آخر يوم من حياة بازوليني

المخرج الإيطالي آبل فرارا يستعرض أحداثه في فيلمه الأخير عن السينمائي والشاعر والرسام

بازوليني  -  آبل فيرارا
بازوليني - آبل فيرارا
TT

آخر يوم من حياة بازوليني

بازوليني  -  آبل فيرارا
بازوليني - آبل فيرارا

ما زال الجدل دائراً حول الفيلم السينمائي الذي عرضته شاشات السينما الإيطالية والأوروبية مؤخراً عن حياة السينمائي والشاعر والرسام والروائي الراحل بيير باولو بازوليني، الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الحياة الثقافية الإيطالية، والأكثر فضائحية في القرن العشرين. الفيلم الذي أخرجه الإيطالي آبل فرّارا هو شهادة سينمائية جديدة لمفكر وشاعر وسينمائي ورسام مبدع دفع حياته للكشف عن فضائح عصره المخبأة تحت السياسة والدين والسلطة.
أنا واثنان من زملائي في نادي الصحافيين الأجانب في روما التقينا بالمخرج الإيطالي آبل فرّارا لنحاوره حول فيلمه الجديد الذي يتناول اليوم الأخير في حياة بازوليني.
كان آبل فرّارا مخرجاً لعيناً، إلا أنه تمكن من الانعتاق من الإدمان على المخدرات، وذلك بخضوعه للعلاج في أحد المشافي بالقرب من مدينة كازيرتا في الجنوب الإيطالي. إنه فنان سريع الغضب في أحيان كثيرة، بيد أن هذا الأمر قد يكون مجرد طريقة له في العمل والتعامل مع الآخرين.
في روما، وتحديداً بأحد مقاهي محطة قطارات أوستيانزا في وسط مدينة روما، كان موعد لقائنا أنا واثنين من زملائي في نادي الصحافيين الأجانب في روما، مع المخرج حول فيلم «بازوليني... اليوم الأخير»، وهذا هو عنوان الفيلم الذي يروي فيه مجرى أحداث آخر يوم من حياة الشاعر.
وصل بالقطار وحال نزوله قال غاضباً: «أي قطار هذا! لقد ركبت في حياتي العديد من القطارات، ولم أر قطاراً بطيئاً كهذا» ثم عبر عن أسفه لنا، وطفق يمسح على خدّ هذا ويمرر يده على رأس ذاك.
بدأ حديثه بالقول: «المشهد، بل الجو العام لتصوير الفيلم، يبدو سوريالياً وليس له أي علاقة بالأربع والعشرين ساعة الأخيرة من حياة بيير باولو بازوليني»، أي تلك الليلة الفاصلة بين 1 و2 نوفمبر (تشرين الثاني) لسنة 1975؛ ليلة مقتل بيير باولو بازوليني، الذي يقوم ببطولته الممثل الأميركي ويليام دافو الذي بلغ من العمر ستاً وستين سنة، وهو المفتون ولا يزال بحب بازوليني.
في هذا الفيلم الجديد عن بازوليني، الذي ينطقه فرّارا بالسين بدل الزاي «باسوليني»، الذي تعود فكرته إلى أكثر من عشرين سنة، أدمج المخرج ثلاثة مشاهد من فيلم آخر عن بازوليني لم يتمه عنوانه «تييو - بورنو - كولوسّال» ومشهدين من «بتروليو» (وهو اسم آخر عمل لبازوليني لم ينهه، وهو أيضاً فيلم لم يتمكن آبل فرّارا من إكماله). يقول عن ذلك: «لا أستطيع أن أدخل إلى ذهن بازوليني إلا عن طريق هذا السيناريو وهذه القصة، إذ لا أعرف شيئاً عن هوسه الجنسي، ولا أدري إلى أي مدى يحق لي أن أسميه هوساً أو تبعية، لكن ذلك الموت الذي لقيه في مدينة أوستيا المطلة على البحر في مكان مظلم وغارق في العدم هو نتيجة لاختياره الوجودي. وفي آخر لقاء له مع صديقه فوريو كولومبو قال (إن حياتي التي أعيشها أدفع ثمنها. أجدني كمن يهبط إلى قعر جهنم، إلا أنه عندما أتمكن من العودة سالماً، هذا إن عدت، أكون قد رأيت أشياء أخرى وأشياء أكثر. أنا لا أحاكم، هذا سفري وليس سفرك)».
إذن فآبل فرّارا مثل بازوليني لا يحاكم إلا أنه عارف تمام العرفان بكل ضروب الهوس والتبعيات أو الإدمان، وهو يقول بأن تلك الضروب تفضي بك إلى «أن يأخذوك إلى السجن أو إلى أن تلقى الموت مسحوقاً بسيارة». هو يدرك كل ذلك لأنه مذ كان عمره 16 سنة، وإلى أن بلغ الستين عاش حياة اللهو، غارقاً في الجنس والمخدرات والخمر وموسيقى «الروك آند رول». وإذا عرضنا لأفلامه، ابتداءً من فيلم «إيان دوري» إلى «لو ريد» مروراً بـ«ملك (من الملائكة) الثأر» إلى «ملك (من المُلك) نيويورك» ومن «القائد العسكري الشرير» إلى «إخوة» وحتى «اذهب اذهب يا طاليس»، نجد أنها كلها أفلام تبحر لاكتشاف الأعماق السحيقة للمدينة: جنس، وعنف، وضروب الإدمان، وجنون وظلام».
لكن آبل فرّارا يعتبر أيضاً مخرجاً ركز اهتمامه على الإثم والإيمان وعلى الانبعاث، إلا أنه لا يوافق على مثل هذا التوصيف قائلاً: «لا أجد انبعاثاً في أفلامي، فشخصياتي لا تتغير قطعاً ولا تتغير أبداً. أما أنا فعلى العكس قد تغيرت إذ كنت مدمناً ولم أعد كذلك. لقد تطهرت من الإدمان منذ سنة ونصف السنة».
وعند سؤالنا له عن تمويلات فيلمه الجديد، ذكر هذا أن وزارة «الكنوز الثقافية الإيطالية» قد ساهمت بقسط مالي.
أما عن حياته اليومية في روما فيقول: «حالما أدخل إلى شقتي بالقرب من ساحة الانتصار بروما، التي أضحت شبيهة بـ(بيفرلي هيل) بالنسبة للسينما الإيطالية، أنزع حذائي، لأصيح بأعلى صوتي، لقد أصبحت نظيفاً ظاهراً وباطناً... هنا الشوارع وسخة للغاية ونحن ننظف أرضية الشقة كل يوم».
ويقول فرارا عن بازوليني ما يقوله عن الديلاي لاما البوذي، الذي هو معلم له: «لما كنا شباباً وكنا نرى أفلامه كنا نشعر بأنه قد أخذنا إلى النور. أفلامه كانت قفزة روحية. لم نشاهد قط أشياء شبيهة بها لأننا كبرنا مع الأفلام الأميركية... لقد تحدثت مع مئات الأشخاص الذين عرفوه، والذين لا يزالون يبكونه ولا أحد منهم قال عنه كلمة سوء. كان نبيلاً، وشفيقاً، يسأل الجميع: كيف حالك؟ هل أكلت؟ أترغب في شرب قهوة؟».
ثم عرض علّينا فرّارا مشاهد مسجلة في كومبيوتره المحمول، يظهر فيها الممثل الذي هو مفتون به، أي الممثل ويليام دافو. إنه مشهد من اللقاء الصحافي الفرنسي في آخر أفلام بازوليني «سالو». والتشابه مع الحدث الأصلي أول ما يشد انتباه المشاهد الذي يعرف الأصل كما يسبب له معاناة وألماً حاداً. وهو يرى أن «الممثل البارع وِيليام دافو قادر على أن يطير إذا طلبت منه ذلك». وفرارا لن يضطر للبحث عن مترجم لأن وِيليام دافو يعيش في إيطاليا منذ تسع سنين، ثم إنه قد تزوج من إيطالية، «كما أننا قارنا صوته بصوت بازوليني فوجدناه هو هو». ثم عرض علينا مشهداً آخر: بازوليني يلعب كرة القدم مع أطفال الضواحي بلباسه العادي، أي ببدلته، وليس بلباس كرة القدم. ويعلق على ذلك بقوله: «في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة من حياته، لا أعتقد أنه قد لعب إلا أنه كان يفعل ذلك دائماً. أما إذا كان ماراً بسيارته فإنه غالباً ما كان يركنها جانباً وينزل للملعب».
ويضيف فرارا: «من الملائم إعادة بناء أحداث اليوم الأخير لبازوليني مع شيء من الحبكة السينمائية والروائية التي تصلح لإيجاد معنى لنهاية هذا المبدع الكبير، لا سيما وأنني لم أصوّر لحد الآن مشهد الموت مثلما ورد في تصريحات بينو بلوزي الذي توفي مؤخراً، وهو المتهم والمحكوم عليه الوحيد في قضية القتل تلك. هل كانت ثمة مؤامرة أم لا؟ هذا أمر لا يعنيني. فالأمر يتعلق بفيلم لا ببحث أو تحقيق، فلا يهمني مطلقاً من قتله، كما لا تهمني طريقة قتله. فكل ما يعنيني هو التراجيديا وما فقدناه. مات بازوليني في سن 57 سنة، وكان من الممكن لو عاش أن يقول وأن يفعل الكثير. العديد من معاصريه لا يزالون على قيد الحياة. سيجد المشاهد نفسه أمام عالمين لمثقف بورجوازي يعيش نهاره مع أمه، ويكتب في الصحف، وكل ليلة ينطلق للبحث عما هو بحاجة إليه. كان بازوليني آخر «هيبّي» أو ربما آخر «فريك». كان يمثل الحرية الفردية وقد تجسدت لحماً ودماً. كان بازوليني يقول: «روما سماوية» رغم أن علاقته بها كانت علاقة عنيفة، علاقة اتسمت بالحب والكره.
الفيلم يجعلنا نشعر، كما يقول الكاتب الإيطالي برغالا، «كما لو أن بازوليني هو الذي يقودنا في مسار مجهول، ومفتوح على لقاءات، وفرص ضائعة، على مهارب وانطلاقات جديدة. إنه مسار مجهول من أشياء شخصية، وأماكن حياة، ومخطوطات، وأفلام وبعض أجزاء من أفلام، وآلة الكتابة. نجد الضاحية وأماكن أو مواضع وشخصيات فيلم (أكتّون) وفيلم (ماما روما) وفيلم (الريكوتّا) وفيلم (ألف ليلة وليلة) وفيلم (حظيرة الخنازير) وفيلم (سالو)... نجد أيضاً روما التي قتلته، وذلك ما تجسده صور جثته فوق رمال ساحل مدينة أوستيا القريبة من روما».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)
يوميات الشرق فيلم «الحريفة 2» اعتمد على البطولة الشبابية (الشركة المنتجة)

«الحريفة 2» ينعش إيرادات السينما المصرية في موسم «رأس السنة»

شهدت دور العرض السينمائي في مصر انتعاشة ملحوظة عبر إيرادات فيلم «الحريفة 2... الريمونتادا»، الذي يعرض بالتزامن مع قرب موسم «رأس السنة».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.