لا يكف محمد عبلة عن اللعب مع الفن، فبعد رحلة متنوعة مع الحفر والرسم والتصوير والرسم على الماء، ومغامرة رسم الضوء الاصطناعي، في معرض ممتع سيظل من علاماته الفنية الفارقة، إضافة إلى اختبار تقاطعات وتجاورات الكولاج والرسم بشرائح السلويت، ها هو يواصل غواية هذه اللعب مفاجئاً محبيه بمعرض مرح في فن النحت، سماه «خارج الكادر»، أو خراج الإطار، مقام حالياً بجاليري مصر، بالقاهرة.
وضم المعرض مجموعة من المنحوتات الصغيرة والمتوسطة الحجم لوجوه وكائنات وأشياء، يمتزج فيها عالم البشر بانفعالاته وعواطفه وصخبه الإنساني، وعالم الطبيعة بفطريته وبداهته وطيوره وحيواناته الأليفة والمتوحشة.
ورغم انفتاح مغامرة عبلة مع فنون النحت القديمة والجديدة، فإنها لا تنقطع عن ما عاشه في تجاربه السابقة، فلا تخلو كثير من أعماله التصويرية من ملامس نحتية لافتة، تارة بإبراز النتوءات على مسطح الرسم المستوي، أو من خلال تكثيف طبقات وعجائن الألوان والأصباغ في الرسم، محافظاً على نكهة خاصة ميزت أسلوبه الفني، فهو من الفنانين القلائل الذين يملكون المقدرة على تحويل لطشة الفرشاة العفوية السريعة إلى رسم، له قوام وملامح وخصوصية، فضلاً عن أن فكرة «التركيب»، التي تنهض عليها مغامرة النحت الجديد، وتنويع زوايا وأبعاد الرؤية لها، ليست غريبة عن عالمه الفني، وولعه الدائم بالتجريب بحثاً عن طرائق وأشكال مغايرة تضيف إليه خبرة بكراً، أو تضعه على عتبة رؤى جمالية مختلفة.
منذ عدة سنوات، أقام عبلة تمثالاً استوحاه من أسطورة «سيزيف»، لا يزال منتصباً بأحد ميادين مدينة «فالسروده» في شمال ألمانيا. وعام 1983، ذهب إلى سويسرا لدراسة النحت في مدرسة زيورخ للفنون مع النحات الشاعر «باول جراس». وكما يقول عبلة في كلمته بكتالوج المعرض: «عندما عرف أني من مصر، قال لي معقول أقدر أعلمك نحت، أنت من مصر التي علمت العالم، أنا ممكن أعلمك الصبر، هذا ما يجب أن تتعلمه لتكون نحاتاً».
ويذكر عبلة أنه قضى عاماً معه في هذه المدرسة، لكنه لم يقم بإنجاز أي عمل نحتي، فقط تدريبات على الصبر والتأمل، والإحساس بالخامات المختلفة.
بهذه الروح من التأمل والصبر ومشاكسة الخامة، أبدع عبلة كائناته النحتية في هذا المعرض، عبر 40 قطعة من البرونز، معتمداً عليه بشكل أساسي في بناء الكتلة، وترتيب وتنظيم علاقتها بالفراغ وبعناصر مساعدة أخرى، منها: أعمدة حديدية وأسلاك وقطع معدنية، و«خردة» مهملة وقعت عليها عيناه بمحض الصدفة، كما استخدم اللحام في كثير من القطع. وبشكل يكاد يكون فطرياً، ينوع عبلة زوايا وأبعاد العلاقة بن منحوتاته وبين الفراغ، وفق هواجسه وتساؤلاته الصورية، فيقوم بالدمج بينهما، وهي السمة الغالبة على معظم الأعمال، حيث تنحصر زوايا المشاهدة في بعدين، من الجانبين الأيسر والأيمن، وأحياناً يترك هذه العلاقة مفتوحة، تتيح الدوران حول العمل ومشاهدته من زوايا شتى، وأيضاً من مسافات متفاوتة في القرب والبعد، ولا يتحقق هذا سوى في بعض المنحوتات، تأخذ الكتلة فيها منحنى تدويرياً أو بيضاوياً، مثل القطعة التي تعكس رمزية الكرة الأرضية، وأخرى تخترق فيها مرآة متوهمة الكتلة محتفظة بوجودها كإطار فارغ، لكنه يوحي بأن ثمة مرآة خرجت منه، وهو المعني الذي قصده عبلة من عنوان المعرض «خارج الكادر»، ما جعل علاقة دمج الكتلة بالفراغ تنعكس بحيوية على خطوطه وتركيباته النحتية التي يقوم بتلوينها أحياناً، مخففاً من لمعة البرونز وقشرة النحاس، حتى لا تتم الشوشرة على مسارات الضوء، وإبراز حيوية المسطحات الخشنة والناعمة، الأمر الذي يتيح له حرية الذهاب والإياب من الماضي إلى الحاضر، وتأمل تراث المضامين النحتية والتصويرية بروح منفتحة مغامرة. هكذا، يستعيد لوحة «المجنون الأخضر» الشهيرة لعبد الهادي الجزار، ويصبها من جديد في أيقونة نحتية هي بمثابة استعارة بصرية مضيئة وتوثيق لمحبة خاصة لعالم فنان رائد. احتفت المنحوتات بالإنسان، في لحظات قوته وهشاشته، في ضجره بنفسه وملله من الوجود، وما يغلي ويفور برأسه، مشكلة بمناخاتها البصرية المرحة حافزاً لكسر الحواجز والأطر التقليدية البالية التي تقيد حريته. كما احتفت بالحياة الساكنة في قلب الأشياء والعناصر، وهي أشياء مألوفة، في نسيج مفردات الحياة اليومية، فهناك كثير من المنحوتات تبرز فيها رمزية الشباك والسلالم، والمرآة والأبواب، وفازات الزهر، وأظن أن عبلة لم يكن مشغولاً باستنطاق هذه الحياة الساكنة في الداخل فحسب، وإنما أراد أساساً أن يوحي بأنه لا مسافة بين الجسم والفراغ المحيط به، فكلاهما يأخذ من الآخر، إلى حد التماهي معه في العمل الفني.
ويبقى الانطباع الأساسي الذي خرجت به من هذه المعرض الممتع أن النحت ليس فقط موجوداً في التماثيل والأعمال النحتية الملموسة، بل الحياة هي حالة نحتية ساكنة، مهمة الفنان أن يخرجها من الداخل المطمور إلى نور الفن فوق السطح.
محمد عبلة... يلعب «خارج الكادر»
منحوتات طائرة وتجارب متنوعة في الحفر والتصوير
محمد عبلة... يلعب «خارج الكادر»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة