نيكاراغوا أمام خياري الإصلاحات... أو المجهول

ما تبقى من تجربة دانييل أورتيغا «الثورية» أمام الامتحان الأصعب

نيكاراغوا أمام خياري الإصلاحات... أو المجهول
TT

نيكاراغوا أمام خياري الإصلاحات... أو المجهول

نيكاراغوا أمام خياري الإصلاحات... أو المجهول

ثمّة بلدان تبدو محكومة بقَدَر الطغاة. يتعاقبون عليها فصولاً من القهر والعذاب. يأكلون من لحم أبنائها، ويطردون الأحلام من أهدابهم كلّما أطلّت مواسم التغيير والآمال. نيكاراغوا من هذه البلدان، التي ما إن تطوي مأساة حتى تبدأ بالاستعداد لمواجهة أخرى. تهدر فيها الفرص والطاقات، وتحرق الوعود المؤجلة باستمرار.
خلال زيارتي الأولى إلى نيكاراغوا بعد انتصار «الثورة الساندينية» عاينت بلداً من أجمل بلدان القارة الأميركية، وشاهدت كيف كانت عائلة الطاغية أناستاسيو سوموزا تمارس الحكم بوحشية لا نظير لها، وتتصرّف كما لو أنها تملك البلد بأكمله، لا رقيب أو حسيب. على فظائعها مطمئنة إلى دعم الولايات المتحدة التي كانت يومها تعتبر أميركا اللاتينية بأسرها «حديقتها الخلفية»، لها فيها الربط والحلّ.
كان مستحيلاً ألا تتفجر ثورة في كل شبر من تلك الأرض المعذّبة. كانت مسألة وقت، إلى أن قامت مجموعة من الشبان الجامعيين والمزارعين بتأسيس «الجبهة الساندينية للتحرير الوطني» عام 1961، مستلهمة نضال الجنرال أوغوستو ساندينو، الذي تمكّن على رأس مجموعة من الثوّار من طرد القوات الأميركية التي كانت تحتل نيكاراغوا عام 1934. لكن واشنطن كانت قد عمدت قبل سحب قواتها إلى تشكيل قوة عسكرية عالية الدربة هي «الحرس الوطني»، وعيّنت قائداً لها الجنرال سوموزا، الذي كان اغتيال ساندينو أولى العمليات التي نفذها بعدما تسلّم مهامه.
طويلة ومكلفة كانت حرب العصابات التي شنتها «الجبهة الساندينية» من الأرياف في نيكاراغوا، ضد نظام الطاغية السابق أناستاسيو سوموزا. وفي نهاية المطاف، اضطر سوموزا للهرب من العاصمة صيف عام 1979، ليدخلها ثوار «الجبهة»، وعلى رأسهم «الكوماندانتي» دانييل أورتيغا، الذي كان سوموزا قد أفرج عنه قبل سنوات، في أعقاب اعتقاله إثر محاولة للسطو على أحد المصارف مع مجموعة من الثوار. ومن ثم، جرت مقايضة أورتيغا وعدد من رفاقه مقابل إفراج «الجبهة الساندينية» عن مسؤولين كبار احتجزتهم، بعدما اقتحمت إحدى مجموعاتها المسلحة منزل حاكم البنك المركزي، الذي كان يستضيف السفير الأميركي وشقيق سوموزا.
ترأس أورتيغا «حكومة الإعمار الوطني» التي تشكلت في نيكاراغوا بعد سقوط سوموزا، وتولّى شقيقه أومبرتو قيادة القوات المسلحة حتى إجراء الانتخابات الأولى عام 1984. في هذه الانتخابات فاز دانييل أورتيغا ليصبح أول رئيس للجمهورية، ويعلن قيام نظام اشتراكي ماركسي – لينيني، كان يتلقّى الدعم الفني والعسكري من كوبا، ومساعدات مالية سخيّة من ليبيا التي منحته «وسام القذافي الدولي لحقوق الإنسان»!.
إلا أن سياسات الاقتصاد الموجه التي انتهجها أورتيغا، وعملية الحصار الخانق الذي فرضته عليه واشنطن كالذي كان مفروضاً على كوبا، أدّت إلى أزمة اجتماعية ومعيشية خطيرة، تصاعدت معها الضغوط الإقليمية والدولية عليه، إلى أن أُجبر على الدعوة إلى إجراء انتخابات عام 1990. في هذه الانتخابات فازت قوى المعارضة بقيادة رفيقته السابقة في «الجبهة» فيوليتا تشامورو، التي كانت قد انشقت عنه مع نائبه سيرجيو راميريث، الكاتب المعروف الذي فاز بجائزة ثرفانتيس العام الماضي.
- أورتيغا: المنعطف الكبير
تلك الهزيمة في الانتخابات كانت المنعطف الذي بدأت عنده مرحلة التحوّل الشخصي والسياسي الأعمق والأغرب عند أورتيغا، ومعها رحلة الابتعاد عن الجذور والانتماءات الآيديولوجية الأولى.
إذ راح الزعيم الثوري ينأى عن دائرة التأثير الكوبي، وينسج علاقات مع مراكز النفوذ المالي والاقتصادي والحركات الدينية المحافظة. كذلك قرر الاستعاضة عن نشيد «الجبهة الساندينية» بسيمفونية بيتهوفن التاسعة. ثم عاد ليفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2006، ويعيّن رفيقته آنذاك وزوجته حالياً، روزاريو موريّو نائباً له، بعدما كان معظم رفاق دربه قد انشقّوا عنه أو انضموا إلى المعارضة.
وعندما فاز مجدداً في انتخابات عام 2011، كان أورتيغا قد رسّخ أسس نظام حكم ديكتاتوري يمسك فيه بمقاليد القرار السياسي والعسكري والمالي، ملغياً هامش المناورة وقنوات الحوار مع الخصوم والمعارضة، ومصرّاً على قمع الاحتجاجات أيا كانت مصادرها أو دوافعها.
أخذ يتجاهل كل الانتقادات التي تستهدف أسلوب حكمه التوتاليتاري، والقمع الذي تمارسه أجهزة الأمن التابعة له مباشرة في حق المعارضين، والثروة الطائلة التي جمعتها أسرته، والفساد المستشري حوله، والتهم التي وجهتها ضده مؤسسات دولية بالتعامل مع المنظمات الإجرامية لتهريب المخدرات، مثل «كارتل» بابلو أسكوبار الكولومبي، لتمويل حزبه وأعوانه. ورغم التحذيرات والنصائح التي وجهتها لأورتيغا جهات إقليمية ودولية عدة، إزاء تدهور الأوضاع المعيشية والاجتماعية، وارتفاع مستوى الفقر ومنسوب الاستياء الشعبي، فإنه ترشّح للانتخابات مرة أخرى عام 2016، وفاز بنسبة 75 في المائة من الأصوات، ما أثار موجة عارمة من الاحتجاجات أخمدها بيد من حديد بسرعة قياسية.
- مفتاح ما يجري اليوم
هذه الوقائع التاريخية التي تعاقبت منذ سنوات في مسرى دانييل أورتيغا السياسي والشخصي، هي المفتاح الوحيد لقراءة ما يحصل اليوم في نيكاراغوا، ويهدد بإغراقها مجددا في حمام آخر من الدم والدمار.
يوم 18 أبريل (نيسان) الماضي، أصدر أورتيغا مرسوماً رئاسياً بتعديل نظام الضمان الاجتماعي؛ بحيث يخدم مصالح أصحاب العمل، ويحرم الطبقات الفقيرة والفلاحين والطلاب من تعويضات مالية وخدمات أساسية باهظة التكاليف في القطاع الخاص. تلك كانت الشرارة التي أشعلت النار في هشيم الأوضاع المتأزمة من سنوات، فانطلقت مظاهرات حاشدة في معظم أنحاء البلاد، يتقدمها الطلاب والفلاحون مطالبين بإلغاء المرسوم الذي لم يناقش في البرلمان، وباستقالة أورتيغا، والدعوة إلى إجراء انتخابات حرة بمراقبة دولية.
لم يستطع أورتيغا أن يتحمّل مشهد المظاهرات الحاشدة التي تطالبه بالاستقالة في كل أنحاء البلاد، والتي عادت به سنوات إلى الوراء، عندما كان يتزعّم الاحتجاجات ضد نظام سوموزا، فأمر قواته بقمعها من غير رحمة. وأدى القمع الدامي إلى سقوط أكثر من 80 قتيلاً خلال الأيام الثلاثة الأولى، معظمهم من الشباب الذين أصيبوا بطلقات نارية في رؤوسهم أو صدورهم.
الشهود الذين عاينوا عمليات القمع أصيبوا بالهلع إزاء تلك المشاهد التي استحضرت عهد سوموزا، بينما سارعت الكنيسة الكاثوليكية النافذة في نيكاراغوا إلى مطالبة أورتيغا «بسحب قواته فوراً من الشوارع، ووقف أعمال القتل والاعتقال العشوائي» كشرط أوّلي لبدء الحوار مع القطاعات المحتجة.
- تفاوض تحت الضغط
وبعد ثلاثة أسابيع من المماطلة والتسويف والمراهنة على تراجع حدة الاحتجاجات التي لم تهدأ، أعلن أورتيغا أنه مستعد «للتفاوض من أجل التوصل إلى مخرج من الأزمة السياسية» التي بدأت تضرب الاقتصاد الضعيف. إذ قدّر البنك المركزي أن الخسائر التي نجمت عن الاضطرابات بلغت 350 مليون دولار، وأن ودائع بمقدار 300 مليون دولار قد سُحبت من المصارف في الأسابيع الثلاثة الماضية. هذا، وكان الفلاحون والمنظمات الطلابية قد قطعوا معظم الطرقات الريفية المؤدية إلى العاصمة التي ما زالت شبه معزولة عن بقية المناطق. وطالبت الكنيسة أورتيغا بالإسراع في الإقدام على خطوات إصلاحية توسّع إطار الحريات والديمقراطية.
أما رئيس اتحاد المنتجين والمزارعين، فهو يرى أن المفاوضات لا بد أن تؤدي إلى «تنحّي أورتيغا أو استقالته، وتشكيل حكومة جديدة تعيد النظام والاستقرار، وتدعو إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة». وهدّد، في حال فشل المفاوضات، بشل الحركة الإنتاجية في البلاد، والدعوة إلى «إضراب عام مفتوح إلى أن تسقط الحكومة».
في المقابل، توقّف المراقبون باستغراب عند التصريحات الأخيرة التي صدرت عن أورتيغا، عندما قال إن حكومته تسعى إلى الحوار والسلام، مشيراً إلى المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي أخيراً، وذهب ضحيتها عشرات القتلى من الفلسطينيين في غزة. إلا أنه لم يتطرّق إلى عشرات القتلى الذين سقطوا في نيكاراغوا برصاص قوات الأمن والقناصة، والجماعات شبه العسكرية الموالية له في الأسابيع الأخيرة، بل سقط أمس فقط أكثر من 100 قتيل.
- الغالبية مع رحيله
وفق استطلاع للرأي نُشر أخيراً، أفاد الاستطلاع بأن 70 في المائة من المواطنين يؤيدون رحيل أورتيغا، نصفهم من «الساندينيين» الذين يعتبرون أنه قد خان مبادئ الثورة، وأنه يدفع بالبلاد نحو وضع مشابه لوضع فنزويلا.
ومن جانب آخر، يحذّر مراقبون دبلوماسيون في العاصمة ماناغوا، من أن الجنوح الديكتاتوري في مسار أورتيغا، وسيطرته الكاملة على أجهزة الأمن والقوات المسلحة، من العوامل التي قد تدفعه إلى تصعيد القمع، إذا ما شعر بأن استمراره في الحكم بات مهدداً، ومن ثم، يفتح أبواب الأزمة على مصاريعها وأسوأ احتمالاتها.
واللافت أن أورتيغا يتنقّل منذ بضع سنوات في سيارة فاخرة مصفّحة، بعكس ماضيه الثوري، عندما رافقه كاتب هذه السطور في إحدى جولاته الانتخابية بالمناطق الريفية على صهوة حصان، ويصافح مؤيديه من غير حراسة.
كل المراقبين الذين يتابعون عن كثب تطورات الأزمة في نيكاراغوا، يجدون صعوبة في تحديد التوقعات بشأن الخطوات التي يمكن أن يُقدم عليها أورتيغا، الذي تنقّل بسهولة وبراعة - ونجاح حتى الآن - في كل السيناريوهات السياسية الممكنة. ثمّة من يرجّح نزوعه إلى استخدام مزيد من العنف لقمع الاحتجاجات، مراهناً على تراجع حدتها مع مرور الوقت، والإنهاك الطبيعي للمشاركين فيها. ولقد تعرّضت مظاهرة سلمية حاشدة لأمهات الذين سقطوا في احتجاجات الأسابيع الماضية، كانت تجوب الوسط التجاري في العاصمة يوم الأربعاء المنصرم، إلى قمع وحشي على يد أجهزة الأمن ورصاص القناصة، بينما كان الرئيس يعلن من مقر قيادة القوات المسلحة: «نيكاراغوا لنا جميعاً، وفيها سيبقى جميعنا»، في رد مباشر على المطالبين برحيله. إلا أن آخرين يرون أنه إذا ما أحسن قراءة الأحداث، وأصاب في تقدير تفاعلاتها - انطلاقاً من تجربته الخاصة - سيخلص حتماً إلى أن أيامه ستكون معدودة، ما لم يسارع إلى تقديم تنازلات وإجراء إصلاحات جذرية في نظامه.
- عنصر الشباب
صحيح أن السواد الأعظم من الذين يخرجون إلى الساحات في المظاهرات الحاشدة ويسقطون برصاص قوات الأمن، هم من الشباب الذين لم يعرفوا عن «الثورة الساندينية» سوى القليل مما سمعوا أو قرأوا عنها. غير أن الثورة هي في الحامض النووي للنيكاراغويين الذين يعرفون أنها قامت قبل أي شيء لأسباب أخلاقية، ضد طاغية أمعن لسنوات طويلة في قتل الشباب المعارضين الذين كانت أجسادهم تُرمى في حفرٍ مكشوفة عند أرباض العاصمة، حيث كانت الأمهات يتهافتن كل صباح بحثاً عن المفقودين من أولادهن.
بعض الشعارات التي يرفعها المتظاهرون العُزل اليوم في وجه قوات الأمن، تكفي لإعطاء فكرة عن تصميم «أحفاد» الثورة، على إسقاط الذي قادها وأصبح اليوم أكبر خائنيها.
أحد الذين سقطوا في اليوم الأول من الاحتجاجات كان قد كتب على قميصه «أخذوا منّا كل شيء، بما في ذلك الخوف»... بينما كانت شابة حامل تتقدم إحدى المظاهرات في ماناغوا، وعلى بطنها الجملة التالية: «... فلتستسلم أمّك؛ لأن أمي لن تستسلم».
- أضواء على نيكاراغوا... وبطلها القومي ساندينو
> تقع نيكاراغوا في أميركا الوسطى، بوسط البرزخ الذي يفصل بين المحيط الهادي والبحر الكاريبي. وتمتّد على مساحة 130 ألف كيلومتر مربع فوق أرض بركانية استوائية المناخ، تهطل عليها الأمطار الغزيرة بانتظام كل ظهيرة، لتروي حقول البنّ الذي يشكّل عماد الاقتصاد (65 في المائة من الصادرات)، وتغذّي بحيرة كوثيبولكا... أكبر خزّان للمياه العذبة في عموم أميركا الوسطى.
لا يختلف تاريخ نيكاراغوا كثيراً عن تاريخ شقيقاتها في الأميركتين الجنوبية والوسطى، من حيث حقبة الاستعمار الإسباني، وحروب التحرير الوطنية، والنفوذ الواسع للولايات المتحدة في شؤونها السياسية والاقتصادية. إذ نزل فيها المستعمرون الإسبان مطالع القرن السادس عشر الميلادي، وأتبعوها مباشرة بالإدارة المركزية للإمبراطورية حتى أواسط القرن التاسع عشر، لتغدو بعد ذلك إحدى المقاطعات الملحقة بالإمبراطورية المكسيكية الأولى، بموجب مقايضة بين المكسيك وإسبانيا.
بعد هزيمة المكسيك في حربها ضد الولايات المتحدة، نالت نيكاراغوا استقلالها عام 1838، ودخلت في دوّامة طويلة من الاضطرابات السياسية والعنف الأهلي بين المحافظين والليبراليين. ومهّدت هذه الدوّامة لتمدّد نفوذ واشنطن الذي استمرّ حتى ظهور البطل القومي أوغوستو ساندينو، الذي تمكّن بعد حرب عصابات طويلة، من طرد القوات الأميركية نهائياً عام 1933، ليترك بصماته على كل الأحداث التي تعاقبت على نيكاراغوا إلى اليوم.
- ساندينو... البطل التاريخي
وُلد أوغوستو سيزار ساندينو في بلدة نيكينومو عام 1895، وكان ابناً غير شرعي لأحد مزارعي البن الأثرياء وخادمة كانت تعمل في منزله. هجرته أمه وهو بعد في التاسعة، فذهب ليعيش في كنف جدته، ثم عاد إلى مزرعة والده، حيث اضطر للعمل في حقول البن مقابل قوته ومسكنه. ولقد جاء في سيرته أن الحادثة التي غيّرت مجرى حياته - لشدة تأثيرها فيه - كانت عندما شاهد جثة قائد القوات المتمردة على النظام الذي كانت تدعمه واشنطن، ممددة على عربة يجرّها ثوران، ويواكبها عدد من المزارعين الحفاة، في الطريق إلى دفنه في مسقط رأسه.
عام 1921 اضطر ساندينو للهرب من نيكاراغوا بعد إطلاقه النار على أحد وجهاء بلدته، كان قد عيّره بوالدته. وراح من ثم يتنقّل من هندوراس إلى غواتيمالا والمكسيك، حيث عمل في حقول النفط ومزارع الموز وقصب السكّر. وفي المكسيك - بالذات - نضجت أفكاره السياسية المناهضة للإمبريالية، وعاد إلى نيكاراغوا عام 1926 بعدما سقط الحكم القضائي عنه بالتقادم، وانضمّ إلى القوى المعارضة للتدخل الأميركي، وبدأ نضاله المسلح مع مجموعة من رفاقه، زّودتهم بالبنادق بعض المومسات في ميناء بلدة كابيثاس.
وبينما كانت أعداد الثوار التابعين لحركته تزداد، كان عدد قوات «المارينز» (مشاة البحرية) الأميركية في نيكاراغوا قد وصل إلى خمسة آلاف، يؤازرهم 460 من الضباط والخبراء العسكريين المشاركين مباشرة في المعارك ضد القوات المتمردة.
في عام 1928، أبرم الليبراليون الذين كانوا يدعمون القوات المتمردة ضد الحكومة المحافظة، صفقة مع الأميركيين، تسلّموا الحكم بموجبها مقابل سحب تأييدهم للثوار. لكن ساندينو رفض الصفقة وانسحب إلى معقله والقاعدة الرئيسية لقواته، وقال جملته الشهيرة: «إنا لا أُباع ولا أستسلم. الحرية لبلادي أو الموت». وتقاطر التأييد عليه من الأرياف والمناطق الفقيرة، حتى بلغ عدد المقاتلين بإمرته ستة آلاف خلال أقل من ثلاثة أشهر، بسبب الغضب الذي كان يجتاح المناطق التي تحتلها قوات «المارينز» نتيجة لأعمال التنكيل والاغتصاب في حق المواطنين. ولذا اضطر الأميركيون إلى استخدام الطيران لقصف المناطق السكنية، في المدن التي كان ثوار ساندينو يحاصرون «المارينز» فيها.
وفي حين كانت قوات «المارينز» تتأهب للانسحاب من نيكاراغوا، بفعل الهزائم المتلاحقة اللاحقة بها، كان الرئيس تيودور روزفلت يحاول إنهاض أميركا من الأزمة المالية الكبرى، فأعلن سياسة «حسن الجوار»، وقرّر سحب القوات الأميركية من منطقة الكاريبي، بما فيها نيكاراغوا. وبعد انسحاب القوات الأميركية عرض ساندينو السلم على رئيس الجمهورية والانصراف إلى الإعمار، فتجاوب الرئيس مع الطلب، وأعلنت نهاية الحرب في 2 فبراير (شباط) 1922.
في تلك الفترة كان على رأس القوات المسلحة في نيكاراغوا الجنرال أناستاسيو سوموزا، العميل الأول لواشنطن، الذي كان يخطط منذ أسابيع لاغتيال ساندينو. ويوم 2 فبراير 1934، بينما كان ساندينو يغادر مع بعض معاونيه منزل رئيس الجمهورية (والد زوجة سوموزا) ألقت القبض عليه ثلّة من العسكريين، واقتاده أفرادها خارج العاصمة، حيث أعدم رمياً بالرصاص أمام حفرة كانت معدّة سلفاً لدفنه.
غير أن موت ساندينو لم ينهِ إرثه؛ بل صار عنواناً للوطنية، وحملت اسمه الجبهة الثورية التي أسقطت بعد عقود ديكتاتورية عائلة سوموزا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.