لم يعد موسم الـ«هوت كوتير» في باريس عن أزياء تفوق أسعارها المئات الآلاف لفستان زفاف مرصع بالأحجار وبتوقيع مصمم من حجم إيلي صعب أو جيورجيو أرماني وغيرهما فحسب. منذ بضع سنوات غزته دور مجوهرات كبيرة من عيار «كارتييه» و«بياجيه» و«فان كليف آند أربلز» لتبدأ في منافسته إن لم نقل مزاحمته بكل ما يلمع ذهبا ويبرق أحجارا كريمة. بداية كانت الغزوة ناعمة، على أساس ملء الفراغ الذي خلفه تراجع عدد بيوت الأزياء والمصممين المشاركين في أسبوع الأزياء بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية. بعضهم أعلن إفلاسه وأغلق داره وبعضهم انسحب مكتفيا بعروض هامشية على نطاق صغير ومحدود رفقا بالميزانية.
كان التوقيت مناسبا لكي تضرب دور المجوهرات الحديد وهو ساخن، لا سيما أنها هي الأخرى بدأت تكتوي بنيران الأزمة بعد تراجع قطاع الساعات الفاخرة تحديدا بسبب تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني. إنقاذا لصناعتهم، وضعوا كل آمالهم على المجوهرات الرفيعة. وكان رهانهم في محله، لأن هذا القطاع نأى بنفسه عن الأزمة، بدليل أن مبيعاته تشهد نموا صحيا وانتعاشا يُثلج الصدور رغم أننا نتكلم هنا عن قطع تقدر بالملايين.
تفننوا وتباروا على صياغة أشكال تحاكي التحف الفنية. وكلما ارتفع سقف الإبداع، سواء من حيث التقنيات أو التصاميم ارتفعت الأسعار. فهذه ليست مجرد زينة للاستمتاع أو التباهي بها في المناسبات، بل هي قطعا للاستثمار القريب والبعيد المدى على حد سواء. ثم إن الترف كما قالت غابرييل شانيل، «ضرورة تبدأ حيث تتوقف الحاجة»، وهو ما أكدت صحته الأيام وتوجهات الأسواق العالمية.
فالأحجار المستعملة في غالب المجموعات التي طرحتها الشركات هذا العام تتميز بأحجام ضخمة وتقطيع لا يُعلى عليه لتعزيز قيمتها. ورغم أسعارها الخيالية، حيث إن عقدا من دار مثل «بياجيه» مثلا قد يتعدى الـ8 ملايين دولار أميركي، فإن أغلبها بيع قبل أن يتم عرضه أمام وسائل الإعلام. هذا على الأقل ما أكدته كل من «كارتييه» و«ديور» و«فان كليف آند أربلز» و«بياجيه» و«شانيل» وغيرهم.
«ديور» مثلا جسدت عشقها للورود بأخذنا في رحلة إلى حدائق فرساي الشهيرة، التي استقت منها المصممة فكتوار دي كاستيلان ورودا وأزهارا متفتحة صاغتها شكل باقات ثلاثية الأبعاد بكل أنواع الأحجار. ولأن المصممة معروفة بشغفها بالألوان الصارخة واللعب بتناقضاتها، فهي لم تتنازل عن هذا الشغف في هذه المجموعة، وجمعت الزمرد والزفير في باقات تتدلى منها ماسات وتلفها أحجار التورمالين والجمشت والعقيق لتبدو تارة وكأنها بتلات تنبت من تحتها، وتارة وكأنها أغصان متشابكة بفضل اللك الذي تفننت في صياغته.
تشرح الدار أن «في قصر فرساي تتناغم الطبيعة مع القصر وتفاصيله المزخرفة وتلتقي أشعة الشمس في حب مع التصاميم الهندسية لحديقته الغنية بأحواض الأزهار والأجمات والتماثيل والممرّات المغطاة بالرمل». أي كل ما يعبر عن البذخ والحياة الفرنسية في أجمل حالاتها وتناقضاتها. ترجمة فكتوار دي كاستيلان لهذا العالم أنها طوعت الأمازونيت والعقيق مثلا في خواتم تُذكرنا بالبحيرات بينما يحاكي الصفير الأزرق والتورمالين في انسياب الماء وحجر اليشب زَبَد البحر. أمّا أقراط الأذن فتلعب على التناقض والاختلاف. فهي لا تأتي كأزواج متشابهة، مثل قرط من القمح يترافق مع آخر على شكل أكليل من أوراق الغار.
وإذا كانت «ديور» قد اعتمدت على عشقها للورود والطبيعة وعلاقة مؤسسها بها، فإن دار «شانيل» لعبت على علاقة غابرييل شانيل بالبحار واليخوت وحياة الرفاهية على ضفاف الريفييرا الفرنسية ودوفيل وغيرها. مجموعتها الجديدة تحمل اسم «فلايينغ كلاود» أي السحاب الطائر، وهو اسم يخت دوق ويستمنستر، الذي ربطتها به علاقة حميمة في شبابها.
كان لهذه العلاقة تأثير قوي ومباشر على حياة غابرييل على المستويين الشخصي والمهني، ما دفع قسم المجوهرات الراقية في الدار أن يستلهم من هذه الحقبة تصاميم تعكس ضوء الشمس وانسيابية الماء وزرقة البحر البلّورية موظفا فيها الماس واللآلئ والذهب الأصفر وأحجار الصفير وغيرها. بلغ حجم الإبداع ودقة الانتباه إلى التفاصيل إلى حد صياغة بعض القطع على شكل حبال الأشرعة إلى جانب أشكال البوصلات والأزرار التي تزين سترات البحّارة وما شابه. بصحيح العبارة، كل ما يتعلق بالبحر والإبحار كان حاضرا فيها، وكل تجربة مرت بها مع بوي كابيل أو دوق ويستمنستر أو كوكتو وبيكاسو، تشكلت هنا بلون ونوع حجر كريم، بما في ذلك اللؤلؤ الذي يمكن القول إنه أصبح لصيقا بها في عالم الموضة.
مجموعة «سانلايت جورني» Sunlight Journey لدار «بياجيه» كانت رحلة من نوع آخر. فهي رحلة لم تكن لمكان أو زمان بل كانت، كما قالت الدار «إلى قلب الخبرة والمهارة والحرفيّة». استوحت فيها من أشعة الشمس نورها ومن البحار تماوجاته في تصاميم غير مسبوقة في عالم المجوهرات والساعات على حد سواء. وتؤكد الدار أنها قبل أن تأخذنا في هذه الرحلة، كانت لها رحلة استكشاف وبحث سابقة في عالم الأحجار الكريمة النادرة حول العالم استغرقت شهورا. كان الهدف منها الحصول إلى أحجار نادرة. وبالفعل حصلت على بُغيتها، مثل حبة ألماس صفراء إجاصيّة الشكل يقارب وزنها 11.85 قيراط صاغتها في عقد مصنوع من الذهب الأبيض والألماس.
بيد أن اللافت في هذه المجموعة أن عبقريتها لم تقتصر على الأحجار النادرة فحسب بل أيضا على تصاميم في غاية الابتكار استعانت فيها بفنانين كبار في مجالاتهم ليبدعوا لها مجوهرات وساعات فريدة من نوعها. الفنّانة نيلي سونيه المختصّة في الزخرفة بالرّيش نجحت أن تجعل مجموعة مكونة من 10 قطع استثنائية، تتفوق في تألّقها على سطوع الشمس.
بينما نجحت الفنانة إيزابيل إيمريك الحائزة على لقب Maître d’Art أن تدمج المواد الأكثر هشاشة مثل قشر البيض على رقاقات الذهب الذي تتقنه لتُجسده في ساعة يظهر عليها الموج الزابد وهو يتلاطم في بحر تغمره أشعّة الشمس.
أما الفنّانة السويسرية المتخصّصة في الزخرفة بالمينا، أنيتا بورشيه، والفائزة بجائزة غايا للإبداع الحرفي لعام 2015 فاستخدمت الزخرفة بالمينا المُعالَجة حرارياً - وتحديداً المينا المجتزعة cloisonné - لتزيين ثلاث ساعات فريدة من نوعها، تتجسد فيها مشاهد الصخور والغطاء النباتي المعلّقة بين الّماء والبحر. فالحقيقة التي أكدتها كل هذه المجموعات بتنافسها على التألق وكسب ود ورضا زبائنها بأي ثمن، أن الترف كما قالت شانيل يصبح «ضرورة عندما لا تكون هناك أي حاجة إليه» وإن كان هواة الاقتناء والاستثمار قد لا يوافقونها الرأي على أساس أنه في الفترات التي تسودها الاضطرابات السياسية والاقتصادية يصبح حاجة ماسة ليوم أسود. وهذا ما يفسر ضخامة الأحجار الكريمة التي تُرصعها وجودتها.
المجوهرات ... كلما ارتفع سقف الإبداع فيها ارتفعت أسعارها
يستلهمون من الطبيعة والتجارب الشخصية ويستهدفون الاستثمار
المجوهرات ... كلما ارتفع سقف الإبداع فيها ارتفعت أسعارها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة