مسار تاريخي، تزينه محطات تتخطى شهرتها الثقافية والدينية الحدود المصرية، ويضم في جنباته مباني أثرية عتيقة، ومقتنيات وتحفًا وخرائط فريدة، أضفى تقادم الزمن عليها مزيداً من البهاء والجمال، لا سيما أنها نالت شرف استقبال العائلة المقدسة بعد هروبها من فلسطين إلى مصر، خوفاً من بطش الملك «هيرودس»، الذي كان يذبح الصبيان الرضع في بيت لحم.
بعد مرور أكثر من ألفي عام على الرحلة التاريخية للعائلة المقدسة، تسعى الحكومة المصرية ممثلة في وزارتي السياحة والآثار، بالتعاون مع الكنيسة الأرثوذكسية، لإعادة اكتشاف محطات مسار الرحلة من جديد من خلال وضع خطة سياحية لاستقطاب السائحين الأجانب، لزيارة تلك المناطق التاريخية والأثرية المهمة التي لا يوجد لها مثيل في العالم. اختارت اللجنة الوزارية المختصة بإحياء مسار رحلة العائلة المقدسة 8 محطات رئيسية أقامت بها العائلة المقدسة خلال رحلتها الطويلة إلى صعيد مصر، لضمها للبرنامج السياحي الذي سوف يتم تفعيله بعد أشهر قليلة.
وفق بيانات اللجنة، فإن أولى محطات رحلات إعادة اكتشاف مسار الرحلة التاريخية ستبدأ من مصر القديمة بكنيسة «أبو سرجة» الأثرية التي سكنت العائلة المقدسة في مغارة ضُمت إليها لاحقا، مرورا بمجمع الأديان الذي يشمل الكنيسة المعلقة، والمعبد اليهودي، وجامع عمرو بن العاص... أما المحطة الثانية بالقاهرة فستكون كنيسة العذراء مريم بمنطقة المعادي (جنوب القاهرة)، وتحتوي على بئر شربت منها العائلة المقدسة قبل صعودها على المركب الذي نقلها للصعيد.
بعد الوصول إلى المعادي بالقاهرة، تنتقل الرحلة إلى منطقة وادي النطرون بمحافظة البحيرة شمال القاهرة، وبها يقع أكبر عدد من الأديرة والكنائس، ومنها دير «الأنبا بيشوي»، ودير «السريان»، ودير «البراموس»، قبل أن تتجه الرحلة إلى صعيد مصر، وتبدأ بزيارة جبل الطير بالمنيا، الذي يسمى أيضا «جبل الكف»، ثم زيارة دير «المحرق» بأسيوط، الذي مكثت فيه العائلة المقدسة نحو ستة أشهر، وتعد الغرفة أو المغارة التي سكنتها العائلة هناك أول كنيسة في مصر.
أما المحطة الأخيرة التي تصل إليها الرحلة فهي جبل «دُرنكة» أو «جبل أسيوط»، وهناك توجد مغارة قديمة منحوتة في الجبل، حيث أقامت العائلة المقدسة بداخلها قبل أن تبدأ رحلة العودة. ووفقا للجنة الوزارية لإعادة إحياء مسار العائلة المقدسة، فإنه يجري العمل حاليا على تجهيز جميع محطات الرحلة الثماني، وتأمينها ووضع العلامات الإرشادية بالطرق والكباري، وتوفير كبائن لدورات المياه، بالإضافة إلى أماكن الاستضافة.
مفهوم الحج لدى الأقباط لا يماثل الحج عند المسلمين، هو فقط زيارات روحية للكنائس والمناطق الدينية التاريخية التي عاش فيها المسيح للتبرك، يطلق عليها حجا، وتحاول وزارتا السياحة والآثار المصريتان استغلال مباركة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، لمسار رحلة العائلة المقدسة للترويج للسياحة الدينية والثقافية في مصر، بعدما أقام البابا قداسا بالمقر البابوي بالفاتيكان مؤخرا، وهو ما اعتبره المسؤولون بوزارة السياحة بمثابة دعوة للحجاج الكاثوليك حول العالم لأداء شعائرهم الدينية في مصر بداية من يناير (كانون الثاني) عام 2018، والبالغ عددهم أكثر من ملياري نسمة. «مسار العائلة المقدسة بالمدن والقرى والوديان، ينبغي الاهتمام به وتهيئته لزيارة السياح، مع وضعه على خريطة السياحة المصرية»، بحسب وصف المفكر القبطي جمال أسعد الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «مباركة البابا لمسار الرحلة بدأت إرهاصاتها خلال زيارته الأخيرة لمصر»، حيث قال: «جئت إلى مصر حاجا، ومصر مكان مقدس، وهذا يعني أن زيارة المسار المقدس بمصر يساوي في قيمته الحج في القدس».
وأضاف أسعد أن «فكرة إحياء واستغلال مسار العائلة المقدسة في السياحة مطروحة منذ عقود طويلة، لكن بيروقراطية الحكومات المتعاقبة وضعفها، حال دون ظهور المشروع للنور»، لافتا إلى أنه «يجب الترويج لمسار الرحلة جيدا، من خلال وضع برنامج مدروس ومشوق يجذب السائح الأجنبي، بما يليق بتاريخ وعراقة تلك المناطق والمباني التي لا تزال شاهدة على زيارة العائلة إلى مصر، مثل شجرة العذراء في المطرية شرق القاهرة، وكنيسة (أبو سرجة) بمصر القديمة، وسلالم كنيسة العذراء، أو (العدوية) بالمعادي على ضفة النيل الشرقية التي دلفت منها العائلة إلى المركب النيلي قبل التوجه إلى صعيد مصر، بالإضافة إلى دير المحرق بأسيوط الذي قضى فيه المسيح وأمه أكثر من 6 أشهر حسب الروايات التاريخية».
وتابع أسعد: «مباركة بابا الفاتيكان للرحلة فرصة تاريخية لا تعوض ولا تقدر بثمن، لأنها جاءت من أهم شخصية مسيحية في العالم، ويجب البناء عليها والتخطيط لها بشكل يليق بمستوى السياحة في مصر، ومن الممكن جدا تنظيم رحلات للسائحين الذين يقضون عطلات موسمية في أسوان والأقصر والقاهرة لزيارة بعض محطات الرحلة التي اعتمدتها وزارة السياحة».
ووفقا للروايات التاريخية القبطية المتفق عليها فإن العائلة المقدسة (السيدة مريم، والسيد المسيح، ويوسف النجار)، لم تسلك أيا من الطرق الثلاث المعروفة في ذاك الوقت بين فلسطين ومصر، لكنها لجأت إلى طريق غير معروفة خوفا من «هيرودس»، ودخلت مصر عن طريق رفح المصرية التي تبعد عن مدينة العريش بمسافة 25 كيلومترا شرقا، ثم اتجهت نحو العريش، ومنها إلى «الفرما» بالقرب من مدينة بورسعيد حاليا، ثم توجهت غربا نحو منطقة تل بسطا، وهي منطقة آثار فرعونية بمدينة الزقازيق (شمال شرقي العاصمة المصرية القاهرة).
بعد أن تركت العائلة المقدسة الزقازيق، اتجهت نحو منطقة مسطرد التي كانت معروفة حينئذ باسم «المحمة»، ومنها إلى مدينة بلبيس، التي تبعد عن القاهرة 55 كيلومترا، ثم سمنود بمحافظة الغربية الآن، والبرلس، وسخا، ووادي النطرون، قبل أن تتجه جنوبا إلى العاصمة المصرية بالمطرية وعين شمس، ثم الفسطاط التي ارتحلت منها إلى المعادي لركوب النيل للسفر إلى جنوب مصر، ووصلت بالفعل إلى منطقة البهنسا التي يقع بها دير «الجرنوس» الشهير، قبل أن تصل إلى جبل الطير بمنطقة سمالوط بالمنيا، جنوب القاهرة، لتختتم رحلتها في الجنوب بالإقامة في دير المحرق بأسيوط لمدة تزيد على 6 أشهر. وفي طريق العودة، سلكت العائلة المقدسة طريقها إلى مصر القديمة، ومنها إلى المطرية ثم مسطرد، ومنها لسيناء حتى فلسطين.
من جانبه، قال يحيى راشد، وزير السياحة المصري، في تصريحات تلفزيونية، إن «اعتماد بابا الفاتيكان أيقونة رحلة العائلة المقدسة في مصر، هو بمثابة اعتماد الحج لمصر، حيث أقامت بها لمدة 3 سنوات ونصف السنة تقريبا». مضيفا: «هذه الخطوة ستدعم دور مصر الحيوي في السياحة الدينية في العالم»، مشيرا إلى أن مصر ستستقبل سياحا راغبين في زيارة مسار العائلة المقدسة بالكامل أو زيارة جزء منها وفقا للإمكانيات المادية لكل سائح، لافتا إلى «أن مباركة مسار العائلة المقدسة لن تفيد فقط السياحة الدينية في مصر، ولكن ستلقي بظلالها الإيجابية على السياحة الثقافية والترفيهية أيضا».
وقال القمص أنجيلوس جرجس، كاهن كنيسة «أبو سرجة» بمصر القديمة، في تصريحات صحافية، إنه قد «تم ترميم المغارة الأثرية التي سكنتها العائلة المقدسة، لأنها كانت تعاني من الرطوبة ورشح المياه بواسطة وزارة الآثار المصرية للإبقاء على هيئتها التاريخية»، مشيرا إلى أن «تاريخ إنشاء الكنيسة يعود إلى القرن الرابع الميلادي، وبها الأرضية التي داس عليها السيد المسيح، حيث تم تغطيتها بغطاء زجاجي، لكي يراها الزوار، بجانب وجود خريطة كبيرة لرحلة العائلة المقدسة في مصر».
بينما قال القمص فيلكسينوس المحرقي، المسؤول الإعلامي بدير المحرق، لـ«الشرق الأوسط»، إن «دير المحرق بمحافظة أسيوط (400 كيلومتر جنوب القاهرة)، أحد أهم الأديرة الموجودة في العالم وأقدمها على الإطلاق، لأنه توجد به كنيسة السيدة العذراء الأثرية التي تم تشييدها في أواخر القرن الأول الميلادي، بالإضافة إلى 4 كنائس أخرى، وهذه أقدم كنيسة في مصر والعالم، وتتبع وزارة الآثار حاليا».
وأضاف المحرقي: «لم يتم إلقاء الضوء تماما على أهمية الأديرة التاريخية طوال القرن الماضي لبعد دير المحرق عن العاصمة المصرية، لكن مع بداية الألفية الجديدة، بدأ الحديث عن مسار رحلة العائلة المقدسة وأهمية الاعتناء بها، لكن الموجة هدأت بعد انتهاء الاحتفال بمرور 2000 عام على الرحلة، حتى تم تشكيل لجنة وزارية وقع اختيارها على 8 محطات رئيسية بمسار الرحلة الطويلة في إطار برنامج سياحي يتم التخطيط له حاليا». وأوضح المسؤول الإعلامي بالدير، أن «دير المحرق يستقبل سنويا ما يزيد على نصف مليون زائر مسيحي في الفترة ما بين 19 و29 يونيو (حزيران)، للاحتفال بإطلاق اسم السيدة العذراء على أول كنيسة بمسار رحلة العائلة في مصر»، موضحا أن حركة الرهبنة بدأت بجوار الكنيسة الأثرية في القرن الرابع الميلادي، ليكون دير المحرق بذلك من أقدم الأديرة على مستوى العالم. وتابع المسؤول الإعلامي بالدير: «يستطيع الدير استضافة 500 سائح أجنبي في الليلة الواحدة بـ3 مضايف مؤهلة لهذا الغرض داخل أسوار الدير، كما أن القرية التي يوجد بها الدير تبعد عن مدينة أسيوط المعروفة بوجود عدد كبير من الفنادق الفاخرة على النيل، بنحو 50 كيلومترا فقط، وهذا يعني أن المنطقة مؤهلة لاستقبال السياح بشرط تحقيق المزيد من الأمن».
وأضاف القس ثاوفيلوس، كاهن كنيسة العذراء بجبل الطير لـ«الشرق الأوسط»، أن «العائلة المقدسة أقامت 3 أيام في مغارة تم ضمها فيما بعد للكنيسة الأثرية بالدير التي يرجع تاريخ إنشائها إلى القرن الرابع الميلادي». مؤكدا: «كنا نسنقبل سياحا أجانب بشكل منتظم قبل ثورة 25 يناير عام 2011. لكن أعدادهم قلت الآن، ونحن ننتظرهم بعد مباركة بابا الفاتيكان لمسار رحلة العائلة المقدسة في مصر»، لافتا إلى أن «الدير مهيأ لاستضافة 200 سائح أجنبي في الليلة الواحدة إن فضلوا المبيت به والاستمتاع بالأجواء الروحانية والدينية الفريدة التي يتميز بها الدير».
وأضاف راعي دير «جبل الطير»: «يتميز الدير بوجود كنيسة أثرية صخرية تم نحتها في باطن الجبل، وتوجد بداخلها أعمدة صخرية تتخللها عمودية محفورة في الصخر بمقدمة الكنيسة، وهي الكنيسة الوحيدة التي يوجد بها حجاب حجري، كما يتميز الطابق الأول من الكنيسة ببقائه على حالته منذ القرن الرابع الميلادي دون أي تغيير أو ترميم، وهذا أمر نادر قلما تجده في كنائس وأديرة أخرى على مستوى العالم».
وتابع أن دير «جبل الطير» له خصوصية كبيرة جدا يشعر فيه السائح بروحانيات وتقوى كبيرة، موضحا أن الدير يستقبل نحو 3 ملايين زائر محلي من المسلمين والأقباط سنويا خلال الاحتفال بعيد «خميس الصعود»، الذي سيحل موعده العام المقبل في يوم 10 مايو (أيار)، ويتوافد عليه الزوار للتبرك من جميع محافظات مصر، وموعده ليس ثابتا، لأنه يأتي عقب عيد القيامة بأربعين يوما. ويقع دير جبل الطير بمركز سمالوط شمال بمحافظة المنيا، ويبعد عن مدينة القاهرة بنحو 270 كيلومترا... ويطالب راعي الدير بوضع المزيد من العلامات الاسترشادية على الطرق الصحراوية السريعة، لسهولة وصول الزوار الذين يخفقون في الوصول إليه أحيانا بسبب غياب اللوحات الإرشادية.
وقال راعي دير جبل الطير، إن «وزارتي السياحة والآثار قامتا بإعادة تمهيد الطريق الرئيسية المؤدية إلى الدير، تمهيدا لاستقبال السائحين الأجانب، مع قرب البدء في إنشاء جسر جديد فوق نهر النيل للربط بين الطريق الصحراوي الشرقي والغربي بسمالوط».
مصر... وجهة للسياحة الدينية للمسيحيين
رحلة تشمل ثماني محطات تاريخية أشهرها دير «المحرَق» بأسيوط وكنيسة «أبو سرجة» بالقاهرة
مصر... وجهة للسياحة الدينية للمسيحيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة