الكاتب البريطاني بيتر مورغان يبدو وكأن تاريخه المهني مدين للملكة إليزابيث بشكل كبير؛ فهو كتب عنها أكثر من غيره، صورها في الفيلم الشهير «ذا كوين» تحاول إنقاذ العائلة من تداعيات وفاة الأميرة ديانا، ثم عاد لحضرتها مرة أخرى في مسرحية «ذا أوديانس» ليستكشف علاقاتها مع رؤساء الوزراء الذين عاصرتهم خلال أكثر من 60 عاماً، والآن يعود مرة أخرى لملكة بريطانيا في مسلسل «ذا كراون» ليسرد تاريخاً عريضاً بدأ من زواج إليزابيث ويندسور للضابط فيليب، وتابع وصولها للعرش لتصبح الملكة إليزابيث.
مورغان صرح أكثر من مرة بأنه لا يؤيد الملكية في بريطانيا، لكن يبدو أن تأثير انغماسه في تفاصيل حياة إحدى أطول ملكات بريطانيا خدمة، قد نجح في تغيير قناعاته، حيث قال لمجلة «راديو تايمز» إنه أصبح مؤيداً للملكية بقوة، وأضاف: «عندما بدأت هذا المسلسل كنت معارضاً لفكرة الملكية بالمرة، لكني أعدّ نفسي مناصراً لها». ويشرح أكثر: «يؤمن الشعب بالملكة وبدورها حتى في هذا الوقت الذي يصعب فيه أن تؤمن بأشخاص وبقدراتهم».
لكن الملكة إليزابيث على الشاشة كما نراها في «ذا كراون»، (تقوم بتمثيل دورها باقتدار البريطانية كلير فوي) تبدو من خلال سياق الأحداث امرأة بسيطة، لم تتلق تعليماً عالياً، حيث انحصرت كل دراستها على التاريخ والدستور البريطاني. في إحدى حلقات الموسم الأول، تشعر الملكة بالخوف من طغيان شخصية رئيس الوزراء وينستون تشرشل وغزارة معلوماته، تلجأ للاستعانة بمعلم خاص، لكن المعلم، وهو أستاذ في إحدى الجامعات البريطانية، يؤكد لها أنها قادرة تماماً على مواجهة تشرشل؛ فهي تعرف دستور البلاد أكثر من أي شخص آخر.
نصف امرأة ونصف ملكة
في الموسم الأول من «ذا كراون» التي يستغرق عشر حلقات تبدأ من مرض الملك جورج السادس والد الملكة إليزابيث، وتمر على محاولات دوق ويندسور إدوارد الذي يحتج لدى الملكة الصغيرة بسبب قطع الاعتماد المالي الذي خصصه له الملك جورج. المواجهة بين إليزابيث وإدوارد تعيد سرد حكاية تخلي إدوارد عن العرش بسبب ارتباطه بمسز واليس سيمبسون المطلقة الأميركية.، تقول إليزابيث لعمها إنها تتحمل مسؤولية العرش بسببه؛ فهي مسؤولية لم تكن تعتقد أن تصل إليها، تلومه على مرض والدها الذي تولى العرش على غير رغبة، لكن بسبب الواجب. القصص تتوالى في الموسم الأول، رئيس الوزراء تشرشل يخفي متاعبه الصحية عن الملكة، ويواجه محاولات إرغامه على الاستقالة من أعضاء حزبه.
العرش بالنسبة لإليزابيث واجب ومسؤولية وعبء؛ من أجله تتأثر حياتها الزوجية مع دوق إدنبرة فيليب الذي يبدي تذمره من الوضع، يحاول أن يلعب دوراً أكبر، ويرفض أن يكون مجرد تابع لها، يقول لها بغضب أثناء الإعداد لمراسم تنصيبها على العرش إنه لن يركع أمامها فهو زوجها، لكنه يخضع للأمر الواقع متذكراً وصية والدها الملك جورج السادس له «لتعلم أن وظيفتك هي ابنتي».
من تذمر الزوج إلى التسبب في تعاسة الشقيقة الصغرى، تجد الملكة نفسها أمام موقف صعب يحيرها بين حبها وولائها لشقيقتها «مارغريت» التي تقع في حب الضابط بيتر تاونسند ومساعد والدها الراحل وتريد الزواج منه، وبين القانون الذي يمنع زواج الأميرة الصغيرة من رجل مطلق. تحاول أن تحتفظ بوعدها لشقيقتها بأن تساعدها في إتمام الزواج، لكنها تصطدم مع الحكومة ومع الكنيسة، وفي النهاية تجد ألا مفر أمامها من إخبار مارغريت بالحقيقة الصعبة.
يستمر الموسم الثاني مع الملكة وعلاقاتها مع رؤساء الوزراء أنتوني إيدن، ثم هارولد ماكميلان، تستمر متاعبها الخاصة مع زوجها، تمنحه لقب «أمير» ومسؤوليات من شأنها تخفيف تذمره. تواجه عمها إدوارد مرة أخرى بادعاءات تعامله مع هتلر واتفاقيات مريبة، وترفض أن يتولى منصب رسمياً في بريطانيا. نحن أمام امرأة تجسد العرش بكل قوته، تتحول شخصيتها شيئاً فشيئاً، تترك إليزابيث ويندسور وراءها، لكنها تشعر دائماً بأنها «نصف امرأة ونصف ملكة».
في الموسم الثاني تواجه انتقادات وجهت لها بأنها متعالية على الشعب، وأنها تعيش في برج عاجي، يثيرها مقال ناقد لها في إحدى الصحف، وتلتقي الكاتب بشكل خاص لتسمع منه آراءه رغم غضبها الواضح. تطلب منه تصوراً لما يعتقد أن عليها القيام به، ترفض اقتراحاته وتمضي، لكن مساعده يخبره بأنها قد تتبع واحدة من نصائحه ويهدده من الحديث عن مقابلته مع الملكة. لكن الملكة التي تعرف أهمية التأقلم مع العصر تبدأ في التغيير.
من الحلقات المتميزة فعلاً الحلقة التي تستقبل فيها الملكة الرئيس الأميركي جون كيندي وزوجته جاكلين. تبدو لنا الملكة هنا امرأة مرهقة تشعر بأنها في منتصف العمر، تشعر بالغيرة من الصورة التي تبدو عليها جاكي كيندي التي تسحر رجال القصر والحاشية، وحتى الأمير فيليب. تقارن بينها وبين جاكي، لكن والدتها الملكة الأم تقول لها إنها (إليزابيث) وجاكي في العمر نفسه. بعد حفل عشاء رسمي في باكنغهام بالاس يتطرق لسمعها أن جاكي انتقدتها بقسوة أثناء عشاء خاص، وقالت عنها إنها تفتقر للخيال، وإن القصر متهالك وقديم.
تمثيل فائق وديكورات وملابس
التمثيل حالة خاصة هنا، كلير فوي تلبس شخصية الملكة إليزابيث ببراعة مذهلة، تتقمص طريقة المشي والنظرة والانحناءة والجلسة، الصوت... كل شيء. تشير تقارير صحافية إلى أن الملكة إليزابيث شاهدت المسلسل مع ابنها الأمير إدوارد وزوجته صوفي اللذين أقنعاها به، ويقال إنها أعجبت به، وإن كانت ترى أن الأحداث مبالغ فيها بشكل كبير، كما تقول الأميرة بياتريس حفيدة الملكة إن جدتها معجبة بالعمل الدرامي.
الممثل مات سميث يقوم بدور دوف إدنبرة بتمكن، أما الممثلة فانيسا كيربي والتي تقوم بدور الأميرة مارغريت فقد أعادت الأميرة الراحلة للذاكرة وأعادت الاهتمام بها وبحياتها الخاصة وبقصص حبها المأساوية.
ولا ينبغي أن نغفل عن الدور العظيم الذي قام به الممثل الأميركي جون ليثغو في تجسيد شخصية ونستون تشرشل، مرة أخرى يسيطر السياسي البريطاني، لكن هذه المرة على شاشات التلفزيون، يعود الاهتمام بتشرشل وبكتبه وبقصة حياته مرة أخرى.
الحلقات متخمة بالأحداث التي تسرد تاريخ بريطانيا ودورها في العالم خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن المؤلف بيتر مورغان يبرع في الأخذ بانتباه المشاهد طوال الوقت. بالطبع يساهم في ذلك الميزانية الضخمة، فقد خصصت «نيتفليكس» للإنتاج، 100 مليون دولار، يبدو واضحاً ذلك المبلغ في الإنفاق الضخم على الملابس والديكورات الباذخة والتصوير في قصور متنوعة، ليس من بينها قصر باكنغهام للأسف، لكن المخرج وفريق العمل يجدون البديل المناسب في أماكن أخرى قريبة جداً من الأماكن الواقعية للأحداث.
واقع أم خيال؟
من الأشياء التي ترددت كثيراً بعد صدور الجزء الثاني من «ذا كراون»، هو أنه لم يوجد عمل درامي تاريخي من قبل يثير المشاهدين لدرجة اللجوء لـ«غوغل» بعد كل حلقة للتأكد من الوقائع التاريخية. ورغم أن المسلسل استعان بفريق من المؤرخين البريطانيين فإن بيتر مورغان سمح لخياله بالتصرف في أحيان كثيرة، حسب ما يشير المؤرخ والكاتب البريطاني روبرت لايسي الذي شارك في الإشراف التاريخي على المسلسل.