مع ازدياد الوعي الصحي، أصبحت المعلومات الطبية الخاصة بتأثير البيئة على صحة الإنسان متوفرة ومتاحة ومعروفة لدى الجمهور. ومن أهم هذه المعلومات أهمية استنشاق ما يمكن أن يطلق عليه «الهواء النظيف»، بمعنى أنه خال من الأبخرة التي تحتوي على المعادن المختلفة أو السموم. ولا تعني كلمة السموم بالطبع أنها سامة في الحال، ولكن تعني وجود مخاطر عند التعرض المتواصل لها.
سموم معدنية
وهناك العديد من الدراسات التي تناقش أهمية هذا الموضوع، وأشارت دراسة حديثة نشرت في مجلة «السموم العصبية» (journal Neurotoxicology) في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الحالي إلى احتمالية أن يصاب الأطفال الذين يتعرضون لاستنشاق كميات كبيرة من معدن المنغنيز في الهواء إلى خلل في النمو العصبي، ربما يؤدي إلى خطر خفض مستوى الذكاء IQ لديهم أقل من أقرانهم الآخرين في نفس المرحلة العمرية، من الذين لا يتعرضون باستمرار لهذه الكميات من المنغنيز.
ومن المعروف أن الجسم يحتاج إلى المعادن والأملاح من أجل الحفاظ على الصحة، وعمل أجهزته المختلفة بكفاءة، وهذه المعادن تُسمى «العناصر النادرة» (trace element) مثل الحديد والمنغنيز والزنك والنحاس واليود وغيرها. ولكن الاحتياج يكون بمقدار قليل جداً. وهذه الأملاح والمعادن مهمة للخلايا العصبية بشكل خاص، حيث تعمل على تحفيز التوصيلات العصبية، وأيضاً تلعب دوراً هاماً في الحفاظ على قوة انقباض العضلات وكفاءتها وتكوين الهرمونات المختلفة. ويلعب المنغنيز دوراً في تكوين العظام والأربطة، وتنظيم مستوى الغلوكوز بالدم، وتكوين هرمون الجنس، وأيضاً دوراً في هضم الدهون. ويحتاج الجسم إلى ما يقرب من مليغرامين فقط يومياً من المنغنيز.
وفي هذه الدراسة أجرى علماء من الولايات المتحدة، بمساعدة علماء من المملكة المتحدة، تقييماً للأطفال في مدينة ليفربول الإنجليزية، التي يتميز هواؤها بزيادة نسب المنغنيز أكثر من المعدلات التي تحددها وكالة حماية البيئة بالولايات المتحدة Environmental Protection Agency (EPA). وقد أعلنت هذه الهيئة أن نسب المنغنيز تتعدى النسب الصحية في معظم المناطق، وليست المملكة المتحدة فقط، وهو الأمر الذي حذرت منه الوكالة بالطبع. وأكدت أن هناك إمكانية أن يسبب المنغنيز خللاً في الأعصاب، خصوصاً على المخ في مرحلة النمو. وكان الاعتقاد أن أثر هذه المعادن يكون أكبر على كبار السن فقط، خصوصاً المقيمين في المناطق الصناعية التي يدخل المنغنيز في بعض مكوناتها، مثل مصانع السيراميك والبطاريات والسماد، ويسبب لهم أعراضاً قريبة من مرض الشلل الرعاش.
ملوثات صناعية
وأشار الباحثون إلى أن شرق مدينة ليفربول يعتبر المكان الأمثل للدراسة، حيث إن المدينة توجد بها محرقة للنفايات الصناعية ومعالجات الكومبيوتر المصنوعة من المنغنيز. وقد قام الباحثون بعمل تحاليل لعينات من الدم والشعر الخاص بـ106 من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و9 أعوام، وكانوا جمعياً قد خضعوا سابقاً لاختبارات بحثية سابقة تتعلق بالبيئة، وفي هذه الدراسة قام الباحثون أيضاً بقياس كمية الرصاص الموجود في الدم، بجانب طرح أسئلة استخدمت من قبل في معرفة القدرات الإدراكية على الأطفال لمعرفة أجوبتهم، وأي مدى تلعب نسبة المادة دوراً في الإجابة.
وبعد أن قام العلماء بتثبيت العوامل التي يمكن أن تؤثر على النتيجة، مثل العوامل النفسية والقلق، والتعرض لصدمات نفسية من عدمه، وجدوا علاقة عكسية بين نسبة المنغنيز في الشعر ومعدلات الذكاء، بمعنى أنه كلما زادت نسبة المنغنيز، كلما كان هناك انخفاض في تسجيل درجات معدلات الذكاء، التي تشمل الذاكرة الفاعلة وسرعة استيعابها (processing speed and working memory)، وهي ضرورية للعملية التعليمية. وتعتبر الذاكرة الفاعلة بمثابة مساحة تخزين صغيرة في المخ يتم استدعاؤها سريعاً، وعلى سبيل المثال إمكانية استعادة عدة أرقام بعد سماعها مباشرة، وكلما كانت هذه المهارة سريعة كلما تمكن الطفل من استدعاء المعلومة التي تلقاها بالفعل. وأوضح الباحثون أن هذه الدراسة على أهميتها، إلا أنها تحتاج لعدد أكبر من الأطفال لإجراء التجربة حتى يكون الحكم صادقاً على النتائج، فضلاً عن أهمية أن تقوم الدراسة بعمل تقييم لفسيولوجي المخ ووظائفه من خلال التصوير عن طريق أشعة الرنين المغناطيسي.
وحذر الباحثون من أن خطر المنغنيز الزائد لا يوجد فقط في الدول أو المناطق الصناعية، ولكن يمكن أيضاً أن يوجد في المناطق الريفية، خصوصاً الذين يعتمدون على الآبار في مياه الشرب، حيث إن المنغنيز موجود في التربة بشكل طبيعي، خصوصاً أن نبات فول الصويا يمتص المنغنيز من التربة ويقوم بتركيزه. وبالنسبة للرضع الذين يعتمدون على ألبان الأطفال التي تحتوي على الصويا يكون تركيز المنغنيز فيها أكبر 200 مرة من الرضع الذين يرضعون من ثدي الأم، وهو الأمر الذي يمكن أن يمثل خطورة لاحقاً، حسب نتائج الدراسة، ولذلك يفضل ألا تلجأ الأمهات إلى استخدام الألبان الصناعية التي تحتوي على الصويا على الإطلاق.
بطبيعة الحال ليس معنى انخفاض معدلات الذكاء، أن الطفل بالضرورة سوف يعاني من مشاكل عقلية أو اضطراب في الإدراك أو أمراض عصبية، ولكن تفادي هذه الكميات الزائدة من المنغنيز يؤدي إلى الحفاظ على صحة الأطفال العصبية، خصوصاً أن هناك العديد من الملوثات الأخرى الأشد خطراً. ويجب أن تهتم الحكومات بالأمر، وتحذر من خطورة شرب مياه الآبار، من دون أن تكون نسبة المعادن الموجودة بها لا تتعدى النسب الآمنة، وضرورة عدم وجود المصانع المختلفة بالقرب من التجمعات السكانية لخطورتها الأكيدة على الصحة.
- استشاري طب الأطفال