كتاب روسي يكشف آليات رسم السياسة الخارجية داخل الكرملين

موسكو تسعى للعودة إلى الشرق الأوسط من خلال البوابة السورية

كتاب روسي يكشف آليات رسم السياسة الخارجية داخل الكرملين
TT

كتاب روسي يكشف آليات رسم السياسة الخارجية داخل الكرملين

كتاب روسي يكشف آليات رسم السياسة الخارجية داخل الكرملين

يأتي كتاب «من لينين إلى بوتين - روسيا في الشرق الأوسط والأدنى» ثمرة لتاريخ طويل امتد لنصف قرن قضاها مؤلفه المستشرق الروسي ألكسي فاسيليف في إجراء تقييم أراده موضوعياً للسياسة الخارجية لبلاده، بعيداً عن الأحكام المسبقة على الأهداف والأساليب والوسائل التي انتهجتها موسكو، وما جنته من إنجازات حقيقية، وكذا لحظات الفشل والخطأ في الحسابات التي ارتكبتها في مناطق من «العالم الثالث»، شديدة الأهمية بالنسبة إليها، سواء في الحقبة السوفياتية أو ما بعدها.
ويركز فاسيليف في كتابه، الذي صدرت ترجمته العربية عن دار نشر «أنباء روسيا» المصرية بترجمة الدكتور محمد نصر الدين الجبالي، رئيس شعبة اللغة الروسية بكلية الألسن، جامعة عين شمس، على عملية اتخاذ القرارات داخل الكرملين تجاه منطقة الشرق الأوسط. ومن أجل فهم العملية بشكل أوضح، عاد المؤلف إلى عام 1969، لأنه في هذا العام، باعتقاده، وصل النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط إلى ذروته. لكن في الوقت نفسه كان هناك الكثيرون بين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط يطرحون التساؤلات التالية: ما الأهداف والوسائل والأساليب التي تنتهجها السياسة السوفياتية في المنطقة، وهل تتفق والمصالح الوطنية للاتحاد السوفياتي أم تتناقض معها؟ وما مفهوم مصطلح «المصلحة الوطنية»؟ ومتى وكيف تُتخذ القرارات؟ ومتى وكيف يتم تنفيذها؟
بدأ فاسيليف تأليف كتابه في أوائل التسعينات، وكان الاتحاد السوفياتي قد اختفى في تلك الفترة، وقتها رأى أنه حان الوقت للتحدث بصدق وبصراحة وطرْح ملاحظاته وأفكاره وما جمع من حقائق ووثائق ومقابلات صحافية. وبعد مرور ما يقرب من ربع قرن على ذلك قرر فاسيليف تحديث مادته، وأضاف جزءاً ثانياً إلى كتابه، وغيّر عنوانه إلى «من لينين إلى بوتين» ليغطي مساحة قرن من الزمان تقريباً بعد أن ضم إلى تحليلاته فترة ما بعد غورباتشوف والتي مثّلت «حدود البراجماتية».
أشار فاسيليف إلى أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ثار التساؤل التالي: أيُّ سياسة خارجية أو داخلية يمكن أن يدور الحديث عنها في السياسة الروسية؟
وذكر أن الاعتراف بروسيا بوصفها وريثاً للاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن، وسرعة إبدال العلم الروسي بالسوفياتي على مباني السفارات السوفياتية السابقة، كان مؤشراً على شيء واحد، هو أن روسيا التي أصبحت ترتدي عباءة سياسية خاصة بها ما هي إلا الاتحاد السوفياتي السابق، إذ كانت السياسة السوفياتية في جوهرها سياسة روسية سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
ورغم أن البلدان العربية تعد جوهر اهتمام مؤلف الكتاب، فإنه لا يمكن تجاهل سياسة الاتحاد السوفياتي تجاه كلٍّ من تركيا وإيران وأفغانستان، فمن دون ذلك سيبدو التناول لدور ومكانة البلدان العربية غير مكتمل، فالعلاقات بين الاتحاد السوفياتي والبلدان الحدودية المذكورة، من وجهة نظر فاسيليف، كانت بالاتساع والمتانة. وهو يخصص لها مساحة أكبر في الفصل الثاني من الكتاب، عند الحديث عن فترة ما بعد غورباتشوف.
قارن فاسيليف في كتابه بين جهده البحثي وما أنتجه غيرُه من علماء ومفكرين، مشيراً إلى أنه لا يمكن تناول ما يطرحه دون التعرف إلى أعمال الباحثين الغربيين، وهم كُثر. كما أنه من غير الإنصاف التأكيد أن أحدهم بمقدوره وحده الإلمام بكل ما نُشر حول الموضوع، ولفت إلى أنه في الحقبة السوفياتية تنامى الاهتمام بالشرق الأوسط والأدنى، وصدرت العشرات من الكتب التي تتناول السياسة السوفياتية تجاه المنطقة، وكان الباحثون الغربيون على دراية واسعة بالمصادر والمراجع السوفياتية المنشورة. وأحياناً كانت أعمالهم وكتاباتهم تتسم بكونها أكثر اكتمالاً وصراحة من نظيرتها السوفياتية.
وأكد ما ذهب إليه حول جهد الباحثين الغربيين بقوله «إنه على سبيل المثال لم يقرأ لدى أيٍّ من الكتاب السوفيات في حينها عن القلق الذي سيطر على قوات الإنزال السوفياتية في أثناء الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1973»، وعاب عليهم تورطهم مثل نظرائهم السوفيات في أدلجة أبحاثهم ودراساتهم، مستفيدين من معادلة «اللعبة ذات النتيجة الصفرية». أي أنه في المناطق التي كان الاتحاد السوفياتي عادةً ما يفوز فيها، أصبحت الولايات المتحدة تفوز، والعكس. لكن حسب رأي المؤلف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انخفض القلق من السياسة الروسية في المنطقة إلى الصفر تقريباً، وما لبث أن تزايد مرة أخرى في بداية القرن الحادي والعشرين، لتعود بعد ذلك فكرة الأدلجة وإسباغ صفة «رسول وداعية السلام والعدل» لتلتصق بسياسة الدول، وتسيطر على كتابات معظم المؤلفين الغربيين رغم وجود بعض الاستثناءات.
وعند حديثه عن فترة التسعينات، طرح المؤلف مسألة معقدة وطموحة، أملاً أن تحقق نجاحاً ولو جزئياً، يسمح بإلقاء الضوء بشكل جديد على السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط والأدنى. حيث كان الحديث الدائر عن محاولة إيجاد نقاط التقاء بين مستويات مختلفة للحقيقة أو على الأقل أخذها بعين الاعتبار دائماً عند القيام بأي تحليل.
وقال إن المستوى الأول يتمثل في الوضع السياسي والاجتماعي الحقيقي في الشرق الأوسط والأدنى، والذي أسهم في بلورته القائمون على السياسة الخارجية السوفياتية. أما المستوى الثاني فيخضع لقوانينه الخاصة في الأداء، ويتجلى في الهياكل والمؤسسات السياسية والبيروقراطية المرتبطة بمفهوم السياسة الخارجية والتي تتمتع بتنظيم آيديولوجي محدد. أما الثالث فيكمن في الجانب الأقل دراسة وهو البشر أنفسهم؛ بمعارفهم وجهلهم، وذكائهم وغبائهم، وشجاعتهم وجبنهم.
وذكر فاسيليف أنه، كحال أي مؤرخ، يعمل مع الآثار والشواهد التاريخية في السياسة، أي مع الوثائق والإعلانات والتصريحات والأحاديث والبروتوكولات والاتفاقيات. إلا أن معظم الموجود في الأرشيفات الرئيسية بوزارة الخارجية والجهات التابعة لها كان ممنوعاً على الباحثين. لذا قام بعمل لقاءات صحافية مع العديد من رجال الدولة في العهود السابقة بوصفهم أحد مستويات الحقيقة، وكذا أجرى لقاءات مع بعض ممن تبقوا في السلطة، والذين وافقوا على عقد لقاءات مماثلة، من بينها حواره مع «د.ت.شيبيلوف» صاحب الستة والثمانين عاماً الذي سلم التحذير النووي الصاروخي الشهير في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1956، إلى سفراء كلٍّ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وكانت لديه فرصة تقلد موقع قيادي في الاتحاد السوفياتي ولكنه فوّتها على نفسه، لافتاً إلى أن لقاءه إياه كان ربما آخر اللقاءات الصحافية التي أجراها الرجل في حياته.
ومن بين الشخصيات التي اعتمد عليها المؤلف في تحليلاته وزير الخارجية السوفياتي السابق «إدوارد شيفرنادزه»، الذي صار رئيساً لجورجيا بعد تفكك الاتحاد، و«أ. زاسوخوف» الرئيس الفعلي للجنة السوفياتية لتضامن بلدان آسيا وأفريقيا وسفير الاتحاد السوفياتي في سوريا، و«ن. يجوريتشيف» الذي كان يشغل في السبعينات منصب سكرتير اللجنة الفرعية بالحزب الشيوعي السوفياتي في مدينة موسكو، فضلاً عن الكثير من السفراء والعاملين في الحقل الدبلوماسي والأعضاء السابقين في القسم الدولي باللجنة المركزية بالحزب الشيوعي السوفياتي وفي إدارة المخابرات العامة ولجنة الأمن القومي والهيئات الاقتصادية الخارجية.
واستخدم فاسيليف مصطلح «دبلوماسي» و«موظف بالقسم الدولي باللجنة المركزية» كمترادفين يعادلان المصطلح الصحافي المستخدم الشهير «مصدر معلومات مطلع». وقال إن هناك من لم يعارض نشر اسمه، وهناك من فضل أن يبقى مجهولاً حرصاً على الوظيفة، وهم الأكثرية، وهو ما أثّر سلباً بالطبع على قيمة كتابه الذي تضمن 15 فصلاً وخاتمة. لكنه أعلن حرصه على أن يلتزم حرفياً بمقولات الأشخاص المجهولين، وبما قالوه دون إضافة أو نقصان، وقد رآهم أكثر ثقة من غيرهم الذين صرّحوا بأسمائهم علناً.
وتناول فاسيليف في كتابه، الذي يقع في نحو 750 صفحة من القطع الكبير، رحلته إلى واشنطن زمن الثورة المصرية في يناير (كانون الثاني) 2011، حيث التقى مجموعة من المستشرقين الروس والعلماء الأميركيين، كانت القنوات التلفزيونية وقتها عامرة ببرامج التوك شو عالية المشاهدة حول الثورات العربية. ولفت إلى أنها كانت غائبة عن المشهد وقراءة الواقع، وهو ما بدا في حديث مراسل صحافي أميركي كان يقف في ميدان التحرير، مركز الأحداث بالعاصمة في مصر، ويتحدث بكلمات صوغت بإتقان قائلاً: «المتظاهرون هنا لا يعبّرون عن أي مشاعر معادية لأميركا»، بينما تظهر في الخلفية يافطة كبيرة مكتوباً عليها بالعربية «إرحل إرحل يا جبان يا عميل الأميركان»، وحينها توصل العلماء الروس إلى النتيجة وقالوا: «انتهى الأمر! وتحدثوا عن النمو المتوقع لنفوذ التيارات الإسلامية في العالم العربي، ولم يعلق الزملاء الأميركان بشيء وفضّلوا الصمت».
وخلص فاسيليف في كتابه المهم إلى أن «روسيا تسعى في القرن الحادي والعشرين إلى العودة إلى الشرق الأوسط. وشاءت الأقدار أن يكون ذلك عبر البوابة السورية، وقد ظهرت روسيا من خلالها إمكاناتها وقدراتها العسكرية للمرة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي».


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة