كالفي: إرغام شخص على أن يتكلم لغتي عنف رهيب وفوقية

صاحب {أي مستقبل للغات} لـ«الشرق الأوسط»: حين تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي تصبح الإنجليزية خارجه

لويس جان كالفي   -  غلاف الكتاب
لويس جان كالفي - غلاف الكتاب
TT

كالفي: إرغام شخص على أن يتكلم لغتي عنف رهيب وفوقية

لويس جان كالفي   -  غلاف الكتاب
لويس جان كالفي - غلاف الكتاب

كيف نقرأ العولمة من جانبها اللغوي؟ ما هو مصير اللغات في عالم تحول إلى سوق مفتوحة كل شيء فيها يخضع للمصلحة ومنطق البيع والشراء؟ هل ستبقى الإنجليزية سيدة الألسن؟ وما الذي سيحل بالعربية وغيرها في خضم صراع الثقافات والقوى؟ على هذه الأسئلة ونقاط حساسة كثيرة يتحدث العالم اللغوي الفرنسي لويس - جان كالفي في كتابه الشيق «أي مستقبل للّغات؟ الآثار اللغوية للعولمة» الذي صدر مؤخراً عن «مؤسسة الفكر العربي» في بيروت، وترجمه الدكتور جان ماجد جبور. والكتاب بقدر ما هو أكاديمي علمي، سهل القراءة، كون الباحث يلجأ إلى أمثلة عملية ملموسة، لنفهم منه أكثر حال «سوق اللغات» التي أصبحت كسوق الأسهم، حيث «الإنجليزية هي ذات التسعيرة الأعلى» لكن معرفة لغات أخرى قد تشكل «ورقة رابحة جداً» لمتعلميها.
«لا شيء ثابتا أو أكيدا» يقول لنا كالفي في حوار أجريناه معه أثناء وجوده في بيروت، لإلقاء محاضرة وإطلاق الترجمة العربية لكتابه. «ولكن هذا لا يعني أن لغة أخرى ستحل مكان الإنجليزية غداً، ولا في القريب العاجل. حين يفكر الناس باللغات الأهم في العالم، إنما يفكرون باللغات التي لها العدد الأكبر من المتحدثين. تبعاً لهذا المقياس هناك الصينية والهندية مثلاً التي يتحدث بها ملايين الناس. لهذا لا يكفي عدد المتحدثين لإعطاء اللغات وزنها ومكانتها». ويضرب الباحث مثلاً «الفرنسية التي يقل عدد متحدثيها، لكنها لا تزال لغة رسمية في 36 بلداً في العالم، بينما لو أخذناها بمقياس اللغة الأم فهي تتراجع لتصبح الرابعة عشرة عالمياً. أما الإسبانية فهي اللغة الرسمية في 21 دولة، لكن إذا أخذنا في عين الاعتبار الدخل القومي والترجمات والوزن الاقتصادي، نكتشف أننا بحاجة فعلية إلى جداول وتصنيفات للّغات تبعاً لعناصر كثيرة، كي نفهم موقعها». وهو ما قام به كالفي بحيث نشر في كتابه مقياساً لغويّاً يتضمّن 12 عاملاً، بينها عدد المتكلّمين (كلغة أمّ أو كلغة ثانية)، عدد البلدان التي تكون فيها اللغة رسميّة أو وطنية، تدفّقات الكتب المترجمة منها وإليها، خصوبة الشعوب التي تتحدّث بهذه اللغات، الموقع الذي تحتلّه على شبكة الإنترنت، وغيرها من العناصر. وتحتلّ اللغة العربية المرتبة الثالثة كلغة رسميّة معتمدة في 21 بلداً من حيث الانتشار الجغرافي. إنما لو أخذنا عامل التعليم في جامعات العالم بأسره، فإن العربية تحتلّ المركز التاسع.
وحين نسأل كالفي عن التحولات التي يتوقعها للغة الإنجليزية يجيب: «هناك مؤشرات مهمة، حين ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي الدولة الوحيدة التي تعتمد الإنجليزية لغة رسمية دون سواها، نصبح أمام حقيقة جديدة. هو خروج هذه اللغة من الاتحاد، مما يجعل الإنجليزية تخسر شيئا من وزنها الجيوسياسي. وهذا مرجح وعلينا أن ننتظر لنرى».
يطرح كالفي أيضا جانبين، إيجابيا وسلبيا لانتشار لغة ما، لأنها حينها تتعرض لما يعتبره «انفجاراً لغوياً». فكلما اتسعت رقعة انتشار لغة تشعبت وتفرعت، كما هو حال الفرنسية حيث بات لكل بقعة جغرافية فرنسيتها. يشرح الباحث أن «الفرنسية في كندا غيرها في السنغال أو الكونغو، أو فرنسا نفسها. كما أن العرب لا يتكلمون نفس العربية في لبنان والمغرب والسعودية، وليست نفس الإنجليزية هي التي يتكلمها الناس في نيجيريا والهند وبريطانيا». هذا الانتشار قد يذهب باللغات على المدى الطويل إلى تفرعات غير متوقعة. «قد يقرر السنغاليون أن لهم فرنسيتهم وأن الأكاديمية الفرنسية لا سلطة لغوية لها على ما يعتمدونه في حياتهم. ومن الممكن، أن يقرر اللبنانيون ذات يوم، أنهم يريدون تعليم اللبنانية لأطفالهم حين يدخلون المدرسة وليس الفصحى، لأن هناك هوة بين اللغة التي يتعلمها الطفل في بيته وتلك المستخدمة في الإدارات والمكتوبة في الكتب والمعتمدة دينياً».
ربما أن واحدة من عورات نظريات كالفي أنه لا يرى كبير جسور بين العاميات العربية والفصحى، ويعتقد أن المشكلة الأكبر للأطفال العرب أنهم يتعلمون حين يدخلون المدرسة لغة لا يعرفونها. وهو مهتم بالتعددية اللغوية في بداية التعليم ويتابع التجارب ونتائجها.
خبراء يقولون إن تعليم الأطفال لغة أجنبية في عمر مبكر جداً قبل لغتهم الأم، يجعلهم غير قادرين في المستقبل، على إتقان أي لغة بشكل جيد ومتين لا لغتهم الأصلية ولا لغة أجنبية. يوافق كالفي شارحاً «هذا صحيح وثبت بالتجربة». ويروي بأن صفوفاً تجريبية في دول فرنكوفونية أفريقية افتتحت، لاختبار هذا الموضوع، بحيث يبدأ التعليم في السنة الأولى باللغة الأم الأفريقية، وفي السنة الثانية تشكل الفرنسية نسبة 30 في المائة و60 في المائة من البرنامج يبقى باللغة الأم، وفي نهاية المرحلة الابتدائية تصبح كل المواد بالفرنسية. ويتم المرور تدريجياً من اللغة الأم، لتصبح الفرنسية وحدها هي اللغة التي تدرس بها كل المواد. خلال سبع سنوات أجريت هذه التجربة وتمت مقارنة نتائج هؤلاء الأطفال بأقرانهم الذين تم تعليمهم بالفرنسية منذ الصفوف الأولى ليتبين أن الذين تعلموا بلغتهم الأم أولاً، ولو لفترة قصيرة جاءوا بنتائج أفضل بكل المواد بما في ذلك اللغة الفرنسية نفسها. وذلك لأنهم تعلموا الكتابة والقراءة باللغة التي يعرفونها أصلاً، بينما الطفل الذي ندخله إلى المدرسة ونبدأ نكتب له على اللوح أرقاماً وحروفاً وكلمات لا يفهمها فإن هذا سيشعره بالإرباك بدل الراحة.
ويخلص الباحث الفرنسي إلى القول إن «الشيء الأكيد اليوم أن إعطاء الأولوية والحصرية للغة الأم في البداية يعطي النتائج الأكثر نجاعة». يؤكد هذا العالم الذي كتب عن «اللغويات والاستعمار» و«المتوسط بحر لغاتنا»» أن في العالم نماذج تعليمية لغوية كثيرة جداً يمكن رصدها والإفادة منها. «ففي بلد صغير مثل لوكسمبورغ تستخدم اللغات الثلاث الألمانية، الفرنسية واللوكسمبورغية، كلغات رسمية، وتدرس في المدرسة مع بعضها. يمكن للتلميذ أن يدرس هذه السنة مادة الجغرافيا بالألمانية والرياضيات بالفرنسية، وتعكس اللغات في السنوات التي تليها مثلاً. والأمور تسير بشكل جيد. لا يوجد لديهم رسوب مدرسي مرتفع، والمواطنون يتحدثون جميعهم اللغات الثلاث».
انتزاع لغة شخص قد يعتبر اعتداء وعنفاً يمارس عليه. الجزائريون، مثلاً، يعتبرون أن فرنسا حين سلبتهم العربية ارتكبت عملاً عدوانياً. بالمقابل هناك نظرة أخرى يجيب كالفي: «الأديب الجزائري كاتب ياسين اعتبر أن الفرنسية بالنسبة له هي غنيمة حرب. وهناك كتاب أفارقة يعتبرون أنهم حين يكتبون بالفرنسية فإنما هم يصنعون فرنسيتهم الخاصة. أحياناً تصبح لغة مختلفة، هذا نراه في الكتب الفرنكوفونية الأفريقية، حيث تدخل عبارات محلية على النصوص، التي لا يفهمها سوى أهلها. فاللغة هناك لم تعد فرنسية تماماً».
> هل هو نوع من الثأر؟
- «أنا أسمي هذا نوعاً من التحايل. نعم الاستعمار الفرنسي، وضع العربية جانبا. لكن في الجزائر هناك الأمازيغ أيضاً الذين يعتبرون أن الفرنسية حمتهم من العربية. وهم يحبون ذلك. لكن الجزائريين العرب لهم وجهة نظر أخرى وهي محقة بالطبع، وهي أن الاستعمار حرمهم من لغتهم».
> إلى أين تذهب الفرنكوفونية؟ وهل تفقد من وزنها؟ أم تولد من جديد كما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؟
- «اليوم يوجد 67 مليون فرنسي ولكن لم يعد هناك 150 مليون إنسان يتحدثون الفرنسية في العالم. العدد يتضاءل تدريجياً. في بعض دول أفريقيا السوداء، الحكومات تواصل اعتبار الفرنسية لغة رسمية وتدرسها في المدارس. نسبة المواليد تجعل أنه بعد 40 سنة ستصبح الكونغو (زائير سابقاً) الدولة الفرنكوفونية الأولى في العالم من حيث عدد السكان، الذين سيفوق عددهم سكان فرنسا». الفرنكوفونية من وجهة نظر كالفي كلغوي لن تنجح إلا حين تصبح في خدمة اللغات الأخرى المحلية التي تعيش معها جنباً إلى جنب. «بالمعنى السياسي إذا كان على الأفارقة أن يموتوا جوعاً كي يتعلموا الفرنسية، أنا أفضل أن يعيشوا حياة كريمة ويفقدوا الفرنسية كلغة. لذلك فإن الهدف من التعلم هو النمو. اللغة هي وسيلة. فهل التطوير يمر باللغة الفرنسية؟ ليس بالضرورة. بالإمكان تعليم المهندسين بالفرنسية أو في فرنسا، وتعليم الممرضات باللغة المحلية في بلادهم، وهذا لن ينتقص من كفاءتهم. بالعكس هذا سيسمح لهم بالتواصل بشكل أفضل مع المرضى وتفهم مشكلاتهم. في عملية تعليم اللغات نحن بحاجة إلى كثير من البراغماتية. يفضل أن يعيش الناس دون أن يتكلموا الفرنسية على أن يستخدموها ليقولوا: أنا أموت جوعاً. على هذا الأساس يجب أن ترسم السياسات اللغوية».
> كيف يمكن تفسير أن دولاً أوروبية تتحدث لغات مختلفة توحدت، فيما تعيش الدول العربية التي تتشارك اللغة نفسها نزاعات دموية؟
- هذا أكبر دليل، في رأي كالفي، على أن اللغة المشتركة لا تمنع النزاعات، وأن الترجمة قد تكون وسيلة ممتازة للتقارب بين الشعوب، معتبراً أن تحدث المرء بلغته الأصلية حين يعبّر عن أفكاره، شرط مهم لإيصال ما يريد قوله بدقة.
«الاتحاد الأوروبي مكون من 28 دولة تتحدث 24 لغة مختلفة معتمدة جميعها بشكل رسمي، هذا مدهش فعلاً. في الأمم المتحدة 194 دولة ولم تعتمد سوى ست لغات رسمية. حين يكون هناك نقاش جاد في موضوع دقيق، يفضل أن يتحدث كل لغته، ويتم اللجوء إلى الترجمة، على أن يحاول كل التحدث بلغة الآخر. لأننا نكون متأكدين بأننا سنقول بدقة ما نريد ودون التباس. الترجمة هي المدخل إلى التعايش. الترجمة تجنبنا هيمنة لغة على اللغات الأخرى. في الاتحاد الأوروبي تتساوى اللغات جميعها، وهذا يعزز التساوي بين الدول».
عمل كالفي في الصين وقرأ «فن الحرب» لصاحبة لاو تسيه، ومنه استوحى فكرة «حرب اللغات» فالكاتب يقول: «حين أرغم شخصاً بشكل مباشر أو موارب أن يتكلم لغتي فأنا أمارس عليه عنفاً رمزياً وماديا رهيباً، لأنني أمارس عليه تلقائياً نوعاً من الفوقية. إذا كان يجب أن أناقش نظرية فلسفية باللغة الإنجليزية وأنا لا أجيدها كما خصمي الذي في مواجهتي، فهو حتماً سيتفوق علي، لأنني لا أملك أدواته كما يملكها هو».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!