ظهرت البدلة للمرة الأولى في بلاط الملك تشارلز الثاني. كان ذلك في القرن السابع عشر. ومنذ ذلك الحين، وهي عنصر ثابت من عناصر الموضة، لم تتزحزح عن مكانتها رغم تغير الأحوال والأذواق والتوجهات. فمكانتها الرفيعة في خزانة الرجل لا تُضاهى أياً كان عمره وأسلوبه. فيما يتعلق بالخلفية التاريخية، فإن ظهور النموذج الأولي للبدلة تزامن مع ما عرف بـ«حقبة الاسترداد»، حيث أصدر الملك تشارلز الثاني مرسوماً ملكياً في أعقاب تفشي الوباء في لندن، يقضي بأن يتخلى من يحضرون إلى بلاطه عن الملابس التي تتميز بزينة مفرطة وفخامة مبالغ فيها مقابل ارتداء ملابس أكثر بساطة تتألف من معطف طويل وصدرية وربطة عنق.
وبذلك نجد أن السترة بدأت كرمز للتواضع والبساطة في وقت كانت الأغلبية تعاني من ظروف قاسية. وجاء هذا التحول ليكتب نهاية حقبة طويلة كان يجري تقييم مكانة ونفوذ الشخص خلالها بمدى فخامة وغلاء ملابسه.
في القرن التاسع عشر خرجت من القصور والبلاطات لتدخل الحياة العامة بالتدريج، وفي القرن العشرين انتشرت أكثر لتصبح بمثابة الزي الرسمي للرجل.
فقد حققت الرسمية المطلوبة منها، وما تعنيه من مساواة اجتماعية إلى حد ما، من ناحية أن كلَّ من يعمل في الشركات التي تلزم موظفيها بارتدائها، يبدو الجميع بدءاً من المتدربين حتى الرؤساء التنفيذيين، بالصورة ذاتها، باستثناء نوعية القماش والتفاصيل مثل الأزرار وغيرها. فيما عدا ذلك كان تصميمها واحداً، كذلك تأثيرها.
وكان من الطبيعي أن تنتقل إيحاءاتها هاته إلى الصعيد السياسي، إذ أصبح يجري النظر إلى البدلة باعتبارها الزي الرسمي لرجل الدولة الموقر المعاصر. ومع هذا، هناك من يرى أنها تمثل استمرار الإرث الثقافي للحقب الاستعمارية، ما يدفع أعضاء هذا المعسكر، إما لارتداء تصميمات معدلة منها، أو رفضها تماماً وتفضيل الملابس التقليدية عليها.
ورغم الجدل حولها، أثبتت عبر العقود أنها من أكثر قطع الملابس ديناميكية على مستوى العالم لما تحمله بين طياتها من معاني الجدية والثقة، وما تعكسه من قوة ونفوذ ونجاح، وهو ما تؤكده د. كاثرين ليزلي، من مدرسة الموضة في جامعة ولاية كنت، بقولها إن: «البدلة عندما تكون رسمية تحديداً تنقل إلى الآخرين رسالة مفادها الجدية والانتماء إلى نادي الناجحين وأصحاب السلطة، تبعاً للثقافة الغربية».
لكنها تعرضت لبعض التذبذبات في فترة من الفترات، بسبب عزوف بعض الشباب عنها في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لما توحيه من صرامة ورسمية، بينما كان التوجه السائد ينادي بالبوهيمية والتمرد على التقاليد وأي قيود تفرضها.
فمجرد لفظ «بدلة» كان يوحي بالرأسمالية. لكنها لحسن الحظ خضعت لعملية تجميل مسحت كل هذه الإيحاءات السلبية لتعود إلى الواجهة مرة أخرى على يد مصممين شباب ضخوها بديناميكية جديدة، ورسموها بخطوط رشيقة. من هؤلاء نذكر، المصمم هادي سليمان، خلال عهده في دار «ديور» الفرنسية. فعندما تولى تصميم الجانب الرجالي حقق ثورة فيها. فككها من تفاصيلها وخفف من كمية قماشها لتأتي محددة على الجسم. كانت الصورة أنيقة تستحضر صور مغنيِّ «الروك آند رول»، وفتحت شهية الشباب عليها. وحتى بعد أن غادر الدار، ظل صداها إيجابياً في صفوف الشباب، لا سيما أن مصممين آخرين التقطوا خيوطها ونسجوها بتصاميم عصرية، ليست بالضرورة بالصورة نفسها، لكن لا تقل عنها شبابية وحيوية.
الطريف أن هذه القطعة أثارت جدالات فلسفية ولا تزال. الفيلسوف والمؤرخ ميشال فوكو أشار إلى كيف أن السلطة نزعت عنها الطابع الشخصي مع بزوغ فجر الحداثة. ففي عهد الملك البريطاني، تقلد رجال البلاط من حوله مناصب متنوعة، وامتلكوا مستويات متباينة من النفوذ، لكنهم لم يعبروا عن ذلك من خلال فخامة ملابسهم. بدلاً عن ذلك، أصبحوا جميعاً يرتدون ملابس متشابهة، لم تنتقص من مكانتهم وقوتهم، لكن محت الجانب الشخصي منا. بوجه عام، كانت البدلة آنذاك مجرد قطعة بسيطة وعملية تناسب التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهو ما حاول البعض تطبيقه في القرن العشرين في أماكن العمل. صحيح أن الجودة تختلف، من ناحية التصميم والقماش المستعمل، وطريقة الخياطة، وما شابه من تفاصيل دقيقة، إلا أنها ظلت بمثابة الزي الرسمي. ومع الوقت ارتقت إلى مصاف الكلاسيكية، بمعنى أنها قطعة أيقونية لا يستغنى عنها الرجل أياً كانت ثقافته وأسلوبه، وذلك أنها تحولت إلى رمز للحداثة، حسبما تنص عليه الثقافة الغربية. ونتيجة لذلك، نجد أن قيادات سياسية من مختلف أرجاء العالم أقروا البدلة الرسمية في صورتها الحديثة كتعبير عن دخول بلادهم عصر الحداثة.
أيضاً، يأتي تبني هذه الشريحة لها كتعبير عن اندماجهم داخل المجتمع العالمي.
الآن ورغم أن شعبيتها في صفوف الشباب بدأت تتراجع لصالح أسلوب «ستريت ستايل» الذي تروج له بيوت أزياء عالمية، من «بالنسياجا» إلى «لويس فويتون» وغيرها، فإن البدلة بشكلها العصري والرشيق لم تختفِ تماماً. يمكن تأكيد هذه الحقيقة حتى بعد أن عزف عنها الساسة والشخصيات النافذة لصالح أسلوب منطلق يتودد لجيل الشباب. ما أكدوه أنهم قد لا يميلون إلى تصاميمها الرسمية باستغنائهم عن ربطة العنق ومنديل الجيب وما شابه من تفاصيل، لكنهم لم يخاصموها تماماً. فهي لا تزال تظهر من خلال سترة مع بنطلون من قماش مختلف أو مع «تي شيرت» أو بتصميم يُبرز رشاقتهم إن لم نقل نحافتهم. من هذا المنظور لم تعد تنتمي إلى جيل الآباء والأجداد، كما لم تعد زياً رسمياً. فكثرة الخيارات وانفتاح الموضة وتشجعيها على تبني أسلوب خاص، فتح أبواب الابتكار فيها، لتصبح وسيلتهم للتميز في زمن أصبح فيه «الكاجوال» هو السيد والمتشابه.
فالبدلة عندما تكون شبابية ومنطلقة لا تتعارض مع الأسلوب «السبور» المستوحى من ثقافة الشارع، وربما قد أصاب البعض بالتخمة. كما أنه بالنسبة للبعض طال أكثر من اللازم، وأصبحوا يحتاجون إلى مضاد قوي له. وإذا كان هادي سليمان سوَّق لهم التصاميم الضيقة على الجسم، فإن راف سيمونز سوَّق لهم تصاميم رشيقة، لكن أكثر عملية، فيما يقترح المخضرم الإيطالي جيورجيو أرماني بدلات واسعة تساعد الطيات على تحديدها. هدفه أن يستقطب جيل الشباب من دون أن يخسر جيل الآباء. بدوره أتقن المصمم بول سميث اللعب، ولا يتوقف عن طرحها بتفاصيل مبتكرة تتمثل في تبطين بلون متوهج أو بتلات ورود وراء الياقة أو على حواشي الأكمام وما شابه.
دار «ألكسندر ماكوين» أيضاً أرادت مخاطبة الشباب. لم تكتفِ بتفصيل لا يُعلى عليه لما يتضمنه من دقة لا يتقنها سوى خياطي «سافيل رو» الشهير، بل أضافت أقمشة غريبة مثل «البروكار»، فضلاً عن رسمات جريئة. فالفكرة هنا ليست قطعة رسمية تجعل صاحبها يذوب مع محيطه وينسجم معه، بل قطعة تميزه وتثير الأنظار إليه.
البدلة... تاريخ من الأناقة
يمر الزمن وتبقى هي صامدة في وجه التغيرات الاجتماعية والسياسية
البدلة... تاريخ من الأناقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة