ارتحل ديفيد كيندي، لما يقرب من عقد من الزمن، عبر شاشة حاسوبه الشخصي عبر الآلاف من الهياكل الحجرية الغامضة المنتشرة في جميع أنحاء الصحراء السعودية. ومن خلال صور الأقمار الصناعية لبرنامج «غوغل إيرث» في متناول يديه، فحص عالم الآثار كثيرا من مواقع الدفن وغير ذلك مما يسمى أعمال الرجل العتيق، التي تركتها قبائل البدو الرحل قبل آلاف السنين.
ولكنه لم يكن قادرا على الحصول على تصريح بزيارة المملكة لمراقبة التصميمات العتيقة التي عكف هو وغيره من علماء الآثار الهواة، على دراستها باستخدام حواسيبهم المكتبية.
وفي الشهر الماضي، وبعد إعلانه أنه تمكن من تحديد قرابة 400 «بوابة حجرية» في صحراء السعودية، تلقى الدكتور كيندي دعوة من المسؤولين السعوديين بهدف متابعة الفحص والتحقيق في الهياكل المخفية من طائرة مروحية.
وقال الدكتور كيندي، الذي تقاعد مؤخرا من عمله في جامعة ويسترن أستراليا إنها «مثيرة للذهول تماما. من ارتفاع 500 قدم، يمكنك رؤية التفاصيل الحيوية لتلك الهياكل التي لم تكن واضحة المعالم في صور برنامج غوغل إيرث».
وعلى مدى ثلاثة أيام، التقط أكثر من 6 آلاف صورة جوية تكشف النقاب عن العجائب الحجرية العتيقة.
ومنذ عام 1997، درس الدكتور كيندي الهياكل المماثلة في الأردن من السماء وعلى الأرض. وأغلب التكوينات الحجرية في كلا البلدين عبارة عن حقول من البازلت المعروفة باسم «الحرات» وهي في أغلب الأمر عبارة عن مجاري الحمم البركانية الجافة التي تلتوي وتتحول مثل الثعابين المنزلقة عبر الصحراء الداكنة.
وفي المملكة العربية السعودية، قام كيندي باستكشاف مائتي موقع من الجو عبر منطقة «حرات خيبر» و«حرات عويرض». وتنوعت الهياكل التي لاحظها من حيث الأشكال والأحجام، التي وصفها بالبوابات، والطائرات الورقية، والمثلثات، وعيون الثيران، وثقوب المفاتيح.
ومن بين 400 هيكل وصفها بالبوابات من التي حدد مواقعها على «غوغل إيرث»، عكف الدكتور كيندي على دراسة 40 هيكلا منها فقط من الطائرة المروحية وخلص إلى أن الهياكل ليست هناك بصورة عشوائية.
وقال الدكتور كيندي: «يمكننا أن نرى على الفور أنها أكثر تعقيدا مما ظهر عبر غوغل إيرث». فهي ليست مجرد أكوام من الحجارة المتراصة.
بدلا من ذلك، فإن كل شريط طويل منها يتكون من خطين متوازيين من الألواح المسطحة الموضوعة على حوافها لتواجه بعضها بعضا مع حجارة صغيرة تملأ الفراغات ما بينها.
وأردف الدكتور كيندي قائلا إنها «أكثر تعقيدا مما كنت مستعدا لملاقاته».
وكانت بعض البوابات تمتد لأكثر من ألف قدم طولا و250 قدما عرضا. واشتبه الدكتور كيندي في أن أقدم تكوين حجري فيها يعود إلى 9 آلاف عام مضت. رغم أنه غير متأكد من الغرض منها، فإنه يظن أنها كانت تستخدم في أغراض الزراعة قديما.
وأمعن الدكتور كيندي النظر أيضا في نحو عشرة تكوينات تشبه «الطائرات الورقية» التي اكتشفها الطيارون في الشرق الأوسط للمرة الأولى في عشرينات القرن الماضي. وهي التكوينات الأكثر شهرة تعرف باسم «أعمال الإنسان القديم» في صحراء السعودية، وحدد الدكتور كيندي أكثر من 900 تكوين منها في حرات خيبر بالمملكة العربية السعودية.
«الطائرات الورقية» تشبه من الجو عادة الطائرات الورقية ذات الخيوط والذيل. وهي غالبا ما تكون كبيرة للغاية، يمتد كثير منها لمسافة تتجاوز ربع ميل.
ويعتقد علماء الآثار أن تلك الأشكال كانت تستخدم كمصائد صحراوية لاستدراج الغزلان حيث يأتي الصيادون فيما بعد لقتلها. وبعض الأحيان كانت كثير من تلك الأشكال تتداخل مع بعضها، بحيث إذا ما مرت الحيوانات من إحداها فسوف تقع في الأخرى. يقول الدكتور كيندي: «لم يكن هناك من مهرب في الواقع».
وتبدو تلك الأشكال في صحراء السعودية كما لو كانت مبنية عن تلك الموجودة في الأردن، وفقا للدكتور كيندي.
وكانت الحرات متناثرة مع الهياكل المصغرة التي أطلق عليها اسم ثقوب المفاتيح، والعجلات، والمثلثات، وعيون الثيران.
وقال الدكتور كيندي إنه أصيب بالذهول للاستقامة الشديدة التي كانت عليها أضلاع المثلثات وثقوب المفاتيح، كما لو أن الناس الذين صنعوها قد تخيروا الحجارة المسطحة بدلا من الصخور العشوائية.
وكان كل مثلث منها متساوي الساقين، وبدا كما لو كان يشير إلى شيء ما. وفي بعض الأحيان كانت تشير إلى عيون الثيران التي كانت تبلغ 15 قدما أو 150 قدما.
كما كان هناك أيضا كثير من الهياكل التي تشبه ثقوب المفاتيح، التي اصطفت إلى جانب بعضها. وكانت رؤوس الثقوب تكاد تكون من الدوائر شبه المثالية، وكانت الجدران من ارتفاع يبلغ نحو 3 أقدام.
قد تكون هذه الهياكل قد استخدمت قديما في بعض الأغراض الجنائزية أو الرمزية. ولم يحدد الدكتور كيندي تاريخ أي من الهياكل التي زارها ولكنه قال إن المجموعات البحثية المستقبلية ينبغي أن تُجري المزيد من التحليلات الشاملة.
واستطرد قائلا: «من الأهمية البالغة أن يقوم البعض بمتابعة الأعمال الأرضية هناك».
وجاءت دعوة الدكتور كيندي من قبل عمرو المدني، المدير التنفيذي للجنة الملكية لإقليم العلا، التي تأسست بغرض حماية بعض من المواقع الجيولوجية، والتاريخية، والأثرية في المملكة.
وقال الدكتور عمرو المدني، الذي رافق الدكتور كيندي في رحلته بالطائرة المروحية ووصف تلك التجربة بأنها كانت رائعة للغاية: «أمضى الدكتور كيندي السنوات الكثيرة في البحث عبر صور غوغل إيرث، وكنا قادرين على أن نجعله أقرب ما يكون من المواقع».
وكتب الدكتور كيندي في رسالة بالبريد الإلكتروني يقول إن «التفكير في شكل الحياة في شبه الجزيرة العربية قديما ومحاولة تصور الطرق التي كان الناس يصطادون بها، ويعيشون حياتهم، ويدفنون موتاهم، كان تفكيرا ثريا للغاية».
يقول دون بوير، الذي رافق الدكتور كيندي في رحلته الجوية، إن «رؤية التكوينات على غوغل إيرث شيء، ورؤيتها من نافذة الطائرة المروحية من ارتفاع 300 قدم شيء مختلف تماما».
ويستكمل السيد بوير، وهو في السبعين من عمره، رسالة الدكتوراه الخاصة به في علم الآثار الجيولوجية وعلم الهيدرولوجيا، ويقول: «أعتقد أنني كنت على ارتفاع عال أغلب الوقت... لقد كان أمرا رائعا. ليس لدي ما أصف به تلك التجربة».
وقال علماء الآثار الذين لم يشاركوا في الرحلة بأنها خطوة إلى الأمام في إظهار التاريخ العتيق الغني والمعقد في شبه الجزيرة العربية.
وقال هيو غروكات، عالم الآثار من جامعة أكسفورد، إن الصور الجديدة مهمة للغاية، ويمكنها المساعدة في إظهار كيف تمكنت المجتمعات البشرية القديمة من تعديل المشاهد من حولها.
وأردف يقول إن «التحدي الآن هو إجراء الاستكشاف على الأرض».
ووافق على ذلك مايكل بتراغليا عالم الآثار في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا، وأضاف في رسالة بالبريد الإلكتروني يقول إن «الأمر المهم للغاية هو إجراء المسح البري وأعمال الحفر المفصلة. وبخلاف ذلك، فإن المواقع الأثرية القديمة سوف يمر عليها الزمان ويلفها المزيد من الغموض والحيرة. إن المهمة الكبيرة والصعبة الآن هي توثيق هذه الهياكل على الأرض بهدف فحص وظائفها وتفهم الحياة البشرية في هذه الحقبة القديمة، وفي هذه المنطقة بمرور الوقت».
* خدمة «نيويورك تايمز»