على خطى المصريين العباقرة، من ذوي الاحتياجات الخاصة، عمالقة الأدب، والفن، والثقافة، والعلوم، نجح الباحث مينا ميشيل، في نيل الدكتوراه من جامعة «براون شفايج» الألمانية، خلال 3 سنوات فقط، رغم إصابته بضعف حاد في النظر، يصل إلى حد العمى، محققاً حلمه الأثير في النهاية، بعد مجهود شاق وصل فيه الليل بالنهار لتحقيق إنجاز يصعب على كثيرين تحقيقه. وأعاد ميشيل البهجة والثقة إلى نفوس كثيرين من المواطنين المصريين، بعد انتشار قصته التي سطّرها بجهد وتعب على مدار السنوات الماضية.
قصة مينا ميشيل المولود في عام 1986 في مدينة المنصورة، محافظة الدقهلية (شمال القاهرة)، بدأت عندما كان عمره 10 سنوات، بعدما تأكدت إصابته هو وشقيقه الأصغر فادي بمرض «الالتهاب الشبكي التلوني»، وهو مرض يؤدي إلى ضمور خلايا الشبكية بالتدريج، ويفقد 96 في المائة من المصابين بهذا المرض، نظرهم في سن متقدمة، بينما يفقد 4 في المائة منهم النظر في سن مبكرة.
قال ميشيل لـ«الشرق الأوسط»: «عشقت فن العمارة من والدي الذي يعمل في هذا المجال منذ سنوات طويلة، وكنت أتابعه منذ صغري، وهو يرسم اللوحات»؛ لافتاً إلى أنّ «ضعف بصره في مرحلة الثانوية العامة لم يمنعه من الحصول على مجموع 100 في المائة، ما أهّله للالتحاق بكلية الهندسة في جامعة المنصورة».
في السنة الدراسية الأولى بكلية الهندسة، حقق المركز الثاني على دفعته؛ لكن في السنة التالية ظفر بالمركز الأول رغم تحدي ضعف الإبصار الذي كان يؤرقه باستمرار. وتغلب مينا على أزمة ضعف بصره تدريجياً، باستخدام أقلام رسم متعددة، ذات أسنان عريضة وغامقة. واستطاع تطويع تقنيات الرسم اليدوي والرقمي لإنجاز مشروعاته المعمارية طوال العام الدراسي، بالإضافة إلى تنمية قدراته للانتهاء من تأدية الامتحان خلال 7 ساعات في مادة التصميم المعماري؛ لأنّه كان مطلوباً منه رسم لوحاته خلال تلك المدة التي يعتبرها ميشيل قصيرة، بسبب عدم قدرته على رؤية اللوحة كاملة؛ بل أجزاء منها فقط؛ لكن ميشيل واجه قدره المحتوم بتفوق ملحوظ، وحصل على تقدير «جيد جداً» مع مرتبة الشرف، وحقق المركز الأول على دفعته في قسم الهندسة المعمارية، وعُيّن معيداً في الكلية.
يضيف مينا قائلاً: «عقب تعييني معيداً في الكلية، استطعت التغلب بكفاءة على صعوبات كثيرة، لمراجعة وتقييم أفكار وتصميمات ورسومات الطلاب في المواد المختلفة، وكان ذلك يتطلب جهداً فائقاً لمواجهة ضعف البصر، فقد كنت أستطيع رؤية الأشياء بصعوبة في الإضاءة المتوسطة فقط، مع عدم رؤيتها في الإضاءة المبهرة أو المنخفضة، ومجال رؤيتي كان ضيقاً، ويقتصر فقط على مقدمة الصورة، كأنّني أرى الأشياء من ثقب أنبوبة».
وعن طبيعة رسالة الماجستير التي شرع في إعدادها بعد الانتهاء من دراسة تمهيدي الماجستير، محققاً أيضاً المركز الأول في قسم الهندسة المعمارية بجامعة المنصورة، قال ميشيل: «الرسالة كانت عن استخدام أدوات المحاكاة لتصميم مبانٍ جامعية ذات كفاءة عالية في استهلاك الطاقة، واستخدمت برامج حاسوبية متخصصة، لتطوير مبانٍ تعتمد على الإضاءة الطبيعية، وضمان الراحة الحرارية داخل الفراغات».
خلال رحلة إنجاز رسالة الماجستير، حصل مينا على منح دراسية تنافسية قصيرة الأجل، في كل من ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، كان أهمها التدرب لمدة ثلاثة أشهر في جامعة «دريسدن»، ولفترة مماثلة في جامعة «فلوريدا الدولية»، وتعلم خلالها برامج كومبيوتر متقدمة، ومتخصصة في التصميم البيئي، ورافقته والدته في أغلب فترات السفر للخارج، لمساعدته في القراءة والتحرك. وبمجرد الانتهاء من مناقشة رسالة الماجستير في جامعة المنصورة، حصل ميشيل على منحة مقدمة من الهيئة الألمانية للتبادل العلمي (DAAD)، عن طريق مشروع مركز التميز لدراسات إدارة المياه المستدامة في الدول النامية، في جامعة «براون شفايج»، الذي تشارك فيه 35 جامعة حول العالم، من بينها جامعة المنصورة.
ويوضح ميشيل «أنّ شرط الانتهاء من إعداد رسالة الدكتوراه خلال ثلاث سنوات فقط، كان تحدياً قاسياً يواجهه؛ لأنّ الرسالة تحتاج لأربع سنوات كاملة على الأقل».
في السنة الأولى له في الجامعة الألمانية، اجتاز ميشيل عدة دورات دراسية في مجالات التنمية العمرانية والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، كي يصبح مؤهلاً لدراسة حوكمة المياه في أحواض الأنهار الدولية. وبعد فترة من الاعتماد على والدته في التنقلات والقراءة، اعتمد أخيراً على نفسه، ووفرت له الجامعة برامج متخصصة في قراءة الكتب والمراجع باللغة الإنجليزية، واستطاع التنقل بمفرده في الشوارع والأروقة، بسبب توفير ممرات آمنة للمكفوفين، بجانب استخدام العصا البيضاء التي تساعده على السير من دون مرافق.
اختار الباحث المصري الكفيف موضوع «تطور التنمية العمرانية عبر حوض النيل، على مدار الـ150 عاماً الماضية»، لدراسته في الدكتوراه، وخلال ثلاث سنوات هي مدة الدراسة، لم يحصل على أي إجازات، باستثناء زيارة واحدة للقاهرة بعد انتهاء العام الأول من مدة الدراسة، خصصها للبحث وجمع البيانات عن حوض نهر النيل.
عن أسرته الداعمة له طوال رحلته التعليمية، يقول مينا: «تحمّل والدي الحياة بمفرده أثناء وجودي أنا ووالدتي في ألمانيا، ولو استطعت أن أمنح الدكتوراه التي حصلت عليها لأحد، لقدمتها لوالدي وأخي الأصغر الذي سافر للعمل في الولايات المتحدة مهندس كومبيوتر ومطوِّر برمجيات، وهو لا يزال يعمل هناك حتى الآن، ومتفوق جداً في عمله رغم إصابته بنفس مرضي (ضعف الإبصار الحاد)». ولفت قائلاً: «لم يقف والدنا أمامنا بدافع الخوف علينا؛ بل أطلق لنا العنان، لنبحث عن أحلامنا رغم التحديات التي واجهتنا».
وأخيراً تحقق حلم مينا، وحصل على درجة الدكتوراه، بتقدير يعادل «جيد جداً» على الرسالة، وتقدير «امتياز» على المناقشة، وأثنت عليه لجنة الإشراف والتحكيم، وقالوا له بعد انتهاء المناقشة إنّهم لم يعاملوه قط على أنه كفيف، وتعاملوا معه بكل حيادية وحزم، مثل أي طالب عادي. وتابع مينا قائلاً: «أوصت رسالة الدكتوراه بضرورة التوصل للتعاون الشامل بين دول حوض النيل، في إنشاء مشروعات تنموية لفائدة كافة الدول المتشاطئة على النهر، اعتماداً على مبادئ القانون الدولي للمياه العابرة للحدود».
باحث مصري يتحدى ضعف بصره الحاد وينال دكتوراه من ألمانيا
قال لـ«الشرق الأوسط»: لا يوجد مستحيل أمام الإرادة القوية
باحث مصري يتحدى ضعف بصره الحاد وينال دكتوراه من ألمانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة