أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

الخبير الاقتصادي الأفغاني يتحدر من كبرى قبائل البشتون ويعرف بين مناصريه بـ«العقل المفكر»

أشرف غني
أشرف غني
TT

أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

أشرف غني
أشرف غني

العملية السياسية في أفغانستان والتي تشكلت بعد رحيل نظام طالبان نهاية سنة 2001، عقب هجوم قوات التحالف الدولي على نظام الحركة المتشددة، دخلت مرحلة جديدة من فقدان الثقة بين الفرقاء السياسيين الأفغان الذين خاضوا حروبا تسببت في تدمير البنى التحتية للبلاد ونجمت عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين ونزوح الملايين الآخرين إلى دول الجوار خاصة باكستان وإيران.
فالانتخابات الرئاسية، التي جرت أخيرا لم تسلم من انتقادات وتحديات كادت أن تعصف بها.. فبعد أن تصدر المشهد مرشحان للرئاسة هما عبد الله عبد الله وزير الخارجية السابق وأشرف غني أحمد زاي وزير المالية السابق، أعلن عبد الله عبد الله وهو أحد أقطاب تحالف شمال السابق المناهض لطالبان في تسعينات القرن الماضي بأنه لا يثق في اللجان الانتخابية واتهمها بالتزوير لصالح منافسه الوحيد أشرف غني. وعلق التعاون مع اللجان الانتخابية وسحب مراقبيه من عمليات الفرز بعد أن وجه اتهامات مباشرة لأمين اللجنة المستقلة للانتخابات ضياء الحق عمر خيل، الذي استقال يوم الاثنين الماضي، متهما إياه بالتزوير لمصلحة غني في جولة الإعادة.

على الرغم من أن نتائج جولة الإعادة لم تظهر بعد، فإن التسريبات الصحافية تتحدث بأن أشرف غني يتقدم على منافسه بأكثر من مليون صوت وهو ما يرجح فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الأفغانية المثيرة للجدل.
وأشرف غني الذي يتطلع إلى أن يكون الرئيس الثاني للبلاد بعد الرئيس الحالي حميد كرزاي، سياسي أفغاني وأكاديمي يعرف بين مناصريه بـ«مغز متفكر جهان»، ويعني العقل المفكر على المستوى العالمي. وينحدر من قبيلة بشتونية (مثل كرزاي) وهي قبيلة أحمدزاي كبرى قبائل البشتون القاطنة بمناطق الشرق الأفغاني. وتنتمي القبيلة إلى قبائل البدو الرحل حيث لا تستقر في مكان محدد وإنما تنتقل من محافظة أفغانية إلى أخرى وفقا لتطورات مناخية.
ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. وفي نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت. تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على لبنانية وهي رولا سعادة مسيحية الديانة ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. عاد أشرف غني إلى أفغانستان بعد إكمال دراسته الجامعية في لبنان عام 1977 ليلتحق بجامعة كابل العريقة آنذاك أستاذا للعلوم الإنسانية، ثم حصل على منحة حكومية للمرة الثانية هذه المرة إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في مجال علوم الإنسان ليكمل درجة الماجستير هناك. وعمل غني بعدد من الجامعات في أفغانستان والغرب، فقد انضم إلى هيئة التدريس في جامعة كابل، ثم جامعة آرهوس في الدنمارك عام 1977، وجامعة كاليفورنيا عام 1983، وجامعة جونز هوبكنز في الفترة بين عامي 1983-1991.
وحصل غني على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة كولومبيا، وكانت أبحاثه الأكاديمية تتمحور حول بناء الدولة والتحول الاجتماعي. وفي سنة 1985 أكمل سنة من العمل الميداني والبحث في المدارس الدينية الباكستانية، كما درس أيضا مقارنة الأديان.
وبعد الإطاحة بحكومة طالبان برزت شخصية أشرف غني مجددا في الساحة الأفغانية كونه رجل اقتصاد، وعمل موظفا خبيرا في البنك الدولي، وكانت أفغانستان بأشد الحاجة إلى خبراته في الهيئات الأممية كونه عمل في مجال الارتقاء بمؤسسات الدول الفاشلة في القارة الأفريقية وآسيا ومجال التحول الاجتماعي في الدول النامية ودول ما بعد الحرب.
وكان باكورة الظهور العلني لأشرف غني في اجتماع «بن» بألمانيا عام 2002، الذي عقد بإشراف مباشر من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لوضع لبنة جديدة للنظام الحالي في أفغانستان ما بعد التخلص من نظام طالبان. وشغل في حكومة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الانتقالية منصب وزير المالية.
استطاع غني إقناع الدول المانحة بشأن احتياجات أفغانستان المالية العاجلة، وتمكن من جمع مليارات الدولارات صرفت في بناء مؤسسات حيوية ومؤسسات رسمية كالقوات الأمنية وتطوير الأرياف، كما تمكن من تأسيس نظام جديد للجمارك في منافذ أفغانستان المنتهية إلى الدول المجاورة والتي كانت تخضع لأمراء الحرب الذين كانوا يجمعون أموال التجار في الجمارك لمصلحتهم الشخصية.
وتعد شخصية أشرف غني صارمة في اتخاذ القرارات المهمة وهو رجل صريح لا يجامل السياسيين وزعماء القبائل على غرار باقي الشخصيات السياسية الأفغانية، لهذا السبب له أعداء كثر من بينهم أمراء الحرب الذين يبحثون دوما عن مصالح شخصية في الأزمات الأفغانية المتلاحقة.
ترشح أشرف غني لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية عام 2009 ضمن قائمة طويلة من المرشحين لهذا المنصب كان أبرزهم الرئيس الحالي حميد كرزاي المنحدر من قبيلة بشتوية أيضا. ولم يحالفه الحظ في تلك الانتخابات فحل في المرتبة الرابعة بعد كرزاي وعبد الله وبشردوست، لكن الرجل ظل يتواصل مع القبائل والشخصيات السياسية وانخرط في العملية السياسية من جديد بزعامة كرزاي فعين رئيسا لجامعة كابل وتولى المنصب لمدة سنتين، كانت حافلة بالمشاكل العرقية. وخرجت مظاهرات طلابية تطالب بتنحيه، بعد أن قام بسلسلة تعديلات ووضع قوانين جديدة تخص الجامعة، لكن خصومه السياسيين اتهموه بالتعصب لقبيلته وأنه بصدد التخلص من الأساتذة الذين ينتمون إلى الطاجيك كما وضع قيودا تمنع استعمال مصطلحات تعليمية عدها الطلاب دخيلة على المجتمع الأفغاني وهي من اللهجة الفارسية لإيران، وكان المصطلح الذي أثار مشكلة أدت إلى تنحيه من منصب رئيس الجامعة هو كلمة «دانشغاه» وهو اسم يطلق على الجامعة في إيران فأمر غني بمنع استعمال هذا المصطلح وبات يروج لمصطلح «بوهنتون» وهو مصطلح مأخوذة من اللغة البشتونية يطلق على الجامعات مما أثار حفيظة الطاجيك الذين تظاهروا ضده وطالبوا بإقالته.
وبعد التنحي عن رئاسة الجامعة عينه الرئيس الأفغاني مسؤولا عن ملف الانتقال السياسي والأمني من القوات الأميركية والأطلسية إلى نظيرتها الأفغانية. وبدأ يتنقل من محافظة إلى أخرى وسط إجراءات أمنية مشددة ويلتقي بحكام الأقاليم ومسؤولين محليين للاطلاع على مدى قدراتهم واستعدادهم لتسلم الملف الأمني والسياسي من الأجانب، وبالفعل استطاع أن يخرج بنجاح من هذه المهمة التي اكتملت بنسبة تسعين في المائة تقريبا، وبات الأفغان يسيطرون على كامل المهمة الأمنية في جميع المناطق الأفغانية.
وانتقلت السلطة السياسية كاملة إلى الأفغان بعد ثلاثة عشر عاما.
يقول أشرف غني إنه استطاع أن يشخص مشاكل ومعاناة الأفغان خلال توليه مهمة الانتقال الأمني والسياسي من خلال تنقلاته وإنه يستطيع حل هذه المشاكل في حال توليه منصب رئاسة الجمهورية.
ترشح غني لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2014 إلى جانب أحد عشر مرشحا آخرين كان أبرزهم عبد الله عبد الله وزلماي رسول وزير الخارجية السابق المقرب إلى الرئيس حميد كرزاي وعبد رب الرسول سياف أحد زعماء المجاهدين السابقين.
ولم يتمكن أحد من المتنافسين على منصب الرئاسة إحراز النسبة المطلوبة في الجولة الأولى وهي خمسون وواحد حسب الدستور والقانون الانتخابي الجديد مما اضطر اللجنة الانتخابية إلى إعلان عقد جولة الإعادة بين اثنين من المتنافسين اللذين حصلا على أغلب الأصوات. وكان أشرف غني أحدهما، عقدت الجولة الثانية ورافقها كثير من المشاكل تتعلق بالتزوير والمخالفات ولا تزال نتائجها غير واضحة حتى الآن. غير أن المعلومات والتوقعات الأولية تشير إلى تقدم أشرف غني على منافسه بمليون صوت وهو ما يعني أنه الرئيس المقبل لأفغانستان بعد كرزاي الذي لا يحق له الترشح لولاية ثالثة. لكن الأصوات الاحتجاجية التي بدأت ترتفع من هنا وهناك خاصة من فريق عبد الله عبد لله بعدم شرعية الانتخابات بسبب التزوير الواسع يبدو واضحا أن طريق غني إلى القصر الجمهوري ليس مفروشا بالورود وأنه سيعاني كثيرا حتى الوصول إليه مثل باقي رؤساء أفغانستان.
يقول نثار أحمد فيضي، وهو أحد الشباب الذين يقودون حملة في شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» إن أشرف غني هو أفضل وأنسب رجل لقيادة المرحلة الحالية من حياة أفغانستان السياسي خاصة أنها تتزامن مع مرحلة الانتقال وخروج القوات الدولية منها نهاية العام الحالي، مشيرا إلى أن غني رجل مثقف أكاديمي لم يتورط في الحروب الأهلية وعاش معظم سنوات عمره في خارج البلد يتعلم ويعلم، كما أن لديه خبرة واسعة في مجال الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار والتحول الاجتماعي.
أما سلطان أحمد وهو صحافي أفغاني يناصر أشرف غني فيقول إنه رجل صريح ينفذ ما يعد به وإن أفغانستان بحاجة إلى خبراته في مجال مكافحة الفقر وتعزيز المؤسسات والبنى التحتية للدولة بينما لا يحمل منافسه هذه المواصفات، على حد تعبير أحمد.
اختار أشرف غني الجنرال الأزبكي المثير للجدل عبد الرشيد دوستم محليا ودوليا كمساعد أول في حال فوزه بمنصب الرئاسة وهو المتهم بقتل مئات من عناصر طالبان المعتقلين لديه في سجن قلعة جنكي بولاية بلخ بالشمال الأفغاني أثناء الحرب على طالبان، وهو ما أثار غضب قبائل البشتون الذين طالبوا بمحاكمة الجنرال، غير أن غني يقول إن دوستم طالب بالعفو واعترف بالخطأ وإنه قل من يفعل ذلك، مشيرا إلى أنه ممتن لهذه الجرأة السياسية التي أظهرها عبد الرشيد دوستم قبل خوض غمار الانتخابات الرئاسية.
وما يؤخد على أشرف غني هو أن بطاقته الانتخابية تكاد تكون خالية من الشخصيات الطاجيكية المؤثرة في الساحة وهو ما وجه إليه كثيرا من الانتقاد من عرقية الطاجيك بأن الرجل متعصب لقبيلته البشتونية. علاوة على ذلك فإن الرجل تعرض إلى أبشع أنواع التهم والإشاعات فاتهم بأنه شيوعي يسعى إلى إعادة الحكم الشيوعي في البلاد من قبل بعض أمراء الحرب وقادة المجاهدين السابقين واتهم بأن زوجته مسيحية ولم تعتنق الإسلام رغم أنه يؤكد أن زوجته اعتنقت الإسلام، وتداول الخصوم مقطع فيديو يظهر فيه غني يقول إنه يحترم إرادة زوجته اللبنانية، وإنه لم يجبرها على التخلي عن الديانة المسيحية، وإنه أثناء إقامته بأميركا كان يرافقها إلى الكنيسة، وفي حال فوزه بمنصب الرئاسة فإن أول مرة بتاريخ أفغانستان السياسي ستدخل امرأة لبنانية إلى القصر الجمهوري وهي ظاهرة فريدة وجديدة بالنسبة للأفغان.

* أشرف غني.. في سطور
* ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. في نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على زوجته اللبنانية «رولا سعادة» وهي مسيحية، ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. حصل على منحة حكومية للمرة الثانية إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة ونال فيها درجتي الماجستير والدكتوراه.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.