يعكس فيلم زياد الدويري الجديد «القضية رقم 23» (أو «الإهانة»، كما ورد في عنوانه التسويقي الخارجي) وضعاً لبنانياً خالصاً يحمل الصفات والملامح المتداولة في بيروت.
الصراع في هذا الفيلم يدور بين شخص مسيحي مؤمن بأنه صاحب حق لا يمكن التنازل فيه، فهو مواطن لبناني يعتقد أن لأفكاره وقضاياه السبق على أي أفكار وقضايا أخرى، ومسلم فلسطيني يدرك حدوده لكنه لا يمكن له قبول الإهانة التي يوجهها المسيحي له.
في الواقع أن هذه الإهانة ليست من جهة واحدة؛ المسيحي تمنى لو أن شارون قتل كل الفلسطينيين (من دون أن يسمي مذبحة صبرا وشاتيلا بالاسم)، والفلسطيني وجه للمسيحي ضربة قوية نتج عنها كسر في الأضلاع. وكلاهما أيضاً ضحية: الأول ترعرع على ذكرى قيام الفلسطينيين بغزو الدامور وجوارها وتشريد المسيحيين، والثاني ضحية الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948.
وفي هذا الخضم، لا يصرف المخرج زياد الدويري وقتاً لا يملكه ليمنح العاصمة الموقف الجغرافي والبيئي الذي تستحقه؛ يكتفي، من دون ذنب مرتكب، بأن يصوّر الأحداث ما بين محال قليلة، بعض منها فقط في الشارع البيروتي، على عكس فيلمه الأول (والوحيد حتى هذا الفيلم) «بيروت الغربية» (1989).
ورغم ذلك، فبيروت كمحور للقضية المثارة، ومكان تتزاحم فيه الأعراق والمذاهب والتيارات، موجودة كما كانت موجودة دوماً في كثير من الأفلام اللبنانية التي خرجت خلال الحرب، أو بعدها.
- تواصل مقطوع
عرفت بيروت تعدد الطوائف الدينية والمذاهب السياسية، وزحام الأحزاب وتبايناتها، على نحو توافقي إلى حين نسفت الحرب اللبنانية (1975 - 1991) ذلك الوئام، الزائف منه والأصيل.
والغالب أنه لا مدينة عربية أخرى شهدت كل هذا الثراء من التخصصات والعناصر غير بيروت. حتى في النواحي الجمالية الصرفة، بقيت بيروت بسطة ساحلية تعج بالحياة على أكثر من وجه. وجمالياً، يطالع الطائر إليها ذلك الساحل الحاضن لها، الممتد شمالاً وجنوباً، قبل أن يلحظها الراكب من فوق، فإذا بها، اليوم، نسيج من المعماريات المتناقضة، تفصح عن الوضع الاقتصادي من العنوان الأول. فعلى هذه الربوة، هناك مبانٍ فخمة، وعلى تلك ناطحات سحاب، وفي المتناول مباني الساحل الجميلة، تليها العشوائيات المدقعة وما يجاورها من أحياء مكتظة لا جمال فيها أو جذب.
أما المنحدر إليها من الطريق الدولية، شرقاً وشمالاً، فيراها من بعيد كما لو كانت جوهرة يحتضنها محيطها من غابات الصنوبر والهضاب الملاصقة، ويمتد البحر كعمق لؤلؤي ساحر لها.
ورغم أن بيروت توسطت مدن أكثر انغلاقاً في الشرق العربي، فإن الكشف عن الحقيقة الأخرى (أو الوجه الآخر من الحقيقة ذاتها) حدا بالمخرجين اللبنانيين لطرح بيروت أخرى لم تكن قد طرحت من قبل. هذا المعنى الأعمق للمدينة بدأ في عام 1975، على يدي المخرج مارون بغدادي في «بيروت يا بيروت». الفيلم، في مجمله، نتاج نمط من الحياة التي عاشها المخرج الراحل ذاته، إذ وُلد وترعرع في «الغيتو» المسيحي المسيج بالعزلة آنذاك، ومنه استمد المخرج فيلمه الأول منفتحاً على بيروت أكبر من «الشرقية»، وعلى ثقافات اجتماعية تتجاوز الحيز المسيحي، متواصلة مع الجانب المسلم (السني)، تبعاً للأحداث التي كتبها بنفسه. على ذلك، الانفتاح على النصف الآخر من بيروت لم يكن كاملاً ككمال السيطرة على مواقع المدينة التي صوّرها، ومنها مناطق كانت شبه محرّمة على مسيحيين غير حزبيين يساريين، مثل طريق الجديدة ومحاذاة صبرا وشاتيلا.
بعد سبع سنوات، عاد مارون بغدادي لبيروت أخرى. كانت الحرب قد اندلعت، والظروف تغيّرت على الأرض، وأضحت بيروت ميدان قتال رهيب كان الأول من حجمه ونوعه في أي بلد عربي. على ذلك، فإن «حروب صغيرة» (1982) مثّل انتقال المخرج كلياً إلى الطرف الآخر، مقتحماً سوار العزلة السابق.
كلا الفيلمين عن التواصل المقطوع بين اللبنانيين، على نحو أو آخر، وكلاهما يجسّد بيروت كمدينة قدر لها أن تعكس التباعد ضمن المحيط القريب والمتقارب. كذلك حال فيلم آخر في المرحلة ذاتها هو «بيروت اللقاء» (1982 أيضاً) لبرهان علوية، الذي طرح فيه مشكلة شخصيات باحثة عن المكان واللحظة من الزمان، والانتقال من ألف في مكان ما إلى ياء في مكان آخر. وخلال ذلك كلّه، يكمن صلب الموضوع: البحث عن الهوية. المراسلات والهواتف بين بطلي الفيلم (جنوبية وبيروتي) تعكس انقطاع التواصل، وتخمة العزلة التي باتت المدينة، خلال الحرب، تعيشها.
- ملجأ وقناص
بعض مما تعنيه المدينة في هذا الشأن نجده في فيلم برهان علوية «بيروت اللقاء» (1981). وهو فيلمه على جدران وأصوات الشوارع، ثم تابع منوال بطله حيدر (هيثم الأمين) الذي يسكن مع أخيه وزوجة أخيه في بيت خال من الأثاث، في عمارة ربما كانت على خط النار أو قريبة منه. هذه بيروت في واحدة من راحاتها الأمنية، وحيدر يقرأ في الصحيفة أن الاتصالات الهاتفية المقطوعة بين المنطقتين الشرقية والغربية من المدينة قد عادت. فينزل إلى مدخل العمارة، ويجرب حظه مع نمرة صديقته الجامعية زينة (نادين عقوري)، ويتفقان على موعد في النهار ذاته لأنها في صبيحة اليوم التالي ستركب الطائرة إلى أميركا.
من هنا وحتى نهاية الفيلم ستتدخل المدينة ذاتها لتعيق هذا التواصل المنشود. تصوير المدينة بزحامها وعبثها الفوضوي يؤسس أعذاراً لعدم قيام ذلك اللقاء، كما يوحي بالرغبة في الهرب منها (زينة التي تنوي الهجرة) والإحباط الذي يعاني منه من عليه البقاء فيها. هذا الأخير معبّر عنه في مشهد صغير من تلك المصنوعة لكي تبقى عالقة في البال: حيدر يسير وحيداً على شاطئ البحر، حيث يقف صياد عجوز يهيئ شباكه. لا حيدر يستطيع السفر ولا العجوز، لكن البحر الأزرق المفتوح أمام المدينة القديمة يلعب معنى شعرياً ورمزياً كبيراً. إلى الآن، فإن الحديث عن المدينة هو حديث الحرب والأوضاع الأمنية غالباً. وذلك طبيعي لأن معظم الأفلام التي تعرضّت لبيروت بقدر من العمق وكثير من الإيحاءات تعرّضت للحرب أو لتوابعها بالضرورة.
وهذا يشمل الأفلام التي تم تصويرها خلال الحرب، مثل «الملجأ» للراحل رفيق حجار (1978)، وهو فيلم انزلق من دون كثير تقدير، علماً بأنه رسم معالم المدينة وتعامل معها من خلال شخصياتها، محولاً الملجأ الذي حوى جيراناً وأغراباً إلى نموذج لحياة مهدورة في مدينة تعيش فوق خرابها. هو نفسه أخرج بعد ذلك «الانفجار» (1982)؛ فيلم مقبول أيضاً، لكن بيروت فيه جمعت أركاناً مختلفة، محيطها جامعي ولغتها مباشرة. «الملجأ» يبقى بارزاً بسبب فكرته، وسعي المخرج لتأطير الحرب في فكرة محددة المكان والشخصيات، وغير محدودة الأفكار.
لكن «حروب صغيرة» في العام ذاته طغى على فيلم «الانفجار»، إذ تميّز بمعالجة أكثر ديناميكية وحرارة وبعداً عن إيقاع النثر والحوار. الفيلم عن ثلاث شخصيات أساسية: ثريا (ثريا خوري)، فتاة اكتشفت رجلاً آخر عن ذلك الذي أحبته، وطلال (روجيه حوا)، الشاب الذي جذبته التيارات الفكرية والسياسية بعيداً عن ذاته الأولى، والذي يريد أن يشارك في الحرب الدائرة، ونبيل (نبيل إسماعيل)، وهو الإفراز النموذجي لطائفة من الذين عاشوا غمار السنوات الأخيرة بفوضاها، هو كل شيء يمكن أن يصبو إليه عقله في غمار تلك الحرب ولا يستطيع أن يحققه إلا بمثل تلك الفرص الموجودة - وإذا يفعل، فإنه لا يصل إليه إلا لكي يكتشف أن طريقه كانت محفوفة بالمخاطر، وأن النهاية قد رسمت ملامحها منذ البداية. إنها شخصيات تتلاقى وسط حر الاقتتال (قبل الغزو الإسرائيلي)، وتحاول أن تتعملق؛ تجد منفذاً في بعض الأحيان، لكنها تبقى هامشية في ثنايا الحرب الكبيرة.
مارون بغدادي يستعيد الحرب في المدينة كما كانت؛ يستخدم التفاصيل ذاتها ويرسم الأجواء نفسها. في مشهد مطاردة طلال لنبيل في شوارع بيروت المهدومة، يتذكر المشاهِد سريعاً: ركوض برونو غانز في فيلم «التزوير» الذي كان فولكور شنلدروف قد حققه في عام 1981 في الأسواق التجارية نفسها، محمّلاً بالمخاوف نفسها، تلاحقه الكاميرا بالطريقة ذاتها تقريباً. التشابه ربما ضروري أو مفروض بحكم المكان والديكورات الطبيعية. وفي الحالتين، نقل الفيلمان الصورة التحتية لمدينة منهارة بتميّز واضح.
بيروت في أفلام المخرجين الباحثين عن سحرها الخاص
حزينة... قلقة وجميلة
بيروت في أفلام المخرجين الباحثين عن سحرها الخاص
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة