أحدَثَ التقرير الدوري السنوي الصادر عن ديوان المحاسبة في ليبيا، ردود فعل غاضبة في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية، بعدما كشف عن وقائع فساد وتبديد للمال العام على كل المستويات، بداية من «إبرام تعاقدات بمليارات الدينارات دون وجه حق»، وإهدار مليار و200 مليون دينار لدى صندوق موازنة الأسعار، فضلاً عن استئجار طائرات خاصة لتنقلات المسؤولين السياسيين دون ضرورة.
وطرح التقرير المكون من 920 صفحة، الذي استعرض تفاصيله رئيس الديوان خالد شكشك، تساؤلات عدة عن القنوات التي أنفقت فيها حكومتا الوفاق الوطني، في طرابلس العاصمة بـ(غرب البلاد)، والمؤقتة، في مدينة البيضاء بـ(شرق البلاد)، 278 مليار دينار (204 مليارات دولار) في 5 سنوات، في ظل شكوى المواطنين المستمرة من تردي أوضاعهم المعيشية، وانعدام السيولة في البنوك، واعتبر الرئيس الأسبق للمؤسسة الليبية للاستثمار، محسن الدريجة، أن «هذا الوضع لا يمكن السكوت عليه»، وقال: «نحن نفوّت فرصة ذهبية تجعل ليبيا مكاناً مغرياً للاستثمار والتنمية».
ولخّص الدريجة، الذي يقيم في لندن، خلال حديث إلى «الشرق الأوسط» جانباً كبيراً من هذا الفساد، حيث أوضح أن من أبرز مجالات هدر الموارد الليبية ما يتم دفعه من رواتب إضافية لنواب في مجلسي النواب بهدف «شراء الولاءات لأغراض سياسية».
وأوضح التقرير، الصادر الأربعاء الماضي، أن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني أنفق خلال 2017 ما قيمته 3.273 مليون دينار على أعضاء من مجلسي النواب والأعلى للدولة، كقيمة تذاكر سفر وإقامات في الفنادق، ومبالغ مالية كبدل للسفر. كما دفع نحو 15 مليون دينار لـ57 عضواً من الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور كمرتبات، بواقع 617 ألف دينار لكل منهم عن 39 شهراً على الرغم من أنها جهة غير مدرجة مع الجهات الممولة من الخزانة، واعتبر خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» أن هذه بمثابة «مخالفة كبيرة تستوجب استرداد الأموال التي صُرفت على هؤلاء النواب».
وقال ديوان المحاسبة إن طريقة الإنفاق وعدم التوجيه الصحيح للأموال تتسبب في تأزم الوضع الاقتصادي في السنوات الأخيرة، مذكِّراً بأن قيمة السُّلَف الموجهة من المصرف المركزي للدولة وصلت إلى 11 مليار دينار.
وقال الرئيس الأسبق للمؤسسة الليبية للاستثمار، محسن الدريجة، لـ«الشرق الأوسط» إن «المال العام الليبي يُبدد على جميع المستويات، ومن أطراف كثيرة».
واستهل الدريجة رؤيته بالحديث عن جانب من الهدر في أموال الدولة «بسبب التوظيف في القطاع العام، دون أي مردود على البلاد»، وقال إنه «يتم دفع رواتب لأكثر من 80 في المائة من الليبيين في سن العمل، في حين تشير بعض الدراسات إلى أن إنتاجية الموظف في القطاع تعادل ربع ساعة في اليوم»، علماً بأن إجمالي المرتبات يكلِّف الدولة سنوياً 21 مليار دينار يتقاضاها 1.8 مليون موظف.
واستكمل: «القطاع العام يوزع رواتب دون مقابل، فكيف يستطيع القطاع الخاص أن يستقطب العاملين؟ هذه الأجواء تقضي على القطاع الخاص».
وكشف تقرير ديوان المحاسبة عن أنه تم صرف مليار و200 مليون دينار لصندوق موازنة الأسعار، إلا أنه لم يقم بعمله، كما تطرق الديوان إلى بعض الشركات التي تورطت في عمليات فساد، ما دفع شكشك إلى التهديد بأنه سينشر أسماء تلك الشركات في حال إخفاق السلطات في ليبيا في اتخاذ الإجراءات القانونية مع «المتهمين بالفساد».
ولم تقف اتهامات ديوان المحاسبة عند هذا الحد، بل إنه أشار إلى أن وزيراً في الحكومة المؤقتة (في مدينة البيضاء بشرق البلاد، ولم يذكر اسمه) ألزم الدولة بدفع 450 مليون يورو لصالح شريك أجنبي ثبت تورطه في قضايا فساد، الأمر الذي دفع الخبير الاقتصادي الليبي في البنك الأوروبي، عمرو فركاش، إلى القول إن «العبث والفساد والسرقة عنوان المرحلة في ليبيا، وليس هناك لا رقيب ولا حسيب»، وأشار إلى أن «المرصود للإنفاق على بند الرواتب مبالغ فيه، فإنتاجية العامل في ليبيا ضعيفة جداً، ومعظم سوق العمل حكومي».
وقال ديوان المحاسبة إنه لاحظ استمرار سياسة التوسع في استئجار الطائرات الخاصة، حيث بلغ حجم الإنفاق خلال عام 2017 على هذا الغرض 2.9 مليون دينار، وتطرق إلى إذن صرف بلغت قيمته ما يزيد على 295 ألف دينار مقابل إقامة بفنادق لصالح شركة «سجال للخدمات السياحية».
وتطرق فركاش في حديث إلى «الشرق الأوسط» إلى ما يتم إنفاقه في بند التنمية، وقال: «هذا البند كالعادة ضعيف جداً مقارنة بما يتطلبه الوضع في ليبيا لإعادة بناء المدن التي تهدمت».
وردّاً على بعض التحفظات التي أوردها التقرير على سياسات المصرف المركزي في طرابلس، الذي يديره الصديق الكبير، وما ترتب عليها من قلة السيولة في بعض المناطق، قال الخبير الليبي في البنك الأوروبي: «السيولة للأسف فساد مقنن، ورأس حربته المصرف المركزي في طرابلس... حيث يتم الآن تضييق الخناق على المواطنين من قبل التيار الإسلامي الذي يهيمن على المصرف بعدما خسر السلطة في الانتخابات الماضية كي يدفعهم لرفض الوضع القائم»، متابعاً: «إذا امتلك هذا التيار السلطة ستحل كل المشكلات ومنها السيولة».
ولم ينس ديوان المحاسبة في تقريره الإشارة إلى وجود «تحسن ملحوظ في اقتصاد الدولة بالنظر إلى حجم الإنفاق»، متحدثاً عن المكاسب التي حققتها للبلاد حيث استردت أموالاً كبيرة بعد اكتشاف جرائم اختلاس في عمليات التوريد، كما أوقفت تعاقدات بقيمة مليار و600 مليون دينار كانت ستدفع لشركات أجنبية دون وجه حق، بالإضافة إلى إلغاء قرار إيفاد 10 آلاف طالب إلى الخارج بسبب عشوائيته، الذي كان سيكلف الخزينة العامة مليار دولار سنوياً، في مقابل ذلك تواجه ليبيا 142 دعوى قضائية بقيمة 9 مليارات يورو.
غير أن الدريجة ذهب إلى أن الحل لأزمات البلاد، في مواجهة هذا الهدر في المال العام، يكمن في كيفية إدارة أموال البلاد من الأساس، وقال: «لا يوجد نشاط اقتصادي في ظل هذه الإدارة السيئة للاقتصاد... وكل ما يحدث هو بيع للنفط، أو استخدام احتياطيات المركزي لتوريد ما تحتاج إليه البلاد للاستهلاك، ودفع رواتب حتى يتمكن الناس من الاستهلاك»، متابعاً: «لا توجد أي مشاريع تكوّن ثروات جديدة».
واستطرد: «عندما تُدفع رواتب 22 مليار دينار من خزانة الدولة لأكثر من مليون وسبعمائة موظف، ثم تدفع 4 مليارات أخرى عن طريق الشركات العامة والمصارف والهيئات والمؤسسات التي لديها رأسمال مدفوع من الخزانة، فإن معدل الطلب الاستهلاكي سيكون مرتفعاً، ولأن أغلب ما يستهلك مستورد فمستوى المعيشة يتدنى مع تدني قوة الدينار مقارنة بالعملات الأخرى... النتيجة أن وضع الناس أسوأ».
وطرح الدريجة بدائل لخلق قيمة مضافة للاقتصاد الليبي، وقال: «يجب تشغيل الناس في أعمال منتجة، في البناء والصناعة ومجالات مشابهة»، مستدركاً: «الاقتصاد الليبي يحتاج لإعادة هيكلة، لتنمية القطاع الخاص وتقليص القطاع العام... وهذا عمل الحكومة وليس المصرف المركزي».
وذهب إلى أن «(المركزي) لم يستعمل الأدوات النقدية المتوفرة لديه، ولم ينجح في التعامل مع التضخم وتدني سعر الصرف بشكل مناسب، وهذه هي حدود مسؤوليته»، ورأى أن الحكومات المتعاقبة فشلت في التعامل مع مشكلات ليبيا الاقتصادية، موضحاً أن «جميعها دون استثناء اعتمدت على النفط، ولم تعمل على خلق مصادر بديلة».
وانتهى الدريجة إلى أن «الفكرة من وراء الرواتب المرتفعة والمزايا كفّ أيدي المسؤولين عن المال العام والتركيز في أعمالهم، غير أن الحاصل أن أموال الدولة تُستخدَم لشراء الولاءات، وعلى كل المستويات». ولم يفقد الخبير في البنك الأوروبي الأمل في اقتصاد بلاده، وقال في ختام حديثه إلى «الشرق الأوسط»: «يجب أن تصدر الدولة سندات لزيادة الإنفاق في البنود المطلوبة»، لكن عاد وقال: «هذا لن يحدث لضعف ثقة المستثمر في النظام وقدرته على الالتزام في دفع ديونه، فضلاً عن ارتفاع معدلات الفساد وسرقة المال العام».
موارد ليبيا المهدرة في الفساد يكشفها التقرير السنوي لديوان المحاسبة
بذخ في الإنفاق على التنقل بالطائرات الخاصة وإبرام تعاقدات بالمليارات دون ضرورة
موارد ليبيا المهدرة في الفساد يكشفها التقرير السنوي لديوان المحاسبة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة