ارتأى الناقد والمؤرخ السينمائي العراقي مهدي عبّاس أن يعنون كتابه الجديد الصادر عن مطبعة العدالة ببغداد تحت اسم «حكايات سينمائية عراقية» لأنه يراها كذلك. غير أنه يعتقد في الوقت ذاته أن هذه الحكايات تتضمن مجموعة كبيرة من الحقائق والمعلومات عن الأفلام العراقية التي تمّ إنجازها على مدى سبعين عاماً، وأنّ مضامين هذه الحكايات تتجاوز لذة السرد لتنفتح على محاور وأبحاث نقدية تتقصى نجومية السينمائيين العراقيين سواء أكانوا مخرجين، أم ممثلين، أم كُتّاباً، أم تقنيين. ثم تتشظى هذه الحكايات إلى ثيمات رئيسة مثل تقليد الأفلام المصرية، وتكريس النَفَس الميلودرامي، والكوميدي لاحقاً، وتبني المدرسة الواقعية، ودور بعض الشركات والمؤسسات والمراكز السينمائية المحلية التي أنتجت عدداً لا يُستهان به من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة قياساً بالمنجز السينمائي العراقي منذ بدايته عام 1946 وحتى الوقت الراهن.
يتضمن الفصل الأول، الذي يشكّل متن الكتاب برمته، 62 حكاية، بينما يقتصر الفصلان الثالث والرابع على قائمتين تضم الأولى 232 فيلماً روائياً عراقياً منجزاً منذ عام 1946 وحتى عام 2017، أما القائمة الثانية فتضم 26 فيلماً من أفلام السكرين التي أُنجزت في فترة الحصار الأميركي على العراق ومُنِع فيها تصدير «الشريط الخام» بحجة دخوله في صناعة الأسلحة الكيماوية، فصوّر المخرجون العراقيون أفلامهم على أشرطة الفيديو وعرضوها بواسطة جهاز السكرين الذي أغدق عليهم هذه التسمية.
يعتقد المؤرخ السينمائي مهدي عباس أن هناك نخبة من الفنانين العراقيين كانوا قاب قوسين أو أدنى من النجومية المحلية والعربية في الأقل لو كانت هناك سيرورة متواصلة من إنتاج الأفلام العراقية، وزخم في الأدوار الرئيسية بحيث لا يضطر النجم المكرّس لأن يقبل بأدوار ثانوية لا تضيف لرصيده الإبداعي شيئاً. ومن أبرز الفنانين الذين أبخستهم السينما العراقية حقهم مقداد عبد الرضا، وبهجت الجبوري، وغازي التكريتي الذين جسّدوا كل الشخصيات، وبرعوا في أدوار الشر على وجه التحديد لكن رصيدهم ظل يتراوح بين سبعة واثني عشر فيلماً بينما قال أوليفر ريد: «لو دخل غازي التكريتي السينما العالمية سيكون له شأن آخر» (ص57) وهذا الأمر ينسحب على الفنان جواد الشكرجي، وقائد النعماني وقد استثنينا ثلاثة فنانين لأنهم أخذوا حقهم وهم سامي قفطان الذي اشترك بـ25 فيلماً، وقاسم الملاك الذي جسّد 23 دوراً، وطعمة التميمي الذي بلغ رصيده 21 فيلماً روائياً. وهذا الأمر ينسحب على بعض الفنانات العراقيات مثل شذى سالم، وسناء عبد الرحمن وإقبال نعيم، وليلى محمد وغيرهن من الطاقات الإبداعية التي تتوارى وراء كواليس النسيان، بسبب شحة الأدوار أو توقف الإنتاج السينمائي.
يُعتبر الأتراك سبّاقين، بعد المصريين طبعاً، في التعامل مع السينما العراقية حيث أخرج لطفي عقّاد فيلمي «طاهر وزهرة» و«إرزو وقنبر» عام 1952 وقال في حينه بتواضع كبير إن الفلمين لا قيمة فنية لهما لكنهما أول تعاون سينمائي بين تركيا والعراق.
كان جمهور الخمسينات يتقبل الأفلام الميلودرامية مثل «فتنة وحسن» و«ارحموني» للمخرج حيدر العمر، ويحبذ الأفلام العراقية التي تأثرت بالسينما المصرية مثل «ابن الشرق» لإبراهيم حلمي، «ليلى في العراق» لأحمد كامل مرسي لكن طبيعة الحياة الاجتماعية الآخذة بالتطور فرضت على الجمهور أن يواكب روح العصر بحيث انسجم مع الموجة الواقعية الجديدة المتمثلة بفلمي «منْ المسؤول؟» لعبد الجبار ولي و«سعيد أفندي» لكاميران حسني و«الجابي» لجعفر علي وقد صُورت هذه الأفلام في الشوارع والأزقة الشعبية الضيقة في بغداد، وبعض المشتركين في هذه الأفلام كانوا من عامة الناس لكن السبب الحقيقي وراء الاتجاه إلى الواقعية هو عدم وجود استوديوهات تعوّض المخرجين عن النزول إلى الشوارع والساحات العامة.
يرصد مهدي عباس أربعة أفلام روائية أُنجزت بعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 وهي «إرادة شعب» لبرهان الدين جاسم، و«أنا العراق» لمحمد منير آل ياسين، و«من أجل الوطن» لفوزي الجنابي، و«فجر الحرية» لمحمد علي عبد الحكيم وهي في مجملها أفلام حماسية، تفتقر إلى الجانب الفني، وتعتمد على الأسلوب الخطابي الذي قد يتوافق مع المسرح ولكنه لا ينسجم مع الفن السابع.
تأخر ظهور المنحى الكوميدي في العراق نحو 16 عاماً ثم أخذ طريقه إلى الفيلم الروائي بدءاً من «مشروع زواج» لكاميران حسني وأفلام عبد الهادي الراوي، وخيرية المنصور وغيرهم من المخرجين العراقيين الذين أسسوا لهذا النمط السينمائي وكرسوا بعض الأسماء المهمة مثل قاسم الملاك، وإقبال نعيم، ومحمد حسين عبد الرحيم وغيرهن من الفنانين الذين يعرفهم المُشاهد العراقي عن كثب.
ثمة محور يناقش خمسة أفلام روائية تدور أحداثها في الأهوار من بينها «الباحثون» لمحمد يوسف الجنابي، و«زمان رجل القصب» لعامر علوان، و«بغداد خارج بغداد» لقاسم حوَل وكأنهم جميعاً يتعاطون مع جماليات المكان ويستنطقون كائناته البشرية التي تقتات من مائدة الطبيعة الأولى وتشرب من نبعها الأول.
أنجزت السينما العراقية عشرة أفلام روائية عن الحرب العراقية - الإيرانية بأسلوبين مختلفين، الأول الحرب والمواجهة بشكل مباشر في خمسة أفلام من بينها «الحدود الملتهبة» و«المنفذون» و«صخب البحر»، والثاني يرصد تأثير الحرب على الناس مثل «عرس عراقي» و«البيت» و«شيء من القوة».
وقد أسند بعض المخرجين مثل محمد شكري جميل دور البطولة إلى الطيار نفسه الذي سقطت طائرته المقاتلة وبذل جهداً كبيراً من أجل العودة إلى الوطن.
اختار المؤرخ مهدي عباس خمس شركات ومؤسسات عراقية عملت تباعاً على إنتاج كثير من الأفلام مثل شركة «بابل» التي أنتجت ثمانية أفلام قبل أن تتوقف نهائياً وأبرز هذه الأفلام هو «فائق يتزوج» و«حمد وحمود» الذي فشل فشلاً ذريعاً ولم يكمل أسبوعه الأول فسُحب من صالات العرض كلها، و«عمارة 13». أما المؤسسة العراقية فقد أنتجت فيلمين وهما «الظامئون» لمحمد شكري جميل الذي يعد رائعة السينما العراقية بشخصياته المدروسة التي تواجه واقعاً متخلفاً، كما تواجه الطبيعة القاسية المتمثلة بالجفاف، والقحط، وانحسار المطر. وقد فاز الفيلم بجائزة النقاد في مهرجان طشقند السينمائي عام 1973.
أما «السلاح الأسود» للمخرج نفسه فقد توقف العمل في منتصفه وقيل إن مضمون الفيلم يسيء للشخصيات الدينية التي دعت إلى مهادنة الاستعمار البريطاني.
تميزت سينما التلفزيون بأفلامها الأربعة الناجحة من بينها «اللوحة» و«البندول» اللذان يعالجان مشكلات الشباب، وتمردهم، وطموحاتهم، وعلى الرغم من نجاح هذه التجربة، فإنها لم تستمر مع الأسف الشديد.
يشيد مهدي عباس بالأخوين محمد وعطية الدراجي اللذين أسسا المركز العراقي للفيلم المستقل وعملا بشكل احترافي بعيداً السرعة والتخبط، ونظّما ورش عمل جماعية تابعت الأفلام وخلّصتها من الشوائب العالقة بها. وقد ضمّ المركز 14 مخرجاً عراقياً أبرزهم عدي رشيد، لؤي فاضل وياسر كريم. أما مصلحة السينما والمسرح فقد أنتجت ثلاثة أفلام روائية وهي «الجابي» و«شايف خير» و«جسر الأحرار» لضياء البياتي.
تنطوي هذه الحكايات على معلومات كثيرة تسلط الضوء على الأفلام الروائية خاصة، وتاريخ السينما العراقية بشكل عام. وعلى الرغم من أهمية المواقف والمعلومات والوثائق التي وردت في هذا الكتاب، فإن الالتقاطات النقدية هي التي تعزز هذا المشروع التوثيق وتضفي عليه ألقاً من نوع خاص.
حكايات سينمائية عراقية تتجاوز لذة السرد
معلومات تسلط الضوء على بداياتها وتطورها وتعثرها اللاحق
حكايات سينمائية عراقية تتجاوز لذة السرد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة