حُرم أكراد سوريا على مدى عقود طويلة من القراءة والكتابة بلغتهم الأم منذ تولى نظام حزب «البعث» الحاكم السلطة في سوريا عام 1970، وبلغت سياساته العنصرية ذروتها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؛ عندما منع رئيس سوريا الراحل حافظ الأسد ووالد الرئيس الحالي بشار الأسد، الأكراد السوريين من التحدث باللغة الكردية في المدارس والدوائر الحكومية.
وتروي المدرسة عزيزة آمين (28 سنة) حادثة أليمة جرت معها في العام 1998، وقتذاك كانت في الصف التاسع الإعدادي تلبس أسورة منقوشة عليها العلم الكردي في يدها اليسار، شاهدها الموجه التربوي وتوجه إليها غاضباً ممسكاً يدها بعنف وقام بحرق العلم وهو في يدها.
بقيت عزيزة مدة شهر تشتكي من الحروق، ولا تزال آثار الندب ظاهرة على يدها إلى الآن، وفي بداية حديثها لـ«الشرق الأوسط»، قالت: «من وقتها كرهت حزب البعث والنظام السوري، كنا نخشى من التكلم بلغتنا الكردية في المدرسة، معرّضين للفصل والطرد».
أما اليوم، تعمل عزيزة مدرّسة للغة الكردية لطلاب الصف الثالث الابتدائي في مدرسة جميلة بوحيرد الكائنة في بلدة الدرباسية (85 كيلومتراً شمال الحسكة)، وعبرت عن مشاعر السعادة قائلة: «شعور لا يوصف أن أدرس الكردية للتلاميذ وأعلمهم لغتنا الأم، كان حلماً صعباً واليوم قد تحقق».
ومنح انسحاب قوات النظام من أنحاء كثيرة من سوريا بداية العام 2014، الأكراد فرصة لتشكيل إدارة ذاتية في ثلاث مناطق يشكلون فيها غالبية سكانية، الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، وفرضت تدريس المنهاج الكردي إلى جانب العربي والسرياني في جميع المدارس والمجمعات التربوية الخاضعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية». كما منعت المنهاج الحكومي والكتاب الرسمي من التوزيع في المدارس الخاضعة لنفوذها، وقامت بتأليف منهاج دراسي جديد يشمل المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وطبعت لهذا الغرض نحو مائتي طن من الكتب المدرسية، ليتم توزيعها على التلاميذ نهاية الشهر الحالي.
وأكدت سميرة حاج علي، الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية: «افتتحنا 1950 مدرسة لاستقبال الطلاب في العام الدراسي الجديد، كما تم توزيع 17 ألف معلم ومعلمة لتدريس المنهاج الدراسي الجديد».
وبحسب الحاج علي، تم فصل العملية التربوية في مناطق الإدارة الذاتية، عن وزارة التربية والتعليم في حكومة النظام، والشهادة الصادرة من الإدارة غير معترف بها من قبل دائرة الامتحانات السورية، وتضيف: «نعمل على ربط حلقات التعليم الأساسي والإعدادية، بالمراحل التعليمية الثانوية والجامعة ضمن مناطقنا، حالياً لدينا جامعتان في الجزيرة، وجامعة ثالثة في عفرين كي يتمكن الطلاب من إكمال تعليمهم العالي».
وعن أبرز التحديات والصعوبات التي واجهت العملية التربوية خلال العامين الماضيين، ذكرت الحاج علي: «كان هناك نقص في المقاعد الدراسية؛ ما أجبر قسماً من الطلاب على الجلوس على الأرض، كما واجهتنا مشكلة طباعة الكتاب المدرسي، لكن هذه السنة تجاوزنا أغلب المشاكل».
ويرتاد نحو 750 طالباً وطالبة مدرسة جميلة بوحيرد في بلدة الدرباسية، إحداهنّ لورين حمي (12 سنة) التي بدأت سنتها الدراسية في الصف الثامن، وقد باشرت دوامها بشكل رسمي بتاريخ 12 سبتمبر (أيلول) الحالي، وقالت مبتسمة: «أنا سعيدة لأنني أدرس لغتي الأم، في البيت أبي وأمي يتحدثون الكردية، ندرس تاريخنا الكردي وأدبه وثقافة مجتمعنا».
وأشارت فوزة خلو مديرة المدرسة بأن التلميذ الكردي يدرس في الصفوف الابتدائية الثلاثة، ألف باء اللغة، وقواعدها والنطق السليم للأحرف والرياضيات، وتقول: «أما في الصفوف الرابع والخامس والسادس يبدأ في دراسة المواد العلمية والجغرافية والتاريخ، واللغة الإنجليزية»، ولفتت إلى أن الطالب الكردي يختار دراسة مادة اللغة السريانية أو العربية، كما ينطبق ذلك على الطالب العربي والسرياني باختيار لغة إحدى مكونات المنطقة، بحسب خلو. ويستخدم أكراد سوريا الأحرف اللاتينية في الكتابة، حيث تندرج اللغة الكردية ضمن مجموعة اللغات الهندو - أوروبية، التي وضع قواعدها الأمير جلادت بدرخان ونشر في سنة 1932 كتابه المعروف: «الأبجدية الكُردية وأسس القواعد الكُردمانجية»، حيث صدرت طبعته الأولى في دمشق، وما زال يعد من أبرز الكتب في تدريس قواعد اللغة الكردية.
ولم تخف فوزة خلو تدني مستوى اللغة عند الأهالي في تدريس أبنائهم؛ الأمر الذي دفع الكادر التدريسي والهيئة الإدارية إلى أدوات ووسائل حديثة وعصرية لتعليم الطلاب. وتوضح: «التلميذ يتعلم هنا كل شيء كون والديه لا يجيدان الكتابة والقراءة بالكردية بشكل سليم، نضطر إلى إعادة ومراجعة اللغة بشكل دوري حتى يتعلموا كل شيء، وخلق جيل جديد».
وأثارت خطوة الإدارة الذاتية في تطبيق المنهاج الكردي للطلاب انتقادات وجدلاً واسعاً، حيث رفض ريزان داوي، وينحدر من مدينة القامشلي (أقصى شمال شرقي سوريا) إرسال ابنه الناجح للصف التاسع الإعدادي، إلى مدارس الإدارة الذاتية. ويوضح: «لا أريد مستقبلا مجهولا لابني، فالشهادة غير معترف بها، والكادر التدريسي غير مؤهل». وشدد ريزان: «ولكن ما قيمة أن نتعلم الكردية وهي لغة غير معترف بها لا في سوريا ولا في أي دولة ثانية، أخشى على ابني ومستقبل هذا الجيل الذي أجبر على ارتياد المدارس الكردية».
ونشر الكاتب واللغوي إبراهيم خليل كراساً «نقدياً» عرض فيه جملة من الأخطاء اللغوية والنحوية التي وردت في الكتب المدرسية لدورة العام 2015-2016. وقال: «ركزت في الكراس على ضرورة إزالة الإشارات الآيديولوجية الحزبية التي لا تتناسب مع التعليم المدرسي العام»، وأضاف: «كان حري بالقائمين على العملية التربوية الحفاظ على تدريس مادة واحدة باللغة الكردية في جميع الصفوف والمراحل، ومحاولة انتزاع اعتراف رسمي من وزارة التربية السورية، ومنح المادة علامة مخصصة في الجلاء المدرسي».
واعتبر الدكتور فريد سعدون، وهو أكاديمي وأستاذ جامعي سابق، أن الإدارة في سباق مع الزمن لفرض رؤيتها ومشروعها التعليمي، وقال: «لا توجد أي بنية تحتية أو مقومات لتحقيق الحد الأدنى من شروط النظام التعليمي، ليس لديها الكادر التخصصي ولا هيئة إدارية، فضلاً عن غياب الاعتراف القانوني والدستوري لهذه الخطوة».
واتهم الدكتور سعدون هذه الإدارة بأنها تغامر بمستقبل الطلاب، ويضيف: «دون تقديم أي ضمانات علمية لمتابعة التعليم العالي أو ضمانات قانونية للاعتراف بشهادتهم، وبذلك تخلق مشكلة تهدد المجتمع بأكمله»، وتساءل مستغرباً: «من أخطر عناصر النظام التعليمي هو المنهاج، نحن لا نعلم من هي الجهة التي تضع هذه المناهج، ولا الجهة التي تشرف عليها».
بدوره، تدخل مكتب منظمة «يونيسف» في دمشق، لإيجاد صيغة لحماية العملية التربوية في مناطق شمال سوريا، وعقد اجتماعاً مع وفد من هيئة التربية والتعليم في مدينة الحسكة بحضور رئيسة الهيئة سميرة حاج علي، وعرضت عليهم منهاجا دراسيا أمميا معترفا به من قبل المنظمة الدولية والنظام السوري.
وكشفت: «عقدنا الاجتماع بداية الشهر الحالي، وبعد اطلاعنا على المنهاج تبين أنه مطابق لمنهاج النظام، مع وجود فروق بسيطة بإدخال مواد للدعم النفسي، أخبرناهم بأن لدينا منهاجا متكاملا بالكردية لكنهم أجابوا بأننا لسنا جهة رسمية، بدورنا رفضنا العرض وتوزيع المنهاج في مدارسنا».
وتتبع هيئة التربية والتعليم لدى الإدارة الذاتية «مؤسسة تأليف المناهج»، والأخيرة مركزية على مستوى المدن والبلدات الخاضعة لسلطة الإدارة، والكتاب المدرسي موحد في جميع الأراضي الخاضعة لنفوذها. وذكر رضوان محمد، وهو عضو إداري في «مؤسسة المناهج»، أن كتب الإدارة تختلف عن المنهاج السوري الرسمي، وقال: «المنهاج جديد تم تأليفه للمرة الأولى، باللغات الرسمية الثلاث عند الإدارة، وهي: الكردية والعربية والسريانية».
وبحسب خطة المؤسسة، ستعمل هذه المؤسسة على تغير المنهاج حتى دورة 2021-2022، وقال رضوان محمد: «بذلك نكون قد غيرنا مناهجنا تغييراً جذرياً واستبدلنا الأسلوب التقليدي للدراسة الذي يعتمد على الامتحان عنصرا رئيسيا لنجاح الطالب، إلى منهاج يعتمد على تقييم إمكانات ومهارات ومواهب وسلوك الطالب، نقطة أساسية في تحديد مساره ومستقبله».
أما المعايير التي اعتمدتها المؤسسة في تأليف المنهاج، زاد رضوان محمد: «المصدر الأول لنا في تدريس مفهوم الأمة الديمقراطية هي مرافعات القائد عبد الله أوجلان، بالإضافة إلى مجموعة غنية ومتنوعة من المراجع في مختلف المجالات».
وانتقد أكاديميون ومختصون تربويون، أدلجة مناهج الإدارة الذاتية وانحيازها لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» أحد أبرز أحزاب الإدارة، وبخاصة فيما يتعلق بنشر صور زعيمه الروحي عبد الله أوجلان، ومقاتلين يظهرون باللباس العسكري الموالي للحزب.
وفي ختام حديثه، وصف الدكتور فريد سعدون «سلطة الإدارة الذاتية بسلطة أمر واقع مؤقتة وغير معترف بها»، لافتاً: «إذا تغيرت موازين القوى على الأرض فإن جميع الطلاب الذين التحقوا بمدارسها سيفقدون مستقبلهم التعليمي».
الكردية تسابق الزمن في مناطق الإدارة الذاتية... وتحذيرات من «أدلجة» المناهج
معارضون يشيرون إلى أن الكادر التعليمي غير مؤهل
الكردية تسابق الزمن في مناطق الإدارة الذاتية... وتحذيرات من «أدلجة» المناهج
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة