تبدو ديانا دارك، بعد كتابين عن سوريا، قد قدمت للقارئ بالإنجليزية أرضية جيدة عن بلد مختلف عن ذلك الذي يعج بالعنف، كما يراه منذ سبع سنوات، فتعيده إلى الأساس الثقافي الإنساني لهذا البلد الموغل في تاريخه الحضاري. وفي كتاب «التاجر السوري»، الصادر حديثاً في لندن، تتبع دارك قصة حياة رجل الأعمال محمد شمسي باشا، الذي تعرفت عليه في بريطانيا وزارته في سوريا، موثقة مسار حياته وأعماله منذ نشأته في مدينة حمص في عشرينات القرن الماضي، لتكتشف ويكتشف معها القارئ تحدى هذا التاجر لكل الصعوبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عايشها وهو المولود عام 1923، والعبقرية في تكييف نفسه مع المتغيرات التي واجهته، نموذجاً للإنسان السوري عموماً.
محمد شمسي باشا الذي ستتم الإشارة إليه في غالبية صفحات الكتاب باسم «أبو شاكر» هو رجل أعمال امتلك شركة «هيلد فيرنيشينغز» في المملكة المتحدة، المختصة بإنتاج أفضل الأقمشة، بعد إعلان إفلاسها في السبعينات، وهو نفسه القادم من عالم صناعة النسيج التي اشتهرت بها بلاده منذ قرون، ومن عالم التجارة الذي فرضه موقعها الاستراتيجي كتقاطع طرق للقوافل من كل أنحاء الدنيا، فكانت مركزاً للتبادل التجاري من خلال بيع وشراء السلع من تجار مروا هناك وحملوا مختلف السلع.
مرت على أبو شاكر ظروف خاصة وعامة نجح في تجاوزها، مثل وفاة أبيه وهو في سن مبكر، عندما كان عليه أن يتسلم محله في سوق حمص، بصفته الابن الوحيد بين أربع بنات، كذلك محاربة عمه له بعد طلاقه من ابنته. دوماً كانت تحميه سمعة أبيه بين التجار، وسمعته هو كشاب دؤوب لا يترك الديون تتراكم عليه، ولا يقصر في تسديدها لأصحابها. وفي إحدى المرات، ساعده تاجر غنم جار له في السوق نفسها، بأن أعطاه مبلغاً يسنده في مقاومة الإفلاس، دون أن يطلب وصلاً يثبت القرض.
وقد نجح أبو شاكر في بناء تجارته من جديد، غير أن المتغيرات التي هبت على البلد هي اللافتة في قدرة هذا التاجر السوري على التكّيف مع التحديات، من ذلك قرار التأميم الذي فرضه الرئيس جمال عبد الناصر فترة الوحدة المصرية السورية (1958 - 1961)، ثم استيلاء حزب البعث على الحكم في سوريا وفرض قوانين اقتصادية من وحي التوجه الاشتراكي للحزب.
وقد تسببت هذه المتغيرات في تفتيت الثروات الكبيرة، بالاستيلاء على الأراضي ومعامل النسيج الكبيرة وغيرها، وما رافق ذلك من ظهور طبقة جديدة من الأرياف تحديداً، مرفوقة بقوانين تحد من الحريات، وقيود تشمل الاستيراد والتصدير معاً. هنا، وجد أبو شاكر ضالته في بيروت التي يعرفها بوصفها مكاناً وسيطاً لتسلم بضائعه أو تصديرها عبر مينائها وطيرانها، لكنه قرر الآن أن ينتقل إليها، كما فعل مئات من أصحاب المال والأعمال السوريين الذين غادروا سوريا، بعد أن تمت محاصرتهم فيها من قبل قوانين الحكام الجدد.
وفي بيروت، شهد انطلاقته الأوسع إلى العالم، وبينها السعودية والخليج ودول آسيوية، غير أن ظرفاً آخر دفعه لمغادرة لبنان ونقل أعمالها منها، هو اندلاع الحرب الأهلية 1975، وكان عليه أن يبدأ في مكان آخر يزوره بوصفه تاجراً، فاختاره مقاماً له: بريطانيا، التي اشترى فيها شركة نسيج التصقت باسمه حتى مماته عام 2013، ليكمل المشوار أبناؤه من بعده.
أيضاً كانت عقلية التاجر أبو شاكر تدفعه للتعامل في سلع شتى، بالإضافة إلى التجارة في النسيج والأقمشة، عندما تضيق الدنيا في وجهه في تجارة معينة، وتنوع الأعمال مع تغير الظروف؛ إنه نموذج الإنسان السوري الذي لا تقف في وجهه أية معوقات، ولا تحد من الحركة التي تحمل معها عمار المجتمع.
تغوص ديانا دارك في الشريعة الإسلامية، وقوانين الزواج والحضانة والأوقاف، والعلاقات الاجتماعية السائدة في مدينة حمص حتى الستينات، وتاريخ سوريا على الأقل فترة الحكم العثماني التي استمرت أربعة قرون، ليكون كل ذلك أفضل خلفية لفهم تركيبة الشعب السوري الذي يبدو مشتتاً في أصقاع الأرض الآن.
وتبدو أهمية كتاب «التاجر السوري» في عدة نقاط: فالكاتبة البريطانية التي تحب سوريا، والتي اشترت لها بيتاً هناك، تتحدث عن رجل سوري انتقل للعيش والعمل في بريطانيا؛ إنهما في حالة تقاطع حضاري ثقافي، ولكل منهما رأي في حضارة الآخر، ما يستحق التوقف والاندماج فيه أيضاً.
وتنبش الكاتبة تاريخ مدينة حمص، وسط سوريا، وهي مدينة منسية في الاجتهاد التأليفي، خصوصاً الغربي، بسبب هيمنة مدينتي حلب ودمشق على اهتمام الرحالة والمستشرقين والباحثين عموماً. حمص في كتاب ديانا دارك تتضح باعتبارها مركزاً حضارياً ونموذجاً للتعايش بين أتباع الديانات المختلفة والأصول العرقية: سوق حمص القديمة شهدت تعاملات مستمرة بين تجار مسلمين ومسيحيين ويهود.
ومن اللافت أن بحث مؤلفة الكتاب قادها لنقطة مهمة في مسار المجتمع السوري، تمثلت في أن التناقض في المجتمع كان بين الريف والمدينة، بين مركز نشاط حضري وآخر بدائي، لا بين طوائف وأخرى. وهذا ينطبق على بقية الحواضر السورية. لقد شهدت سوريا مصاهرات بين كبرى العائلات من مختلف الطوائف، وامتد هذا الأمر إلى الجوار (مثل لبنان)، بالإضافة للتعامل التجاري الذي شكل منفعة مشتركة لكل الأطراف، وامتص التناقضات الإثنية والمذهبية. لقد لاحظت المؤلفة بنباهة عالية تأثير شخصية التاجر السوري على سمة التسامح بين مكونات الشعب السوري. كما ساهم موقع سوريا تاريخياً في أن تكون تقاطع طرق للتجارة البرية، ودرباً لجيوش تأتي من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. وطريقاً لقوافل الحج الآتية من آسيا وأوروبا باتجاه الحجاز. هذا الظرف الجغرافي الثقافي سمح بالتقارب مع الآخر والتعامل معه، ولوّن الشخصية السورية بالاعتدال والقدرة على تفهم واستيعاب المختلف عنها.
أبو شاكر شمسي باشا نموذج الإنسان السوري الذي يقوم من احتراقه في كل مرة تصيبه النيران؛ السمة التي تفسر استمرار بلاد اسمها سوريا طوال قرون، وخروجها من أتون الكوارث على مر الزمن، كل مرة بهيئة جديدة تتحدى الخراب وتصر على الاستمرارية.
- ديانا دارك... مرشدة للأماكن بتقدير إنساني
> أصدرت ديانا دارك 16 كتاباً عن الشرق الأدنى والأوسط، تحمل توجيهات للسائح البريطاني أو الناطق بالإنجليزية لاستكشاف المنطقة والاستمتاع بها. وفي تلك الكتب، عكست تقديرها الكبير للمنطقة وشعوبها وثقافتها وانشغالاتها، ويعد هذا الفهم نتاج ثلاثين عاماً من الوجود في تلك الأمكنة، والتعامل مع شعوبها.
لها كثير من المساهمات في كبرى الصحف البريطانية، بالإضافة إلى مؤسسات إعلامية مثل «بي بي سي».
كتابها «بيتي في دمشق»، 2014، تحكي من خلاله عشقها لدار البارودي في دمشق، التي كانت آيلة للسقوط فعرضت شراءها وترميمها، وباتت سكناً لها في العاصمة السورية، وكيف أنها تعرضت بعد 2011 إلى السلب، من قبل شخص من حزب البعث تآمر مع محاميها السابق لوضع يده على الدار، منتهزاً حالة الفوضى التي تمر بها البلاد، قبل أن تذهب إلى دمشق وتستعيد الدار مرة أخرى.
{التاجر السوري}... رصد تاريخ من تحدي السوريين لأوجاعهم
ديانا دارك في كتابها الثاني عن سوريا تقدم صورة حضارية بعيدة عن الحرب
{التاجر السوري}... رصد تاريخ من تحدي السوريين لأوجاعهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة