هوسلر يقدم نصاً مغايراً للسرديات الرسمية

المؤرخ العسكري الأميركي يكتب عن حصار الصليبيين لعكا

حصار عكا... أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة
حصار عكا... أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة
TT

هوسلر يقدم نصاً مغايراً للسرديات الرسمية

حصار عكا... أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة
حصار عكا... أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة

من طروادة إلى القسطنطينية ففيينا وستاليننغراد، يحفل التاريخ العسكري بالحصارات، كنوع خاصٍ من المعارك التي وإن لم تمتلك ألق الحسم السريع بسبب تكاليفها الباهظة، سواء لناحية أعداد الضحايا أو إدارة المجهود اللوجيستي وراء العمليات القتالية، فإنها كانت في أغلب تعاقباتها شديدة الثقل من الناحية الاستراتيجية، التي شكلت علامات على تحولات حادة في مصائر الأمم والحروب، ومفاصل لا يشبه ما قبلها الذي بعدها. ولعل حصار المدينة الفلسطينية عكا، المطلة على شرق المتوسط، لـ653 يوماً (1189 – 1191)، في مفتتح الحملة الصليبية الثالثة، يُعد أهم تلك الحصارات في العصور الوسطى، ليس لناحية كونه أطولها على الإطلاق فحسب، أو حتى للنتائج الاستراتيجية التي ترتبت عليه لمائة عام تالية على الأقل من تاريخ المشرق العربي، وإنما كذلك للهالة (الإعلامية) الهائلة التي رافقته بالنظر إلى «دولية» القوات المنخرطة فيه، وعلو كعب القيادات المشتركة به من الجانبين - ملوكاً وأمراء ونبلاء وقادة عسكريين ورجال دين - وما نسج حوله من أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة، حتى كاد يخرج من سياق ديمومة الصراع المتطاول عبر العصور الوسطى كلها ليصبح وحده مثل نقطة رمزية شديدة التكثيف لتلاقي وتقاطع الشرق – غرب، ما زال كثيرون إلى اليوم يعيشون في ظلالها عندما يقرأون أحداث اليوم السارية.
لأجل ذلك كله كتب الكثير عن حصار عكا، وتتوفر عنه مصادر غربية وشرقية كثيرة، وذكر في كثير من النصوص التي أرخت لتلك المرحلة المخضبة بالدماء والآلام، لكن تلك المصادر والنصوص في أغلبها بقيت، وإلى حد كبيرٍ، أسيرة الأدلجة، وأداة دعائيّة بيد الزعماء وأبناء الطبقات الحاكمة وقت كتابتها، ورهينة الانفعال اللحظي أو العواطف الدينية المتطرفة على جانبي المتوسط. ولذا، فإن كتاب المؤرخ العسكري الأميركي جون دي. هوسلر الجديد «حصار عكا (1189 - 1191): صلاح الدين - ريتشارد قلب الأسد والمعركة التي حسمت الحملة الصليبية الثالثة»، مطبعة جامعة ييل بالولايات المتحدة، 2018، يأتي في وقت تزداد الحاجة فيه ربما أكثر من أي وقت مضى لتفكيك جذور العلاقة المرتبكة بين الشرق - غرب، بعدما تصاعدت موجة الفاشية الجديدة في عالم الغرب، مستندة إلى تلفيقات وهويات منسوجة بالوهم، ديدنها العداء الذي يصور لأذهان العامة وكأنه أمر لا بد منه، ولا مناص، بينما هي في واقعها علاقات أفسدتها مصالح الطبقات الحاكمة التي طالما وظفت الأديان والقوميات والأفكار لتحقيق غاياتها الجشعة، من دون أقل اهتمام بما تتسبب به للشعوب من قهر وعذابات.
ولأن هوسلر عسكري بحكم المهنة، مدرس استراتيجيات بالجيش الأميركي، ومؤرخ احترف تحليل المعارك التاريخية من الجوانب التقنية أساساً، فإن نصه عن وقائع الحصار الشهير يغادر إلى حد كبير مساحات السرد الآيديولوجي المحض، وتهويمات كتاب الملوك والسلاطين، ليغوص في التفاصيل التقنيّة والعسكريّة والسياسيّة للحدث المفصلي، مفككاً السياسة فيه بمعاول طوبوغرافيا الموقع الجغرافي، ولوجيستيات المعركة، ومقارنة النصوص.
بدأ حصار عكا في أغسطس (آب) عام 1189، قبل وصول الزعماء الأوروبيين الثلاثة الذين سيقودون الحملة التي شنتها أوروبا لوقف تداعيات الهزيمة الشاملة التي ألحقها جيش صلاح الدين الأيوبي بجيوش الدويلات الصليبية شرق المتوسط في معركة حطين (فلسطين المحتلة) عام 1187، والتي كان لها أن فتحت الأبواب مشرعة لتحرير مدينة القدس وميناء عكا الهام، إلى جانب استيلاء الفرسان المسلمين على النسخة المزعومة من قطعة الصليب الأصلي بقيمتها الهائلة الرمزية. وكانت بقايا القوات الصليبية في المنطقة قد تجمعت حول عكا، بقيادة غي دي لوزينيان، ملك مملكة القدس، بوصفها رأس الجسر الذي لا بد من استعادته للانطلاق نحو تحرير المدينة المقدسة. فبدأ حصار الحامية الصغيرة للمدينة، بانتظار ريتشارد الأول ملك إنجلترا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، المتجهَيْن عبر البحر نحو الشرق، بينما غرق شريكهم الثالث الإمبراطور الألماني فريدريك بارباروسا في أثناء عبوره أحد أنهار تركياً، وهو الذي خشي ركوب البحر وفضلً الزحف براً.
وقد عسكرت القوات الصليبية حول المدينة، وفرضت عليها حصاراً خانقاً، بينما اقتربت منها القوات الأيوبية، والمتطوعون من أهل المنطقة، وأقامت حلقةً حول القوات الصليبية من دون أن توقف قدرة هؤلاء على استقبال الإمدادات العسكرية والمقاتلين من أوروبا بشكل شبه دائم لتغطية الخسائر المستمرة. ويسجل هوسلر 75 اشتباكاً رئيسياً بين الطرفين خلال عامي الحصار، سقط في بعضها عدة آلاف بين قتيل وجريح، وشهدت أعمال عنف وتعذيب وإعدامات جماعية تفنن كل من الطرفين في إيقاعها بجنود الطرف الآخر بحكم العواطف الدينية المجيّشة، إضافة إلى توظيف مروحة واسعة من أدوات الحرب، وأحدث معدات القتال، وفق تكنولوجيات ذلك العصر، بما في ذلك الخنادق والمدفعية والسفن والغارات وحروب العصابات وغيرها.
ولا يفتقد أي من مراحل حصار عكا إلى العناصر الدرامية، وهي أحداث رُويت بشكل جزئي أو كلي في نصوص أخرى عن تلك المرحلة، لكن هوسلر ينجح بتخليصها من الأساطير والسرديات الرسميّة، ليقدّمها ضمن أشمل نص مُصفى من التباسات التاريخ. فهو مثلاً ينفي نفياً قاطعاً الرواية المتداولة عن اجتماع ريتشارد الأول - سُمي لاحقاً قلب الأسد - بصلاح الدين الأيوبي، وعن صداقة قامت بينهما لدى توقيع اتفاق صلح الرملة 1192، الذي تلا انتهاء حصار عكا وسقوطها بيد الصليبيين. كما يُخفف هوسلر من اللوم التاريخي الملقى على عاتق ريتشارد الأول لقراره إعدام 2700 من حامية المدينة التي استسلمت، ملقياً بحصة متساوية من المسؤولية عن المذبحة على القائد الأيوبي لـ«تلكئه المقصود»، كما يزعم، في تسليم الأسرى الصليبيين لريتشارد، وفق الاتفاق المبرم بينهما في هذا الخصوص. وهو يرسم صوراً شديدة الحيوية للمناورات السياسية من كثير من الشخصيات الهامة التي كانت طرفاً في إدارة المعارك بين الجانبين. وهو في ذلك يقلل من اللمعان الشديد الذي منحه المؤرخون لدور الملك ريتشارد الأول في إدارة الحصار، بينما يعيد الاعتبار لدور فيليب الثاني - ملك فرنسا - والقائد عديم الكاريزما الذي كان قد وصل إلى فلسطين قبل ريتشارد، وتعاون معه بإخلاص لمصلحة المعركة، رغم التنافس الدائم بين الأسر المالكة على جانبي القنال الإنجليزي. لكن ريتشارد الأول كان دون شك خبيراً بالعلاقات العامة، ونجح بالحصول على حمد أكثر حتى قبل وصوله إلى الأراضي الفلسطينية، بالنظر إلى خطوته الاستراتيجية في احتلال قبرص، التي تحولت إلى قاعدة خلفية بالغة الأهمية لتنسيق الأعمال القتالية، إضافة إلى حفل زواجه الباذخ في الطريق، وتمكن أسطوله من إغراق سفينة كانت تحاول إيصال الإمدادات للحامية المحاصرة داخل المدينة.
لم يُوفق ريتشارد الأول في استعادة مدينة القدس - الهدف الرسمي المعلن للحملة الصليبية الثالثة - لكن سقوط ميناء عكا في يد الصليبيين منح دويلتهم المسماة مملكة القدس فرصة البقاء لمائة عام تالية، قبل أن تستعيده قوات المماليك عام 1291، وتلك بالطبع حكاية أخرى تحتاج إلى هوسلر آخر يرويها. حتى ذلك الحين، فإن نقل كتاب (حصار عكا) إلى العربية مهمة عاجلة وهامة وجليلة.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».