سؤالان طافا في بال كثير من الموجودين، خلال أيام الدورة 68 من مهرجان برلين التي بدأت في الـ16 من الشهر، وتختتم في الـ25 منه.
الأول سرّ وجود عدد من الأفلام المتسابقة غير المدعومة بالمستوى الفني اللازم لاشتراكها في مسابقة مهرجان رائد كهذا.
الثاني عمن سيخلف رئيس المهرجان الحالي، دييتر كوزليك، عندما تنتهي ولايته في مطلع مايو (أيار) العام المقبل.
ليست هناك من طريقة لمعالجة الوضع الأول. نظرياً، فإنّ الأفلام المنتقاة هي من بين أفضل ما أنتج عالمياً، إلا إذا تدخلت عوامل أخرى غير معروفة. كما أن هذه الحالة قد تقع في أي مهرجان آخر صغيراً كان أم كبيراً. وبالنسبة للمهرجانات الأولى التي على غرار برلين ومنافسيه، «كان» وفينيسيا، فإن هذا سبق له أن حدث عدة مرّات، تحت عاملين رئيسيين: إمّا لجنة لديها تحبيذها الخاص، وإما أن المقتَرَح عليها من أفلام يحتوي على قليل من الأعمال البديعة.
الموضوع الثاني الذي هو أكثر انتشاراً في الواقع لا يقل أهمية. المهرجانات الكبيرة حول العالم لا تنتظر حتى الأشهر الأخيرة من السنة لكي تعلن مَن سيكون خليفة رئيسها أو مديرها الفني، بل تخطّط لذلك قبل وقت طويل. وخطة وزيرة الثقافة والإعلام مونيكا غروترز هي الإعلان عن الرئيس المقبل في غضون هذا الصيف حتى يلتحق بالرئيس الحالي كوزليك فيتعلم منه ما يجب عليه معرفته قبل أن يحمل بطيخات الدورة الـ70 سنة 2020.
في طيات ذلك الهدف تعيين لجنة سينمائية عليا تدرس وتقترح وتتألف من ألمان وغير ألمان فالوزيرة صرّحت في مؤتمر صحافي بأنّه ليس من الضروري أن يكون رئيس المهرجان ألمانيّاً، معيدة للأذهان الدورات السابقة التي رأسها السويسري موريتز دهدلن بنجاح ملحوظ آنذاك.
بعض منتقدي كوزليك يقولون إن المهرجان مصاب بالتخمة لاحتوائه على أكثر مما يجب من أفلام في أكثر مما يجب من أقسام وتظاهرات. لكن وإن كان هناك أكثر من 300 فيلم تتوزع على عشرة أقسام، فإن الزخم والحجم اللذين يتمتع بهما برلين هما التميّز المهم الذي يفصله عن المهرجانات الكبيرة الأخرى. طبعاً سينجح إذا ما قلص عدد تظاهراته وأقسامه إلى النصف، ما يمكنه من الاستغناء عن ثلث عدد أفلامه أو أكثر، لكنه قد يصبح نسخة قريبة أكثر من فينيسيا.
من أجمل ما يتحلّى به هذا المهرجان، ومهرجانات دولية أخرى، غياب الشللية؛ لا تستطيع أن تمد أصبعك نحو فئة وتسميها شلّة. هناك موظفون من شتّى المضارب والمشارب يعملون معاً لهدف واحد ولن تجد أن لفيفاً منهم يفرض خطاً خاصّاً به أو يفرض وصاياه ومصالحه وعلاقاته الخاصة، مفضلاً إياها على مصلحة المهرجان ككل.
أشباح وضباب
المؤكد بالنسبة للعروض ذاتها أنها حافظت على تنوّعها وأثار بعضها اهتماماً سياسياً ليس غريباً عن مهرجان برلين، كونه حافظ على دوره كوسيط بين اتجاهات العالم السياسية منذ أن كانت هناك أوروبا شرقية وأخرى غربية.
لجانب «7 أيام في عنتبي» الذي حصد فتوراً بين معظم النقاد، شاهدنا «ترانزيت» الذي يتمحور حول التجربة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية. هذه التجربة التي يتكرّر الغوص فيها مع تكرار كثير من الأفلام التي تتطرق إلى تلك الأحداث التي شهدتها أو جاورتها. كثير من هذه الأفلام تبدو كما لو كانت نتاج جهاز لصناعة المعلّبات، لكن من حين لآخر يأتي ما هو مختلف (بصرف النظر عن مستواه الفني) و«ترانزيت» للألماني كرستيان بتزولد هو أحدها... وليس على نحو كامل أساساً.
ففي حين تقبع كثير من تلك الأفلام في زوايا ميلودرامية متكرّرة حول ما حدث ونتائجه، يتخلص الألماني بتزولد من تبعات تلك المعالجات ويؤم حكاية جديدة بأسلوب عمل جيد في غالبه. بطله هو كاتب اسمه جورج (فرانز روغوفسكي) النازح إلى مرسيليا لكي يهاجر إلى القارة الأميركية عبر البحر. كان حصل على أوراق كاتب يهودي أقدم على الانتحار هرباً من مصير محتم اسمه وايدل، من بينها أوراق هوية؛ فإذا بالسلطات التي تمنح تأشيرات الهجرة تمنحه تأشيرتها على هذا الأساس الذي بات يفرض عليه التحوّل إلى شخص آخر سواه. هو الآن في أحد تلك النزُل الصغيرة القريبة من المرفأ ينتظر الإبحار على متن إحدى تلك البواخر المزدحمة. خلال ذلك يتعرّف على نزلاء آخرين طامحين لمغادرة رصيف المدينة بينهم ولد اسمه إدريس وامرأة يهودية كذلك على زوجة وايدل التي لا تدري بعدُ أن زوجها مات ولا أنّ جورج قد استولى على شخصيته ولو بالصدفة.
من المفترَض أن الأحداث تقع، كما في المصدر المتمثل في رواية وضعتها سنة 1942 آنا سيغر، وهي ذاتها التي وضعت عدة روايات عن الحقبة النازية في الثلاثينات والأربعينات من بينها ما حوّل إلى السينما «ستّة»، أبرزها فيلم فرد زنيمان الأميركي «العبور السابع» (1944). لكن ما يقوم به المخرج الحالي بتزولد هو نقل الأحداث إلى اليوم. نعم، النازيون قادمون وهناك لاجئون فارُّون، لكن مَن هم النازيون الذي احتلوا باريس، وها هم ينتشرون فوق باقي الأراضي الفرنسية وسيصلون إلى مرسيليا قريباً؟
بتزولد يوفر الجواب عن طريق استحضار شبح الماضي ليصبح ضباب الحاضر. بذلك يوحي بأن هناك نازيةً جديدةً وحروباً أخرى ومهاجرين، إنما من شتى الأجناس الخائفين مما قد يتعرضون له. وبهذا، هو غير ما توفر سابقاً عن أفلام هولوكوست.
بجلب الماضي ليلعب دور المؤشر للحاضر، فإنّ هذا الشبح المتمثل في زمن يعيد نفسه هو قريب أيضاً من شبح وايدل الذي يطغى على شخص جورج. حين يدخل الثاني القنصلية المكسيكية لاستحواذ «فيزا» يقع الخطأ الذي بموجبه تحوّل من شخص لآخر. من هنا سيعيش جورج تحت ضباب وايدل والظروف المختلفة التي تحيط به وبعمله الروائي والأمور ستزداد اضطراباً مع تعرّفه على زوجة وايدل (باولا بير) والوقوع في حبها.
جبريل ومريم
أمام هذا الفيلم فرصة لا بأس بحجمها لنيل «الدب الذهبي» في نهاية الدورة. لكن خارج المسابقة ثمة أفلام أخرى تتعاطى والمسائل الشائكة الحالية من بينها «جبريل» للألمانية (كذلك) هنريكا كول. ما تطرحه ليس بعمق طروحات «ترانزيت» بطبيعة الحال، لكنّه موحٍ ببعض الإشكالات الناتجة عن أناس في غير أوطانهم عليهم أن يعيشوا حياتهم ضمن الثقافة الجامعة وترتيبات ظروفهم الحاضرة. بطلة الفيلم امرأة شابة اسمها مريم (سوزانا عبد المجيد) تعيل ابنتها الصغيرة، وفي أحد الأيام يطلب منها إيصال طرد إلى سجين اسمه جبريل (مالك أدان). حين تلتقيه وراء قضبانه، يكتشفان أنّهما التقيا قبل عدة سنوات. شغف اللقاء الأول يتكرّر الآن ويزداد مع تكرار الزيارات.
الناتج حب من بعيد لبعيد يتبادله الاثنان (يقضي جبريل سنوات وراء القضبان) في معالجة لا تريد أن تتخلى عن رومانسيتها تحت أي ظروف مستفيدة من أن شخصية الفيلم النسوية هي امرأة وضعت عواطفها في الثلاجة بسبب ظروفها الخاصة، والآن تخرج هذه العواطف إلى العلن. حين تلتقط المخرجة مشاهد مريم بعد ذلك اللقاء الثاني تمنح شخصيتها تلك الأنثوية الناعمة التي تسير يداً بيد مع الحالة العاطفية الجديدة التي تمر بها. يبرز ذلك في مشهد لها وهي تدور حول نفسها أمام السجن كما لو كانت ترقص على ألحان موسيقى غير موسيقى المؤثرات، كما في مشهد قيامها بالرقص في حفل زواج صديقة لها.
العنوان رجالي، لكن البطولة نسائية، والمخرجة استمدت أحداثها، كما قالت في تصريحاتها، من حدث حقيقي صوّرته قبل أربع سنوات، كفيلم تسجيلي، حول حب متبادَل بالشكل نفسه، إذ تقرر صنع هذا الفيلم الروائي تختار منح الأحداث بعض التعميق بجعل الشخصيتين الرئيسيتين عربيين. هذا ينفع ضمن هذه الغاية لكنه لا يفيد كثيراً عند الحكم على الطريقة التي سرد الفيلم عبرها فإذا به مرتب أكثر من اللازم لكي تقع فيها الأحداث على نحو يؤمّن المرور في عنق الزجاجة لاحقاً. أكثر ضرراً تصميم اللقطات التي بمجملها قريبة بكاميرا محمولة ومبتهجة، كما أن علينا أن نتابع الكاميرا وليس الشخص الذي تصوّره.
في قسم «الفورام» عُرض فيلم إيراني عنوانه «خنزير»، ومخرجه اسمه ماني حجيجي، كان أم الإخراج قبل 18 سنة، وعرض له المهرجان، في هذا القسم تحديداً، بعضاً من أفلامه. إذا لم نسمع به سابقاً، على نحو أترابه من المخرجين الإيرانيين، فإن ذلك يعود إلى أنه أخفق في الوصول إلى مرتبة مماثلة.
الذي يحدث عادة هو تسريب فيلم إلى مسابقة في مهرجان ما يصوّر وضعاً محلياً بقدر كافٍ من الحسنات الفنية التي قد تؤول به إلى نيل الجائزة الكبرى. هنا يرفض المسؤولون الإيرانيون عادة النتيجة واتهام مخرجي تلك الأفلام بالخروج عن قوانين يجهلون ما هي وحين عودتهم يُحظر العمل لهم أو التعامل معهم. بعضهم، كمحمد رسولوف وجعفر باناهي، يجدون أنفسهم مهددين بالسجن.
لا أعتقد أن المخرج حجيجي سيهدّد بالمنع أو السجن ليس لأن فيلمه الجديد ليس من أفلام المسابقات، وبالتالي لن يجهر أمام الإعلام بأي شيء تعتقد إيران أنّه يمس بها، بل لأن الفيلم خالٍ من أي نقد أو دلالات ذات قيمة. الأسوأ من ذلك أنّه كوميديا رديئة الإخراج تدور حول مخرج كان ممنوعاً من العمل (هذا يأتي من دون بحث فيما جعله على اللائحة السوداء) يقف الآن وراء الكاميرا من جديد. لكنّ الظروف المحيطة الآن تدفعه إلى صرف الوقت على حل مشكلات عاطفية منها أنّ الممثلة التي تمثل الآن فيلماً لمخرج آخر يعاديه تبتعد عنه بينما يزداد هياماً بها. ابنته الشابة أيضاً لا تحبّذ تدخله في شؤون مستقبلها الفني. الساعة الأولى من الفيلم تمضي في متابعة هذه الأوضاع التي كان يمكن لها أن تُعرض في ربع الساعة الأولى لتتفرغ الأحداث لما هو أهم. قبيل نهاية الفيلم نكتشف أنّه ليس هناك ما هو مهمّ فعلاً بل حكاية نصف عاطفية مع كَمّ حوارات أكثر من المطلوب.
هناك خيط كان يمكن لهذا الفيلم الإمساك به وتحويله إلى بُعد سياسي: هناك مجرم خفيّ فالت يقتل مخرجي السينما. بطل الفيلم خائف على روحه والمخرج حجيجي لا يعرف كيف، وقد كتب السيناريو بنفسه، كيف يبقي الجانب العاطفي متزامناً مع ذلك الوضع الغامض الناتج عن وجود قاتل مجهول. وإذ يفقد الرغبة في توجيه مسألة قتل المخرجين لتحمل دلالات ما (قد يُقصد بذلك النظام، لكنّ هذا ليس وارداً) فإنّ النتيجة الماثلة ركيكة الكيان. المشهد يستمر عادة بعد زوال أثره الأول. تصميم اللقطات ومن فيها تقليدي والرغبة في اللجوء إلى فيلم آخر سريعاً لنسيان هذه التجربة هو الشعور الوحيد المتصاعد في النهاية.