تخطو ليبيا باتجاه العام الجديد مدعومة بإنجاز عسكري يظهر في القضاء على الإرهاب وعناصر «داعش»، لكن على الجانب الآخر تبدو البلاد المأزومة منذ 3 سنوات مكبلة بإخفاق أمني لا يمكن أن تستتب معه الحياة الطبيعية للمواطنين إلا بالمضي قدماً في اتجاه اتفاق سياسي.
يمكن بوضوحٍ تمييزُ عام 2017 في الأزمة الليبية الممتدة منذ أغسطس (آب) 2014 عندما وقع الانقلاب على شرعية الانتخابات التي أتت بمجلس النواب من قبل ما يعرف بعملية «فجر ليبيا»، بأنه عام هزيمة «داعش» في المدن الليبية التي استطاع التوغل فيها والسيطرة عليها، بدرجات متفاوتة، كبنغازي ودرنة في الشرق، وسرت والجفرة في الوسط، وصبراتة في الغرب، ناهيك عن مدن الجنوب التي لا تكاد تصل إليها سلطة أي من الحكومات الثلاث المتصارعة، حيث استفاد هذا التنظيم من حالة الفوضى وضعف الدولة وانقسامها وغياب المؤسسات العسكرية والأمنية القادرة على التصدي لمخططاته.
لقد تعرّضت مسألة إعادة بناء وتأهيل المؤسستين العسكرية والأمنية في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي لتحديات كبيرة، أبرزها إصرار المسلحين وتشكيلاتهم التي تكوّنت في فترة حرب التحرير التي فرضها النظام السابق، وظروف الثورة العارمة ضده في العام 2011، مدعومين وموظّفين من قوى وأحزاب سياسية مؤدلجة تتخذ الإسلام السياسي شعاراً لها، على الاحتفاظ بسلاحهم وعلى إنشاء كيانات موازية تكون بديلاً عن الجيش والشرطة.
وبدأت قوة الدروع وقوامها من المسلحين في الظهور تدريجياً بكل أقاليم ليبيا التاريخية (برقة وفزان وطرابلس)، وألحقت برئاسة الأركان لتكون بديلاً عن المؤسسة العسكرية، كما أُنشئت بنفس التوجه والكيفية قوة اللجان الأمنية لتكون بديلاً عن الشرطة. وبالتالي دخلت هذه الأجسام من خلال سطوتها، كل في محيطه الاجتماعي ومنطقته وتبعيته السياسية، طرفاً في الصراع حول السلطة ومقدرات الدولة وثرواتها التي استُنزِفت بشكل كبير، وغير مسبوق، من قبل هذه الأجسام.
وخضع أول جسم منتخب بعد الثورة، وهو المؤتمر الوطني العام الذي فشل في مهامه، ومنها إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية، لإرادة كتلة تشكلت داخله من تلك التيارات السياسية المؤدلجة، التي أجهضت عمل المؤتمر والمسار الديمقراطي والعملية السياسية اللاحقة برمتها.
وبينما اضطلعت الجماعات المسلحة والموالية لكيانات «الإسلام السياسي» بمهام حفظ الأمن، بموجب قرارات خاطئة صادرة عن المؤتمر الوطني العام، تراجعت في المقابل المؤسسة الأمنية الرسمية وانزوت، كما شهدت المدن الليبية انفلاتاً أمنياً ملحوظاً وتصاعدت أعمال العنف والقتل لرجال الجيش والأمن الوطني والنشطاء الإعلاميين والحقوقيين، خصوصاً في بنغازي عاصمة الشرق الليبي ومعقل الثورة.
وكشفت تلك الجماعات بوضوح عن توجهاتها ومخططاتها المعادية وتحالفاتها وارتباطاتها بالخارج تنظيماً وتمويلاً، وهو ما قاد خلال النصف الأول من عام 2014 إلى إطلاق مجموعة من ضباط وجنود الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر «عملية الكرامة» المدعومة شعبياً لمقاتلة تلك الجماعات وتنظيماتها الإرهابية، وهي العملية التي حظيت أيضاً بدعم مجلس النواب الذي انتُخِب لاحقاً بديلاً للمؤتمر الوطني، إذ أضفى الشرعية على قادة العملية ومنحهم الصفة القانونية من خلال تعديل القانون العسكري واستحداث منصب القائد العام للجيش، الذي أسند إلى قائد هذه العملية.
ودفعت الإجراءات السابقة إلى تشكّل نواة لبناء الجيش الوطني الليبي انطلاقاً من شرق البلاد الذي نجح بمساندة شباب المناطق والأحياء في هزيمة الجماعات المسلحة الإرهابية في بنغازي، بعد قتال مرير استمر ثلاثة أعوام كاملة، ليعلن في يوليو (تموز) 2017 تحرير المدينة من الإرهاب وطرد الميليشيات المسلحة من منطقة الهلال النفطي، وبسط سيطرته على منطقة الجفرة واستعادة قاعدتها العسكرية من أيدي تلك الجماعات، إلى جانب تمدده إلى الجنوب، وبسط السيطرة على القاعدة الجوية الرئيسية ومعسكرات الجيش، في أعقاب مذبحة ارتكبتها الجماعات الإرهابية بحق أفراد الجيش من أبناء الجنوب الليبي.
وفي الغرب الليبي، ظلت العاصمة طرابلس، ومدن الزاوية وصبراتة وصرمان وورشفانة تحديداً، مسرحاً للجماعات المسلحة بمختلف توجهاتها وانتماءاتها وصراعها من أجل السيطرة والنفوذ داخل هذه المدن.
وعلى جانب آخر، فشلت الحكومة الموازية التي شكلها المؤتمر الوطني العام بعد عودته إلى المشهد مجدداً بقوة السلاح، في احتواء الصراع، بل أصبحت طرفاً فيه من خلال ما تملكه من أذرع مسلحة. ومع دخول المجلس الرئاسي الذي أنتجه الاتفاق السياسي الموقّع في مدينة الصخيرات المغربية في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) 2015، إلى العاصمة طرابلس في مارس (آذار) 2016. تغيّرت خريطة التحالفات بين هذه الجماعات التي تعذَّر على السلطة التوافقية الجديدة إنفاذ الترتيبات الأمنية القاضية بنزع سلاحها، من خلال دمج أو تسريح مسلحيها، لانطواء ذلك على إشكاليات مرتبطة بطبيعة الصراع وتعقيداته.
كما عمدت السلطة الجديدة إلى «إعادة تدوير» بعض هذه الجماعات التي تضم في عضويتها مدنيين وعسكريين سابقين، وذلك بتأسيس جهاز أمني جديد تحت اسم «الحرس الرئاسي»، ضمنت من خلاله تمثيلاً لبعض المجموعات الأمنية وتعيين أعضاء منها في مواقع قيادية بهذه المؤسسة أو تلك، إلى جانب ضم بعض هذه المجموعات إلى شرعيتها، بحيث أصبحت تبعيتها لحكومة الوفاق.
وتجلت هذه الإجراءات في تشكيل قوة «البنيان المرصوص» التي أطلق من خلالها المجلس الرئاسي حربه علي تنظيم داعش في مدينة سرت التي سيطر عليها بالكامل، وأصبحت مركزاً رئيسياً له بكل مقدراتها ومرافقها الحيوية كالمطار والميناء والقاعدة الجوية لمدة زادت على العام ونصف العام، قبل أن تتمكن هذه القوة من إلحاق الهزيمة به وتحرير المدينة ومحيطها منه، لتعود مدينة سرت اعتباراً من بداية 2017 إلى أهلها وحضن الوطن. كما تمكنت قوة أخرى تابعة لحكومة الوفاق من تحرير مدينة صبراتة من المجموعات المسلحة الإجرامية والإرهابية التي عاثت فيها فساداً.
وغني عن البيان أن الانتصارات التي تحققت ضد «داعش» والجماعات المرتبطة به يعود الفضل فيها بعد التضحيات البطولية لرجال الجيش والمدنيين من الشباب المساند لهم، إلى دعم ومساندة سكان المدن التي دارت الحرب داخل أحيائها، حيث تحملوا آلام ومعاناة النزوح والتدمير لممتلكاتهم والاستهداف لحياتهم، فضلاً عن الدعم الواضح الذي قدمته بعض الدول الشقيقة والصديقة للتخلص من هذا الإرهاب البغيض.
على الصعيد الأمني، فإلى جانب ما كان يعانيه قطاع الأمن أساساً من ضعف في بنية أجهزته وكوادره، فقد فشلت الحكومات الانتقالية والمؤقتة التي تولَّت السلطة بالبلاد في إصلاح وتفعيل وتعزيز دور هذا القطاع لمواجهة التحديات الكبيرة والخطيرة التي تتربص بالوطن والمواطن، ومرد ذلك إلى انتشار السلاح وتزايد التشكيلات المسلحة وتغوُّلها على أجهزة الأمن الرسمية المختلفة، وهو ما أدى إلى تراجع دورها في حفظ الأمن والنظام.
وفضلاً عما سبق، يمكن رصد زيادة معدلات الجريمة في كل المدن والمناطق من دون رادع، بعد أن أصبح الإفلات من العقاب هو السمة المميزة لهذه المراحل الانتقالية الممتدة التي تراجع فيها الأمن، وبالتالي عجزت مؤسسات القضاء والعدالة عن القيام بمهامها.
وإذا كان عام 2017 الذي استمرت فيه الأزمة السياسية والانقسام شهد انحسار الإرهاب وهزيمته عسكرياً في ليبيا بفعل مؤسسة الجيش شرقاً وغرباً، التي تبذل جهوداً حثيثة لتوحيدها وإنهاء انقسامها، فإن العام نفسه تميّز بالانفلات الأمني الكبير والخطير فارتفعت معدلات جرائم القتل والخطف والتعذيب والاعتداء على الممتلكات الخاصة والمرافق العامة.
ومع تقديرنا للجهود التي بُذلت وتُبذل هنا وهناك، فلا سبيل لتدارك الانفلات الأمني إلا بحل الأزمة التي تتخبط فيها البلاد من خلال الاتفاق السياسي الذي تم برعاية الأمم المتحدة، وإنهاء الانقسام بتوحيد المؤسسات السياسية والاقتصادية، وتشكيل حكومة وطنية واحدة.
وينبغي أن يكون على رأس أولويات الحكومة المنتظرة إنفاذ خطة وطنية وترتيبات أمنية صارمة تقود إلى حل التشكيلات المسلحة بعد دمج وتأهيل أو تسريح أعضائها، طبقاً لمقتضيات المصلحة العامة، وتوحيد وتعزيز دور المؤسستين العسكرية والأمنية لتحتكرا دون غيرهما السلاح واستعمال العنف، تطبيقاً للقانون وتأكيداً للنظام الذي وحده يمدهما بأسباب القوة والقدرة على مواجهة التحديات التي تتربص بالبلاد، وتعيق مسيرتها وتحولها الديمقراطي.
إنجاز عسكري يخذله إخفاق الأمن والسياسة
إنجاز عسكري يخذله إخفاق الأمن والسياسة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة