لا يزال قرص الأسبرين «الخشبة العلاجية» للنجاة التي يتمسك بها مرضى القلب، كوسيلة لمنع الإصابة بنوبات الجلطة القلبية، وهي أيضاً تلك الخشبة التي إذا لم يُحافظوا على التمسك بها جيداً، فإن احتمالات إصاباتهم بنوبة الجلطة القلبية ترتفع.
والمقصود بمرضى القلب تحديدا، هم الذين يتعين عليهم تناول قرص الأسبرين بشكل يومي، من الذين سبقت إصابتهم بنوبة الجلطة القلبية، أو الذين تم تشخيص إصابتهم بتضيقات في الشرايين القلبية، ولهؤلاء يمُثل تناول الأسبرين وسيلة «الوقاية المتقدمة» (Secondary Prevention) من الإصابة أو عودة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية.
الأسبرين مرّ بمراحل طويلة قبل أن يصل إلى كونه الدواء الأفضل للوقاية من عودة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية. والبداية كانت منذ عصر اليونان القديم، وإشارة أبوقراط إلى أن لحاء جذع أشجار الصفصاف يحتوي على علاج يُسكّن الألم ويُخفض الارتفاع في حرارة الجسم. ثم جرت محاولات للعلماء الفرنسيين والألمان الذين توصلوا في نهايتها إلى استخلاص المادة الفاعلة على هيئة دواء الأسبرين. ثم توسع استخدامه من بداية القرن العشرين كمسكّن للألم وخافض للحرارة، ثم لاحظ أحد الأطباء في كاليفورنيا خلال ستينات القرن الماضي أن منْ يتناولون الأسبرين بشكل يومي منتظم تقل فيما بينهم الإصابات بنوبة الجلطة القلبية. ومن بعد ذلك توالت البحوث والدراسات حول الأسبرين وتأثيراته الوقائية على شرايين القلب.
ورغم أن اكتشاف جدوى الأسبرين كوسيلة للوقاية القلبية في ستينات القرن الماضي، تمّ آنذاك بطريقة غير مقصودة البتة، ورغم كثرة الدراسات الطبية حول تأثيراته القلبية المفيدة، فإن ماكينات البحث الطبي لم تتوقف عن الاستمرار في إخضاعه للدراسة والتمحيص.
وضمن عدد 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، نشرت مجلة «الدورة الدموية»، لسان حال رابطة القلب الأميركية (AHA)، نتائج دراسة الباحثين من السويد حول التأثيرات السلبية المحتملة لسيناريو توقف مريض القلب عن تناول الأسبرين، دون وجود دواع طبية تفرض ذلك التوقف عن تناوله بشكل يومي. واللافت في الأمر ليس فقط إفراد مجلة «الدورة الدموية»، أحد أهم المجلات العلمية في صحة القلب، أكثر من عشر صفحات لعرض هذه الدراسة، بل أيضا جعلها الدراسة الأولى ضمن ترتيب الدراسات الطبية المنشورة في ذلك العدد من المجلة.
والواقع أن التوقف عن تناول الأسبرين أحد المشكلات التي تواجه تقديم معالجة أفضل لمرضى الشرايين القلبية. وتفيد نتائج إحصائيات المتابعة الطبية بأن نحو 20 في المائة من المرضى الذين سبقت إصابتهم بنوبة الجلطة القلبية، يتوقفون خلال ما بين السنة الأولى والثالثة بعد نوبة الجلطة القلبية عن تناول هذا الدواء الذي لا تُقدر فائدته بثمن. وهي في الحقيقة نسبة عالية، ولكن هذه النسبة ترتفع مع مرور الوقت لتصل إلى 30 في المائة من مرضى الجلطة القلبية، وبالإضافة إلى هذا هناك مشكلة عدم الالتزام بتناول الأسبرين بشكل يومي، وهو ما تصل نسبة حصوله إلى 50 في المائة من بين مرضى القلب أولئك، هذا مع العلم بأن الأسبرين أحد أكثر الأدوية توفراً في العالم وأحد أرخصها ثمناً. وإذا ما أضفنا إلى هذا تقارير منظمة الصحة العالمية التي تفيد بأن الوفيات بسبب أمراض الشرايين القلبية في كافة أرجاء العالم تتجاوز نسبة 32 في المائة من بين جميع أسباب الوفيات، ما يجعلها السبب الأول للوفيات والإعاقات العالمية، أدركنا عمق تأثيرات الانقطاع عن تناول الأسبرين.
وقال الباحثون في مقدمة عرضهم للدراسة: «تناول جرعة منخفضة من الأسبرين سلوك وقائي تدعمه أدلة علمية قوية، وتوصي به جميع الإرشادات الطبية لاستخدامه في الوقاية المتقدمة من أمراض القلب والأوعية الدموية. والآثار الصحية العامة على المدى البعيد المترتبة على التوقف عن تناول الأسبرين قد تكون كبيرة، ولكنها لا تزال غير معروفة بشكل جيد».
ومن أجل هذه الغاية، قام الباحثون بإجراء دراسة متابعة واسعة في السويد، بدأت عام 2005، وشملت أكثر من 600 ألف شخص ممنْ يتم وصف الأسبرين لهم للوقاية القلبية. ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن التوقف عن تناول الأسبرين أدى إلى ارتفاع الإصابات بنوبات الجلطة القلبية والذبحة الصدرية بنسبة تفوق 37 في المائة، مقارنة بالأشخاص الذين حافظوا على تناوله بشكل يومي، ولم يتوقفوا عنه إلا لدواع طبية وبإشراف الطبيب.
والأمر الآخر الذي لاحظه الباحثون، هو أن احتمالات الخطورة تلك ترتفع بشكل سريع بُعيد التوقف عن تناول الأسبرين، أي أنها تظهر في وقت مبكر بعد الانقطاع عن الاستمرار في تناول الأسبرين بشكل يومي. وهذه نتائج متوقعة بالعموم، ولكن ما لم يكن متوقعاً، وفق تعليق عدد من الأطباء، هو أن نسبة احتمالات الإصابة بالانتكاسات القلبية تلامس سقف الأربعين في المائة.
وكان ثمة جانب آخر مما عرضه الباحثون في الدراسة، وهو أن توقف المريض أو استشارته للطبيب حول رغبته في التوقف عن تناول الأسبرين، يتطلب من الطبيب إعادة توضيح أهميته للمريض وإجراء حديث يتضمن إحاطة المريض بأهمية وجدوى تناول الأسبرين. ومن أهم جوانب الحديث هذا هو توضيح أربع نقاط مهمة بلغة بسيطة ومفهومة وعملية للمريض، أولها أن ثمة أدلة علمية قوية تفيد بجدوى وفائدة تناول الأسبرين بشكل يومي، للوقاية من مخاطر عودة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية. وأن جميع الهيئات الطبية المعنية بصحة القلب تضع تناول الأسبرين بشكل يومي ضمن أولويات الوقاية المتقدمة من عودة الإصابة بنوبات الجلطة القلبية. وأن آلية عمل الأسبرين في الوقاية هذه لا تقوم بها أدوية أخرى قد يكون مريض القلب يتناولها، مثل أدوية خفض ضغط الدم أو خفض الكولسترول أو ضبط إيقاع نبض القلب، بل الأسبرين يعمل بآليات موجهة لإعاقة ترسب وتراكم الصفائح الدموية. وكذلك فإن تأثيرات الأسبرين وقتية، ومحدودة زمنياً، ما يتطلب تناوله بشكل يومي لضمان استمرار تحقيق خفض احتمالات عودة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية.
الأسبرين... وقاية لا تقدر بثمن
الأسبرين... وقاية لا تقدر بثمن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة