الذاكرة الصحيحة هي مسألة حياة، واستقلالية، وقبل كلّ شيء، مسألة هوية. الذاكرة البشرية هي شبح في آلة عصبية؛ إنها محادثة متعددة الأبعاد، شديدة التشعّب، ودائمة التغيّر، بين الخلايا المسؤولة عن تذكّر اسم عاصمة تونس مثلاً أو ما طُبع فيها عن الحبّ الأول.
- بيولوجيا الذاكرة
وقد حملت الأخبار أخيراً خبراً جديداً بداية شهر فبراير (شباط) من هذا العام، يتحدّث عن تطوير العلماء عضواً صناعياً يُزرع في الدماغ لتنشيط الذاكرة، أو ما وصف على أنه زرع لـ«عضو إدراكي» سيكون بمثابة إنجاز مدهش حتى لأكثر الناس تشاؤماً، وفقاً لتقارير إعلامية أميركية. وربما يكون مطورو التطبيقات الإلكترونية بدأوا التخطيط لمنتج جديد لتمرين الدماغ انطلاقاً من هذا الاكتشاف الجديد، وكتّاب السيناريو يعملون على نصوصهم المقبلة التي تتحدث عن فقدان الذاكرة القاتل مستعينين ببعض الوحي منه أيضاً.
وتجدر الإشارة إلى أن الفئة المستفيدة من هذا التطور الجديد لا تشمل البالغين في العقدين الثالث والرابع من العمر الذين يعانون من مشكلات الذاكرة.
ولكن بماذا يبشّر بدء توصّل العلماء إلى فهم بيولوجيا الذاكرة إلى حدّ إمكانية التلاعب بها؟ ما ردّة الفعل المناسبة: هل يجب التفاؤل بالمستقبل أم الحذر منه؟ الجواب الوحيد الصادق في هذه المرحلة هو: الاثنان معاً.
اعتمد مطورو العضو الجديد، والذين يعملون بقيادة علماء من جامعتي بنسلفانيا وتوماس جيفرسون، على عشرات السنوات من جهود فكّ تشفير إشارات الدماغ، عبر استخدام أكثر التقنيات تقدماً في مجال التعلّم الآلي.
يرتكز العضو المزروع الجديد الذي طوّره العلماء، على مجموعة من الأقطاب الكهربائية المغروسة بعمق في الدماغ لتراقب النشاط الكهربائي تماماً كجهاز تنظيم ضربات القلب، لإيصال النبض المنشّط عند الحاجة فقط، أي عندما يصطدم الدماغ بالضعف في أثناء محاولته تخزين المعلومات الجديدة. وفي المقابل، يبقى هذا العضو حيادياً عندما يعمل الدماغ بشكل طبيعي.
يقول مايكل كاهانا، أستاذ في علم النفس من جامعة بنسلفانيا والكاتب الرئيسي للدراسة التي نُشرت حول الاكتشاف الجديد: «جميعنا يمرّ بأيام جيّدة وأخرى سيئة، أيام نعاني فيها من الارتباك وأخرى نكون فيها حادّي الذهن. وجدنا أنّ حثّ الجهاز العصبي حين يمرّ بفترات من الضعف الوظيفي من شأنه أن ينشّط نظام العمل في الجهاز وينقله إلى مستوى أعلى من الأداء».
بعد وضع اللمسات الأخيرة عليه، لا شكّ في أنه سيحسّن حياة الكثير في حال نجح في تقديم الدعم للذين يعانون من ضعف حادّ في الذاكرة. فمن خلاله، سيحصل كبار السن المصابون بالخرف الحادّ على سنوات إضافية يعيشونها باستقلالية. كما سيستعيد الجنود الذين أصيبوا بالرأس، حدّة الذهن المطلوبة للعثور على وظيفة أو حتى مهنة محترمة.
أمّا بالنسبة إلى الأشخاص العاديين، الذين يعانون من حالات نسيان عادية، فسيشعرون أن هذا الإنجاز الجديد عادي ومألوف. فقد عمد البشر عمداً ومنذ الأزل إلى تنشيط الدماغ عبر الكافيين والنيكوتين ووصفات دوائية كالريتالين، أو حتى بوسائل أخرى كالجري. يقول زاك هامبريك، أستاذ علم النفس من جامعة ولاية ميتشيغن: «لدينا دليل مقنع على أن مواد كالنيكوتين والتمارين تحسّن أنماط التركيز. إلا أن التحفيز يمكن أن ينشّط الأنظمة نفسها ولكن مع مزيد من المباشرة والتحديد».
- تعزيز الذاكرة
قدرة واحدة يتميّز بها الأشخاص الذين يتمتعون بذاكرة حادّة واستثنائية هي ما يُعرف بالتركيز الانتقائي أو «السيطرة على الانتباه». ويعد «اختبار ستروب» تطبيقاً شائعاً لهذه القدرة. يرى الناس خلال هذا الاختبار كلمات تمرّ بسرعة على شاشة الكومبيوتر، ليسموا اللون الذي ظهرت به.
وغالباً ما تكون الإجابة فورية عندما يتطابق اللون مع الكلمة، كعندما تظهر كلمة «أزرق» باللون الأزرق، بينما تكون الاستجابة أقلّ سرعة عند غياب تطابق، أيْ ظهور كلمة «أزرق» باللون الأحمر. ويسجّل الرجال والنساء الذين يتنافسون في اختبارات الذاكرة نتائج عالية خصوصاً عندما يكونون في الثلاثينات من عمرهم، رغم أنهم يمرون بمرحلة بدء تراجع قدرات الذاكرة.
يحصل الإنسان على جزء من هذه المهارة بالوراثة، ولكن علماء النفس أثبتوا أن أي شخص قادر على زيادة قدرته الفطرية باستخدامه التقنية نفسها التي يستخدمها أبطال مباريات الذاكرة، وهي الترتيب الدماغي لأسماء أو حقائق أو كلمات جديدة في محيط شديد الألفة، كمحطات قطار الأنفاق أو غرفة الاعتناء بالأطفال مثلاً.
في إطار دراسة جارية، درّب باحثون من جامعة واشنطن في سانت لويس مجموعة من 50 متطوعاً مسناً على حفظ لائحة كلمات عبر استخدام تقنية «التصور المكاني»، أو ما يعرف بـ«بنايات أو قصور الذاكرة».
كشف دايفيد بالوتا، الذي شارك في الدراسة أن امرأة واحدة في الستين من عمرها نجحت في تذكّر 100 كلمة في الترتيب الصحيح، في حين نجح الآخرون في تذكر 50 أو 60 كلمة.
كلّ هذه النتائج أتت دون جراحة أو تناول ريتالين.
ولكن اللافت كان أن القدرة لم تتحوّل إلى أي تحسّن في الإدراك العام، كالقدرة على التركيز وتخزين معلومات جديدة دون استخدام التقنية، أو تسريع المعالجة.
باختصار، إن تكثيف القدرة على تذكّر لائحة من الحقائق، سواء باستخدام عضو كهربائي مزروع في الدماغ أو تدريب يعتمد على التصوير، قد لا يعني شيئاً فيما يتعلّق بالنوعية العامة لحياة الناس الذين لا يعانون من مشكلات في الذاكرة. المعادلة هنا تتغيّر فقط لمن يعانون من ضعف جدّي.
قد يحتفظ الجهاز (العضو) الذي يصحّح الإصابات جزئياً بمعلومات ضرورية كالأشخاص الذين يجب اللجوء إليهم لطلب المساعدة، أو كيفية استخدام هاتف، أو حتى طريق الدخول والخروج من الحمام، بشكل ثابت في الدماغ. وفي السنوات المقبلة، قد ينجح العلماء في تحويل مهمّة هذه التقنية الجديدة إلى العثور على الذاكرة بدل الاكتفاء بتخزينها. يقول كاهانا في حديث للإعلام الأميركي: «وجدنا عند استرجاع الذاكرة متغيرات أكثر من تلك الموجودة في فكّ التشفير»، أو بمعنى آخر، المزيد من القدرة على تكثيف الأداء، أي أنّ النجاح في هذه المحاولة سيغيّر قواعد اللعبة.
إن منح الأشخاص الذين يعانون من ضعف جدي في الذاكرة وسيلة لإتقان الجوانب الضرورية لوجودهم اليومي سيقود دون شكّ إلى تقدّم طبي. ولكنْ إعطاؤهم قابلية أعمق وأكبر للوصول إلى بحر واسع من المعلومات التي يعرفونها في الأصل، سيعيدهم ربمّا إلى أوضاع سيئة وأخرى جيّدة، وإلى حقائق وأسماء موجودة ويعرفونها. وهذا الأمر سيكون بمثابة سيناريو واقعي يجب علينا التنبه إليه.
نجاحات أولية في تطوير «صانع ذاكرة شخصية»
عضو صناعي يُزرع في الدماغ للمصابين بتدهور الذاكرة
نجاحات أولية في تطوير «صانع ذاكرة شخصية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة