في عالم موسيقي لا يشبه غيره، لا بنوتاته ولا بتوليفته، يحلّق الموسيقي زياد سحاب في سماء «الموسيقى الافتراضية»، مستحدثاً خطاً موسيقياً جديداً، يطرب القلب ويبهر السمع. فزياد الذي لو خير اليوم، لتمنّى أن يواكب حقبة الزمن الجميل مع فنانين عمالقة تربى على أغانيهم وموسيقاهم، أمثال محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسيد درويش وكارم محمود، رغب في نقل شغفه وحبه لموسيقى هؤلاء إلى جيل جديد لم يسبق لبعضه أن سمع بهم، وكذلك إلى آخر لا يزال يحن إلى أجواء حقبة شهدت أهم نهضة موسيقية في العالم العربي. وانطلاقاً من أهدافه التي تصبّ أيضاً في تكريم هؤلاء، من خلال لفتته هذه، قرّر أن يقدم عرضه الموسيقي «تريلملم» على خشبة مسرح «تياترو فردان»، ليكون بمثابة موعد شهري ينتظره رواده للاستمتاع بمكوناته الخارجة عن المألوف. فهي تدور تحت عنوان «ماذا لو لحّن كل من محمد عبد الوهاب أغنية (ماما زمانها جاية) (لمحمد فوزي) وخالد الهبر أغنية (زينة ونحول) (بطلا مسلسل كرتوني حقق شهرة واسعة في لبنان فترة الثمانينات)»؟.
«هي بمثابة لعبة تحمل الخطورة كما المتعة في طياتها»، يقول زياد سحاب خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، ويضيف: «ليس من السهل تقمّص أدوار هؤلاء العظماء من ناحية، كما أجدها في المقابل ضرورة لتعريف موسيقاهم إلى جيل جديد يغوص في موسيقى اليوم ويجهل تلك الخاصة بزمن الفن الجميل». وحسب سحاب ابن البيت الفني أباً عن جد (والده فيكتور سحاب رئيس مجلس الموسيقى الدولي لليونسكو وعمّه المايسترو إلياس سحاب)، فإنّ ركيزة الموسيقى الافتراضية التي يقدمها هو تلمس بصمة هؤلاء العمالقة المؤلفة من أسلوب وتقنية لا يشبهان غيرها في عالمنا العربي. «أعتقد أنني نجحت في هذا الامتحان بعد أن لمست ردود فعل الحضور، وتلقيت أصداء إيجابية منهم ومن خبراء في عالم الموسيقى جاءوا مسرح (تياترو فردان) لخوض هذه التجربة معي».
وبالنسبة لسحاب فهو تعاطى مع تجربته هذه بالفطرة وليس بالبحث والتعمق، ويقول معلقاً: «ببساطة أتعامل مع ألحان أشخاص أعرفهم عن كثب ترعرعت على موسيقاهم وتشرّبت تقنيتهم من خلال النغمة التي يصنعونها».
ولّد سحاب لدى جمهوره حب المعرفة والحشرية لاكتشاف أسماء كبيرة في عالم الموسيقى وضعوا الفنون العربية في الواجهة فحولوها من محلية إلى عالمية. «بالطبع تملّكني الخوف للوهلة الأولى وصرت أراقب تعابير وجهي الفنان خالد الهبر وعمي إلياس سحاب، لأعرف إذا ما نجحت أو فشلت. فكان أن تلقّيت التهاني منهما إثر انتهاء العرض». وكما أغنية «ماما زمانها جاية» و«زينة ونحول»، اختار زياد سحاب أخرى تنتمي أيضاً إلى أغاني الطفولة، ألا وهي «تك تك تك يا أم سليمان» (ألحان الرحابنة وغناء فيروز). فقدمها على طريقة منصور الرحباني فيما لو تمكن من تلحينها وحده. «لقد اكتشفت من خلال متابعتي الحثيثة لأعمال منصور الرحباني بعد وفاة شقيقه عاصي، أنّه يشكل مدرسة بحد ذاته. وتكونت لدي فكرة أكيدة من خلال الروائع التي قدّمها في مسرحياته ما بعد رحيل شقيقه أنّه كان يتمتع برؤية فنية لا تشبه غيرها وتختلف بعناوينها وتفاصيلها عن تلك التي شارك فيها أخاه عاصي».
لم تقتصر عملية التطوير والتحديث الموسيقيين اللذين تبناهما زياد سحاب على الملحنين المذكورين، بل طالت آخرين تركوا أسساً موسيقية وراءهم تدرّس اليوم في الجامعات، أمثال عاصي ومنصور الرحباني، وبليغ حمدي، وفليمون وهبي. ويعمل على تقديم ألحان لآخرين أمثال رياض السنباطي ومحمد القصابجي. ولكن لماذا أصرّ على استخدام أغانٍ خاصة بالأطفال؟ يرد: «لأن أغنية الأطفال مرحة وسهلة الوصول إلى الآخر، وتتحمل أن يجري التلاعب بركيزتها الموسيقية، عكس تلك الكلاسيكية التي ترسخ في ذاكرة كثيرين كما هي فلا يقبل تغييرها. كما أن النتيجة يمكن أن أتلقفها بشكل أسرع مع هذا النوع من الأغاني».
زياد سحاب عزف وشانتال بيطار غنت، فأكملا معاً مشهدية موسيقية افتراضية قلّما يمكن مصادفتها في أيامنا. وعن رأيه في الساحة الموسيقية اليوم، يقول: «لست من محبذي مقولة (رزق الله) وبأنّ الزمن الماضي كان أجمل، فصحيح أنّني في أعماقي كنت أتمنى لو ولدت في ذلك الزمن، ولكن لكل زمن رجاله ولغته وموسيقاه ونشهد تطوراً ملحوظاً في هذا الإطار، لا سيما أنّ الموسيقى العربية تشغل اليوم أهم الموسيقيين والمغنيين الأجانب بعد أن أدرجوا بعض آلاتها على أعمالهم».
هذه التوليفة التي تنقلك إلى عالم خيالي يتقمّص فيها الموسيقي الشاب أدوار عمالقة راحلين، بحيث يعزف بأناملهم ويلحن حسب رؤيتهم، لن تتوقّف عند هذا الحد، فمن المتوقع أن يستخدم أغنيات لهيفاء وهبي ويلحنها على طريقة الموسيقيين العمالقة.
ويتضمن برنامجه الغنائي الشهري في «تريلملم» أغنية «فات الهوى»، وهي من كلمات أحمد فؤاد نجم ومن ألحانه. «لقد قدمتها أيضاً بفرضية تلحينها من قبل زكريا أحمد وأحمد الموجي ولاقت صدى طيباً». ويشير زياد سحاب إلى أنّه في موضوع ألحان محمد عبد الوهاب لجأ إلى موسيقاه في حقبة الأربعينات. ويعلق: «هو من الملحنين الصّعب التقاط نفسهم في التلحين كون موسيقاه كانت تشهد تطوراً مستمراً. فهو بعد اعتزاله الغناء، تفرّغ لتأليف الموسيقى وكان لا يتوانى عن اكتساب الجديد فيها من بعض تلامذته، فكان لا يمل من تجديد نفسه، وهو ما نلاحظه في مقاطع موسيقية ألفها، فكان أول من أدخل عليها آلات عزف أجنبية في الأربعينات». وفي أعماله الافتراضية هذه يتطرق سحاب إلى أسلوب الراحل فريد الأطرش في التلحين، ويقول: «أغنية ماما زمانها جاية»، تحوّلت إلى مقطوعة «تانغو» تلونها تقاسيم على العود، وهو الأسلوب التلحيني المعروف به الأطرش، إذ كان يكسر الشكل الغربي للموسيقى بالتقاسيم. أمّا في أسلوب بليغ حمدي فيستخدم سحاب النمط الفولكلوري المصري بمطولاته المشهور فيها.
«الموسيقى الافتراضية» بأنامل وفكر وقراءة زياد سحاب، نقلة فنية تشهدها الساحة اللبنانية من باب حبّه للتّحدي واكتشاف ردود فعل الناس تجاهها. وحالياً يعمل الموسيقي الشاب الذي تجاوزت شهرته لبنان، (أقام حفلات موسيقية في بلدان أوروبية وعربية)، على أعمال من نوع «فلامنكو» لمغنية من تشيلي يلوّنها بالموسيقى الشرقية. ويختم: «لا يجب أن نخجل من موسيقانا وعقدة النقص التي يعاني منها البعض بسبب الموسيقى الغربية لا يجب أن تراودنا، كون موسيقانا غنية جداً ولا ينقصها شيء لتكون عالمية».
زياد سحاب يحلّق بألحان العمالقة في سماء «الموسيقى الافتراضية»
افترض تلحين محمد عبد الوهاب لـ «ماما زمانها جاية» وخالد الهبر لـ «زينة ونحول»
زياد سحاب يحلّق بألحان العمالقة في سماء «الموسيقى الافتراضية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة