ماذا تعني الأخلاق وكيف تتغير؟

الفيلسوف بول دروا يبحث في أصولها وتفسيراتها المختلفة

ماذا تعني الأخلاق وكيف تتغير؟
TT

ماذا تعني الأخلاق وكيف تتغير؟

ماذا تعني الأخلاق وكيف تتغير؟

للمركز القومي للترجمة سلسلة بعنوان «الأفكار الكبرى للشباب» وهي تضم لائحة من الكتب المترجمة للعربية والموجهة للناشئة، لما تتميز به من تبسيط وسهولة في التناول. ومن الكتب المترجمة الصادرة حديثاً، كتاب للفيلسوف والناقد الأدبي روجيه بول دروا (Roger - Pol Droit) بعنوان: الأخلاق مفسرة للجميع (L›éthique expliquée a tout le monde)، نقلته للعربية الدكتورة نهيلة بسيوني وراجعته دينا مندور بعنوان اقتصر على: «الأخلاق».
يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة يظهر فيها أن لفظة أخلاق قد أصبحت مستخدمة على نطاق واسع، وفي كل المجالات، فهي تحضر بقوة في المال والأعمال نظرا للأزمات التي تستوجب القواعد، وفي الرياضة نظرا لانتشار المنشطات التي تدمر المنافسة الشريفة، وفي وسائل الإعلام حيث كثرت المعلومات الكاذبة وأحيانا المضللة والمغرضة، وفي مجال الطب الذي أصبح مسرحا لمنجزات تهدد بمسار إنساني غير معهود خاصة مع الثورة الجينية الهائلة... لكن يضيف المؤلف أن حضور كلمة أخلاق بشكل بارز وفي كل قطاعات الحياة، لا يعني دائما أنها واضحة الدلالة، ولهذا السبب بالضبط أصدر هذا الكتاب بسؤال محوري هو: ماذا نقصد بالضبط حين يتعلق الأمر بالأخلاق؟
كجواب على هذا الإشكال، قسم المؤلف كتابه، الذي لا يتجاوز 93 صفحة، إلى 6 فصول.
جاء عنوان الفصل الأول بعنوان: «مغامرات كلمة»، حيث عمل المؤلف على الحفر في جذر كلمة أخلاق عائدا إلى جذورها اليونانية والرومانية، محاولا التفرقة من جهة بين مصطلح: MORALE الذي يعني كل المعايير والقواعد الموروثة والمتعارف عليها منذ القديم، أي هو تلك الأحكام سابقة الإعداد والتشكل... ومن جهة أخرى مصطلح ETHIQUE الذي أصبح يعني كل المعايير والقواعد، لكن قيد الإنجاز والإعداد بل التعديل أحيانا، إنها بمثابة حدود مبتكرة يصنعها الإنسان لمجابهة التغيرات الطارئة والحالات التي لم تكن معلومة بالنسبة للأجيال السابقة كالتخصيب في المختبر، وآلام الحامل بطفل لامرأة أخرى، والاستنساخ... ناهيك بكل الأزمات البيئية التي يعيشها كوكبنا... وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الباحثين الذين يكتبون بالعربية يحتفظون بلفظة «إتيقا» كما هي، للتمييز بينها وبين الأخلاق بالمعنى المتوارث.
أما بخصوص الفصل الثاني فكان بعنوان: «مجال بلا حدود»، حيث وضح فيه المؤلف كيف أن سلوكيات الإنسان يمكن فهمها ومقاربتها بيولوجيا ونفسيا واقتصاديا ومعنويا... لكن يمكن أيضا وضعها في ميزان أخلاقي حينما نطرح سؤالا: ماذا علي أن افعل؟ كيف يمكنني أن أتصرف؟ ما هو الاختيار الأفضل؟ وفي حالة الاختيار، فعلى أي أساس وبأي معيار يتم التصنيف؟ فالمنتقم يعتبر سلوكه المؤذي والمليء بالغل والكره هو الأفضل، ونفس الأمر يقال عن اللص والمجرم والديكتاتور فكل هؤلاء يريدون الأفضل. إن هذا الفصل من الكتاب جاء ليؤكد على تعقيد سؤال الأخلاق، أي كيف علينا أن نتصرف؟ وأنه يصيب كل المجالات ويتخلل كل تفصيل في الحياة صغيرا كان أو كبيرا، فرديا أو جماعيا، محليا أو دوليا؟ كما يركز المؤلف على أن الاختيار بين البدائل في السلوك ليس هو المشكلة بالضبط، بل الأساس المعتمد في الاختيار هو أخطر قضية في الأخلاق، فنحن نحتاج إلى التبرير الذي نُشرعِن من خلاله الإقدام على تصرف دون آخر، بل إن الاختيار الذي يقدم عليه المرء بتلقائية ودون تفكير هو أيضا مشحون ولا يخلو من أخلاق، لأنه يقدم نموذجا للآخر، فنحن لا نتصرف لحسابنا فقط، إنما نقرر أيضا بشكل غير مباشر للآخرين وللعالم كله، حتى في سلوكياتنا شديدة الأنانية نشرك فيها الغير، وهو الأمر الذي عبر عنه الفيلسوف الوجودي: جون بول سارتر بعبارة شهيرة وهي: «عندما أختار نفسي فإني أختار الإنسان». بل حتى لو قررت الانزواء في ركن والادعاء أني أعيش بالمفرد، فإني أقدم مثالا للأفضل. باختصار كل اختيار هو تقديم لنموذج، إنه اقتراح للأفضل. إذن، لا سلوك يخلو من الأخلاق.
الفصل الثالث «بين الدين والفلسفة» خصصه المؤلف للبحث في مصدر الأخلاق؟ ليحدد لنا 4 أجوبة وهي: أولا، الأخلاق ليست من صنع البشر، فهي سابقة عليهم وخارجة عن إرادتهم، فهي موجودة في عالم آخر مواز وهو ما عبر عنه مثلا أفلاطون بعالم المثل، فالخير خير دائما، وجد الإنسان أو لم يوجد، فهو كذلك في ذاته. ثانيا الله هو مصدر الأخلاق فهو من اختارها وصاغها وأرسلها إلى البشر عبر رسله، وليس عليهم إلا التطبيق والتنفيذ. ثالثا الأخلاق هي نتاج الطبيعة الإنسانية وليست شيئا غريبا عنهم أو يأتي من عالم مفارق، فلكي نعرف الخير والشر، ليس علينا أن نفكر طويلا، ولا أن نتبع نصائح رجل الدين. إنما نستشعر ذلك بشكل عفوي، بحركة طبيعية وهنا يستحضر المؤلف الفيلسوفين جون جاك روسو وشوبنهاور اللذين جعلا من الرحمة والشفقة منطلقا للأخلاق، فحينما نرى طفلا يقترب من السقوط في بئر، فإننا نسارع لإنقاذه بعفوية ودون سؤال عن من هو الطفل ومن أين جاء ومن والده...؟ فالأمر فطري تماما وجزء من جبلتنا الأصيلة، بل حتى من نرى فيهم قسوتهم وغلظتهم، فهم فقط قد دربوا أنفسهم على قتل صوت الطبيعة فيهم. أما رابعا وأخيرا، يعد أصل الأخلاق بشريا خالصا، فهي صناعة تاريخية تمت مع احتكاك الإنسان بالعالم ومروره بظروف وتقلبه بين ثقافات متعددة، بل هي مجرد تمرد على العبثية وقسوة المصير الإنساني، لأن الإنسان هو فقط من يسعى إلى وضع المعنى في عالم يغيب عنه المعنى، فالكرامة والخير والعدل وكل القيم هي صرخة ضد مأساوية المآل الإنساني، وهذا رأي من آراء الوجودية وخصوصا عند ألبير كامي.
إذا اتجهنا صوب الفصل الرابع، فنجده يتحدث عن الأخلاق من حيث الواجب أو النتائج، بمعنى هل العبرة في اختيار السلوك يجب تكون لذات السلوك أو لنتائجه؟ فحينما أنقذ طفلا يغرق، لكن أفشل في ذلك! فهل أحكم على سلوكي بأنه فاضل؟ فيلسوف ككانط سيجيب بنعم. فالأساس هو الفعل الأخلاقي بصرف النظر عن النتائج. هذا تصور يدخل في إطار فلسفة «الواجب لذاته» لكن في مقابل ذلك هناك من لا يهتم بالسلوك إلا من جهة المردود المترتب عنه، فاختراع طبي مثلا تكمن قيمته من حيث ما سيجنيه كثير من المرضى من علاج على الرغم من أن مكتشف العلاج كان طامعا في الثروة. وبالطبع لا ينسى المؤلف أن يتحدث عن انعكاس هذين التصورين على مسألة السعادة وبشكل مباشر، فالتصور الذي يتحرك بمنطق الواجب لذاته قد يفضي إلى التعاسة والبؤس وليس بالضرورة إلى السعادة، فالأخلاق في هذه الحالة تأخذ منك أكثر مما تعطيك، فإن تعترف لأن الاعتراف فضيلة، قد يقودك إلى السجن مباشرة.
أما الفصلان الخامس والسادس فقد خصصهما المؤلف لما يسمى بالأخلاق التطبيقية وهي مختلفة عن الأخلاق العامة، على اعتبار أن هذه الأخيرة تحاول أن توضح المبادئ الكبرى وأسس الخير والشر التي يمكن من خلالها توحيد عمل الإنسان. أما الأخلاق التطبيقية والتي كثر استعمالها في السنوات الأخيرة، فهي محاولة لإلغاء الفجوة بين المبادئ العامة والحالات الملموسة الطارئة على البشرية. فظهور الأنظمة الشمولية، وتهديد البشر بالفناء، وتلوث البيئة وظهور التكنولوجيات الطبية والطفرة الهائلة في الهندسة الوراثية والتعديل الجيني... كلها أمور جديدة وغير معهودة عند الأجداد، وتحتاج تفكيرا جماعيا ودوليا واتفاقا في الأسس من أجل اختيار أفضل. واختيار الأفضل هي قضية الأخلاق الأولى. فلا هرب إذن، من الأخلاق!


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.