«لا أستطيع شرب اللبن المعلب ولا أطيق تناول المياه الجارية في الحنفيات أو المعلبة المنقولة تحت أشعة الشمس من منطقة إلى أخرى، أنا أريد القليل من اللبن والماء خاصة خلال شهر الصيام من بين المنتجات البيولوجية التي لا تقبل أي منافسة مع المواد والمنتجات المعلبة»... بهذه الكلمات البسيطة في ظاهرها والعميقة في باطنها يبدأ العم أحمد البوجبلي رحلته اليومية في مطاردة الماء واللبن ويسميهم التونسيون «مطاردي الماء واللبن».
وعادة البحث عن الماء واللبن مرتبط أكثر بالمناطق الريفية التونسية، إلا أنها تعدتها إلى بقية المناطق وخاصة الحضرية في ظل ارتفاع الحرارة واشتدادها لتجاوز حدود الأربعين درجة مئوية. ويرى العم أحمد في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن الأمر لا يخلو من تمضية الوقت والقضاء على جانب الروتين في حياته اليومية؛ فالبحث عن العيون الجارية هو عبارة عن رياضة واستكشاف ومتعة للبصر والبصيرة، على حد تعبيره. واحتج بقوة ضد من يرون الأمر دنيويا غايته تعبئة البطن لا غير، وأشار إلى أن الكثير من التونسيين أضاعوا عادات جميلة لمجرد تعرضهم للنقد، وقال: «إنها عادات الآباء والأجداد ونحن هنا للمحافظة عليها».
وعن طريقة حصوله على اللبن المصفى، قال العم أحمد إنه يتجه إلى عمق الأرياف الغابية ويوصي مالكي قطعان الماعز بتحضير اللبن بطريقة تقليدية اعتمادا على «الشكوة»، وهي عبارة عن وعاء جلدي يصنع من جلد الماعز نفسه ويملأ بالحليب ويغلق جيدا قبل أن يخضع لعمليات الخض المتواصل مما يحوله في فترة زمنية قصيرة إلى لبن حلو المذاق على خلاف تام مع اللبن الحامض المعروض حاليا بمعظم الأسواق التونسية.
وقال العم أحمد إنه لبن «دياري» (أي مصدره من الدار)، على حد تعبيره. وأشار إلى عدة مناطق ريفية تونسية في الشمال الغربي التونسي لا تزال تحتفظ بهذه الطريقة التقليدية في إعداد اللبن وخاصة منها «كاف عباد وسيدي المشرق والمحيبس وأولاد حسن والسخيرة وبوجبلة» وكلها مناطق متفرقة تقع بالقرب من مدينة سجنان (110 كلم شمال غربي تونس العاصمة).
وقال: «إن بعض العائلات توزع اللبن مجانا على الأحباب والأصحاب وعابري السبيل خلال شهر الصيام راجين بذلك الحصول على جزاء البر والإحسان».
أما بالنسبة لمياه العيون الجارية، فقد أشار العم أحمد إلى لائحة طويلة من العيون الصافية التي تنبع من جبال الشمال الغربي التونسي وهي، على حد قوله، ذات ملوحة محدودة للغاية وبها الكثير من أسباب الشفاء لمن يعانون أمراض الكلى على وجه الخصوص.
ومن بين تلك العيون عين بوجبلة التي قال عنها إنها تنبع ببركة الولي الصالح سيدي عبد الله بن سعيدان لذلك فمياهها كلها منافع. ونفى أن تكون مشاق السفر مدعاة لثنيه عن التوجه اليومي لجلب المياه الصافية من هذه العين. ودليله على أن مياه تلك العين مباركة أنها تبرد برودة طبيعية خلال أيام الصيف فتفرز ماء عذبا زلالا لا تشبع من تناوله، وهي مع هذا حارة تميل إلى الدفء خلال الأشهر الباردة مما ييسر تناولها في درجات الحرارة المتدنية. وقال إن عين «الضرابين» بجبال هذيل تعد كذلك من أفضل العيون التي يهوون من أجلها التعب والمشقة، على حد قوله.
رحلة بحث يومية عن الماء واللبن في تونس
تجمع بين المحافظة على العادات والهروب من المنتجات المعلبة
رحلة بحث يومية عن الماء واللبن في تونس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة