال تطبيق الدين.
أما المحلل الإعلامي والكاتب الكويتي محمد غانم الرميحي فيرى أنه من الخطأ ربط الإرهاب بالإسلام، مشيراً إلى أن التوجه نحو الإسلام السياسي جاء نتيجة ضيق السبل والآفاق. ودعا إلى تأمل تجربة الصين، مشيراً إلى أن الصينيين تخلفوا كثيراً عن الركب عندما كانوا منغلقين أمام أي جديد متمسكين بحضارتهم العريقة. غير أنهم عندما قرروا الانفتاح الأخذ بالجديد رغم أنهم يخالف ما توارثوه في حضارتهم العريقة دخلوا مرحلة نهضة غير مسبوقة. وقال: «علينا أن نكون مستقبليين بدل أن نكون ماضويين، إذا أردنا أن ننهض ونتقدم».
ومن خارج العالم العربي الإسلامي، قدم فرانسيسكو زانيني، الأستاذ بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما، لمحة تاريخية عن تعامل المسيحيين مع الإسلام، بداية بردِّهم عليه باعتباره ديناً جديداً ثم انتقاده ثم مرحلة دراسته بهدف التبشير وتنصير المسلمين، وصولاً إلى مرحلة الدراسات الاستشراقية التي لا تزال مستمرة إلى اليوم.
وقال زانيني إنه على المسيحيين أن يدرسوا الإسلام من وجهة نظر المسلمين، وأن يعرفوه من الداخل، لأن «الحوار الحقيقي غير ممكن من دون معرفة الآخر ومعرفة خصوصياته واحترامها». وأشار إلى أن «القبول بالاختلاف وبوجود قيم مشتركة هو السبيل الأمثل نحو التعاون من أجل مستقبل مشرق للإنسانية جمعاء».
من جانبه، لاحظ المفكر العراقي الحسين شعبان قصور المنظومة القانونية الدولية في مجال تحديد الإرهاب، مشيراً إلى وجود عشرات الاتفاقيات والقرارات الدولية المتعلقة بالإرهاب ومكافحة الإرهاب، إلا أن أية واحدة منها لا تعطي تعريفاً للإرهاب. ورد أسباب هذا القصور في تعريف الإرهاب لاعتبارات آيديولوجية. وقال إن من مصلحة المسلمين والعرب أن يحدد مفهوم الإرهاب باعتبارهم ضحايا له ومتهمين به.
وأضاف شعبان أن الحلول العسكرية غير كافية للقضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه، مشيراً إلى أن هزيمة «داعش» لا تعني نهايته إذ لا تزال هناك خلايا نائمة وذئاب منفردة يمكن تنشيطها في أي وقت.
ودعا إلى ضرورة دراسة وتحليل البيئة الحاضنة التي تجند وتنتج وترسل الإرهابيين إلى بؤر التوتر، وأيضاً دراسة وتحليل البيئة المستقبلة والراعية والمستعملة للإرهاب، من أجل إيجاد السبل العملية والثقافية لمواجهة الإرهاب.
دعوات في «أصيلة» إلى إصلاح ديني وتربوي وتعليمي في مواجهة التطرف والإرهاب
دعوات في «أصيلة» إلى إصلاح ديني وتربوي وتعليمي في مواجهة التطرف والإرهاب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة