فور أن أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب تغريدته على موقع «تويتر» التي طلب فيها من روسيا أن تستعد للصواريخ «الذكية والحديثة والجميلة» التي سيلقيها على سوريا، انهال سيل من التوقعات والتنبؤات في وسائل الإعلام الروسية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي حول طبيعة الرد الروسي المنتظر، وماذا ستفعل موسكو في حال نفذت واشنطن وعيدها، ووجهت ضربة كبيرة قد تصيب شظاياها، ولو بشكل غير مقصود منشآت فيها عسكريون روس.
كان واضحاً منذ فشل مجلس الأمن في إقرار أي من مشروعات القرار المقدمة ليلة الأربعاء، أن الوضع يتجه نحو ضربة عسكرية أميركية، لكن الترجيحات في موسكو انصبت على محاولات تقدير حجمها والتكهن بطبيعة بنك الأهداف الذي سوف يكون مشمولاً بها، مع استبعاد أن تلجأ واشنطن إلى «استفزاز مباشر» للروس. لكن كلمات ترمب قلبت النقاشات؛ لأنها خاطبت روسيا مباشرة، في تحدٍ واضح للكرملين. وهي أصابت جزءاً من الأوساط الروسية بصدمة، وفقاً لتعليقات إعلاميين روس. وإن كان بعضهم حاول التقليل من شأنها بالإشارة إلى «زلات لسان ترمب الكثيرة على توتير».
تزامن صخب السجالات مع تصريحات سفير روسيا لدى لبنان ألكسندر زاسيبكين التي تناقلتها بقوة وسائل إعلام عربية وغربية، وقال فيها إن الدفاعات الروسية «ستواجه الصواريخ التي تطلق على سوريا، وسوف تستهدف منصات إطلاقها». هذه العبارة أيضاً استخدمت بشكل واسع في إطار هستيريا التأجيج الإعلامي التي بدأت تتحدث عن «حرب عالمية ثالثة» محتملة، أو تعقد على الأقل مقاربات مع الوضع الدولي خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 عندما حبس العالم أنفاسه متوقعاً اندلاع مواجهة نووية في أي لحظة.
تجاهل كثيرون وهم يتناقلون كلمات السفير الروسي العبارة الأصلية التي نسبها زاسيبكين إلى الرئيس فلاديمير بوتين وإلى قيادة الأركان الروسية، في إشارة إلى تصريحات سابقة للطرفين (بعد ضربة الشعيرات) لوّحت بأن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تعرضت منشآتها أو عسكريوها لخطر مباشر. بينما لم تعد موسكو في أي مرحلة بأنها ستواجه ضربة موجهة ضد منشآت الجيش السوري أو قواعد يتواجد فيها إيرانيون.
وكان ملاحظاً أمس، مع ضجيج التصريحات النارية أن الكرملين التزم الصمت ولم يوجه تهديدات، كما لم يدع بوتين مجلس الأمن القومي للانعقاد خلافاً لعادته في ظروف مماثلة. وحتى وزارة الدفاع تجنبت إطلاق تصريحات نارية خلال ساعات النهار. مع أن مصادر دبلوماسية قالت، إنه لا يمكن استبعاد أن تتحرك الدوائر الروسية في وقت لاحق لمواجهة الموقف. إنما «بعد دراسة المعطيات المتسارعة بشكل دقيق».
في غضون ذلك، جاءت تصريحات الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أهدأ من المتوقع، وهو قال إن الوضع القائم حول سوريا «متوتر للغاية، ولا سيما في ظل الهجوم الكيماوي المزعوم في مدينة دوما»، وأعرب عن أمل في أن «تتفادى جميع الأطراف الخطوات المزعزعة».
وشدد المتحدث الرئاسي، إن تطورات الوضع في سوريا تتطلب مراقبة دقيقة، مؤكداً الموقف الروسي الداعم لإجراء تحقيق مفصل في مزاعم استخدام السلاح الكيماوي.
ولفت إلى «خلافات عميقة بين موسكو وواشنطن»، موضحاً أن الطرف الروسي يعارض بشدة التصريحات الأميركية حول «الجرائم الوحشية للسلطات السورية»، وقال: إن التصريحات لا تستند إلى حقائق.
ولوحظ أن بيسكوف عندما سئل عن الرد الروسي المحتمل على الضربة الأميركية المنتظرة، قال: «نريد أن نأمل في أن تتفادى جميع الأطراف الخطوات غير المبررة، التي في الواقع من شأنها زعزعة الوضع الهش أصلاً في المنطقة». مضيفاً أن جدول أعمال الرئيس الروسي للفترة المقبلة لا يتضمن اتصالات مع الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الأميركية أنجيلا ميركل.
لكن لهجة الكرملين الهادئة لا تعني عدم وجود مخاوف جدية لدى موسكو من انزلاق الأمور نحو سيناريوهات لا ترغب فيها موسكو ولا واشنطن. والإشارة هنا إلى صِدام غير مقصود بسبب نقص أو خطأ في التنسيق، رغم أن المستوى العسكري الأميركي أبلغ وكالة «تاس» الروسية أمس، بأن «قنوات التنبيه لتفادي وقوع أخطاء غير مقصودة ما زالت تعمل رغم تردي العلاقات وانقطاع الاتصالات على مستويات مختلفة».
في هذه الأجواء، برزت التساؤلات عن طبيعة الرد الروسي المحتمل على أي ضربة أميركية مهما كان حجمها وأهدافها. وتناقلت وسائل إعلام روسية تصريحات لمسؤولين عسكريين تطوعوا لـ«تحليل موازين القوى» في البحر المتوسط الذي يعج حالياً بالمدمرات والسفن الحربية والغواصات.
ونسبت صحيفة «كوميرسانت» الرصينة إلى مصدر عسكري دبلوماسي تقليله من خطورة تحرك مجموعة من السفن الحربية الأميركية في البحر الأبيض المتوسط على العسكريين الروس.
لكنه أوضح، أن «كل تعزيز للقوات في منطقة البحر المتوسط سيؤدي إلى تصعيد التوتر»، وزاد: إن العسكريين الروس يقومون بمتابعة تطورات الوضع وتقييمها، وهي مهمة تنفذها، منذ أيام عدة، طائرات الاستطلاع الروسية من طراز A - 50 التي تراقب سير مدمرة «دونالد كوك» الأميركية.
وأكد المصدر، أن الأسطول البحري الروسي «قادر على رد سريع عند الضرورة، وسيكون هناك من ينتظرهم عند قدومهم»، في إشارة إلى المجموعة الأميركية الضاربة.
وأوضح المصدر في أجهزة الإدارة العسكرية، أن القوى البحرية الروسية المتواجدة في مياه المتوسط لا تقتصر على السفن العادية بل تشمل أيضاً غواصات، بما فيها الغواصات النووية المزودة بطوربيدات وصواريخ «كاليبر» المخصصة لتدمير الأهداف البحرية والبرية. بالإضافة إلى ذلك، تملك قاعدة حميميم الجوية الروسية بريف اللاذقية في سوريا صواريخ من نوع مضادة للسفن من طراز «كياك».
من جانبه، ذكّر الرئيس السابق لهيئة أركان القوات المسلحة الروسية، الجنرال يوري بالوييفسكي، بأن قدرات الأسطولين الروسي والأميركي تغنيهما عن ضرورة تقارب مباشر بين الطرفين في البحر. وأعرب بالوييفسكي عن قناعته بأن الأمر لن يذهب إلى توجيه ضربات مباشرة من قبل هذا الطرف أو ذاك.
ولفت مصدر آخر في لجنة الدفاع التابعة لمجلس الفيدرالية (الشيوخ) الروسي، إلى أن موسكو قد تستخدم ترسانتها من صواريخ «إس 400» و«بانتسير» المنصوبة على مقربة من قاعدتي حميميم وطرطوس إذا دعت الحاجة إلى حماية منشآتها.
لكن الملاحظ مع غياب التصريحات الرسمية المباشرة من المستوى العسكري، أن كل المتحدثين عن قدرات المواجهة الروسية تعمدوا إضافة عبارات مثل «إذا دعت الحاجة» أو «عند الضرورة»؛ ما عكس قناعة بأن الأمور «لن تتطور في الغالب إلى هذا المستوى» وفقاً لمصدر تحدثت إليه «الشرق الأوسط».
وقال المصدر، إن موسكو تقوم بوضع عدد من السيناريوهات لمواجهة التطورات المحتملة، بينها أن تكون الضربة الأميركية المحتملة محدودة، وتستهدف بعض المنشآت التي يستخدمها الجيش السوري أو الوحدات الإيرانية في سوريا، وفي هذه الحال، فإن موسكو «سوف تتعامل بهدوء، لكنها سوف تستخدم الهجوم الأميركي لتوفير إدانة سياسية للولايات المتحدة». وفي حال قررت الولايات المتحدة مع حلفائها توجيه ضربة أوسع تهدف إلى تقويض البنى التحتية للنظام، فإن موسكو قد تعمل على مساعدته بطريقة غير مباشرة عبر توفير الدفاعات الجوية اللازمة وتكثيف تحركاتها العسكرية والدبلوماسية للتضييق على واشنطن ومحاولة تفكيك التحالف الذي تقوم بتشكيلة حاليا لدعم الضربة.
وشدد المصدر، إن موسكو «لن تتعامل في أي حال بشكل عدواني» بمعنى أنها لن تبدأ بعمل استفزازي، لكنها ستواجه الموقف وفقاً لتطوره.
ولفت مصدر آخر إلى أن روسيا قد تجد نفسها مضطرة إلى إجراء تغييرات رئيسية على تحركاتها في سوريا، بينها التراجع عن فكرة تقليص وجودها العسكري وزج وحدات وتقنيات إضافية، بالإضافة إلى مراجعة خطط تحركاتها مع حلفائها الميدانيين.
لكن أوساطاً دبلوماسية بدأت تتحدث عن تداعيات ربما تخرج عن إطار «ضربة عسكرية مهما كانت طبيعتها محدودة أو واسعة» وقال لـ«الشرق الأوسط» دبلوماسي روسي، إن السؤال المطروح هل ستذهب واشنطن نحو توجيه ضربة تكتيكية يكون الهدف منها إظهار جدية التعامل مع الملف الكيماوي فقط، أم أن ترمب بدأ يهيئ لمحاولة تغيير قواعد اللعبة في سوريا، لجهة تجاوز خطوط التفاهم الضمني الذي ساد خلال الفترة الماضية، حول مناطق النفوذ والتحرك لكل طرف. ورأى أن تطوراً من هذا النوع سيعني محاولة قلب الموازين التي نشأت خلال الفترة الماضية؛ ما يستدعي رداً روسياً قوياً ليس بالضرورة أن يكون عبر مواجهة مباشرة.
ولفت المصدر إلى أن موسكو تعمل على تنشيط اتصالاتها مع الأطراف المعنية، وخصوصاً حلفاءها لمواجهة التداعيات المحتملة.
وكان لافتاً أمس، الإعلان عن زيارة المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف إلى طهران، وأن موضوع التهديدات الغربية بتوجيه ضربة عسكرية إلى سوريا كان محور محادثاته وفقاً لوكالة «إرنا» الإيرانية التي أشارت إلى محادثات معمقة حول الوضع في سوريا مع الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، ومسؤولين آخرين، مضيفة: إن المحادثات تناولت «تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالتدخل عسكرياً» في سوريا.
ورغم أن توقيت الزيارة التي وصفت بأنها مفاجئة للفت الأنظار، لكن مصادر روسية قالت: إنها «منسقة في وقت سابق، وإن كان ملف التحضيرات لضربة أميركية طغى عليها». وأشار إلى أن «التنسيق السياسي والعسكري بين موسكو وطهران متواصل ولم ينقطع في أي لحظة».
موسكو تراقب تحركات أميركا وتستعد لـ«تداعيات» الضربات
موسكو تراقب تحركات أميركا وتستعد لـ«تداعيات» الضربات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة