لم يتحمل «ف.ر» الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، مطالبات المواطنين له بتسديد الديون المتراكمة عليه، فقرر قبل أسبوع إنهاء حياته بإغلاق محل يمتلكه في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة وربط حبل بسقف محله ليشنق نفسه. انتحر، كما يقول معارف له؛ للتخلص كما يبدو من الضغوط النفسية الكبيرة التي كان يتعرض لها في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وحياة مأساوية كان يعيشها.
كان «ف.ر» يملك محلاً للحدادة والألمنيوم يعمل فيه منذ سنوات، وكان بحالة مادية ممتازة قبل أن تتدهور ظروفه الاقتصادية نتيجة الوضع العام في غزة وتراجع الطلب على عمله، حتى أصبح ما يجنيه من مال مقابل عمله أقل بكثير مما يحتاج إليه لتأمين احتياجات ومتطلبات منزله الكثيرة؛ ما دفعه إلى الاستدانة وبمبالغ كبيرة حتى تراكمت عليه الديون ولم ير مجالاً للتخلص منها سوى الانتحار.
وبحسب إحصاءات حصلت عليها «الشرق الأوسط» من جهات طبية وأمنية فلسطينية في غزة، فقد سُجّلت منذ بداية العام الحالي خمس حالات انتحار، إحداها لسيدة. ومنذ بداية أغسطس (آب) الحالي، سُجّلت حالتا انتحار، إحداها للشخص المشار إليه سابقاً (ف.ر) والثانية لطفل يبلغ من العمر 13 عاماً. وتأتي هذه الحالات الجديدة بعدما سُجّلت في العام الماضي (2016) 17 حالة انتحار و80 محاولة انتحار في غزة، بالمقارنة مع 5 حالات سُجّلت عام 2015 و35 محاولة انتحار في العام ذاته.
ووفق الإحصاءات ذاتها، تُسجل حالات محاولة انتحار في شكل شبه يومي بين سكان القطاع الذين يعانون ارتفاعاً في حالات الاكتئاب نتيجة الظروف الصعبة التي يعيشونها. وغالبية هذه الحالات تتم عبر محاولة شخص ما حرق نفسه، أو الشنق، أو استخدام كميات كبيرة من الأدوية بمختلف أنواعها.
ويقول الشاب «خالد.غ» البالغ من العمر 27 عاماً ويقطن في حي النمساوي غرب خانيونس، إنه بدأ أخيراً رحلات علاج نفسي لدى أحد الأطباء المختصين بعد محاولته الانتحار مرتين، الأولى في يونيو (حزيران) من العام الماضي والثانية في أبريل (نيسان) من العام الحالي. وتناول في محاولة الانتحار الأولى مادة سامة كادت أن تقضي على حياته، لكن تم إنقاذه بصعوبة، في حين تناول في المرة الثانية كميات كبيرة من الأدوية، إلا أن الأطباء نجحوا في إنقاذ حياته مرة أخرى، ليعود إلى حياته بشكل طبيعي بعد أيام من تلك المحاولة الأخيرة. ويُرجع خالد محاولاته إنهاء حياته إلى الظروف الصعبة التي يعيشها منذ سنوات. وأشار إلى أنه اقترب من عامه الـ28 دون أن يستطيع الحصول على فرصة عمل ثابتة يستطيع من خلالها بناء مستقبله، مضيفاً أنه لم يتزوج حتى الآن، ولا يوجد أي أفق أو طريق واضحة أمامه للزواج، أو بناء حياته في الوقت القريب.
وتعيش عائلة «خالد» في منزل متهالك لا يصلح للعيش الآدمي، حيث يتكون المنزل من مساحة تقل عن 70 متراً. ويشير خالد إلى أن الحياة ضاقت به ولم يعد قادراً على تحمل أعبائها، وبخاصة أنه يُعتبر المعيل الوحيد لعائلته المكونة من 6 أفراد هو أكبرهم. ويقول خالد لـ«الشرق الأوسط» إن ما دفعه إلى محاولة الانتحار ليس أسباباً شخصية في ذاته مثل عدم قدرته على الزواج وبناء عائلة مثل بقية الشبان الآخرين، بل إن ما دفعه إلى ذلك عدم قدرته على توفير احتياجات عائلته، وتراجع حالتهم الاقتصادية المزرية في ظل تدهور الأوضاع العامة في قطاع غزة.
ويأمل خالد، كما الآلاف من سكان قطاع غزة الذين يعيشون في ظروف حياتية قاسية، في تحسن الأوضاع وفتح الآفاق أمامهم للعمل وتحسين حياتهم أملاً في بناء مستقبل واعد. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل الظروف السياسية الحالية التي تنعكس في شكل مباشر على الواقع الاقتصادي والحياتي في غزة.
وتوضح إحصاءات أعدتها مؤسسات مختصة أن أكثر من 55 في المائة من عائلات قطاع غزة تعيش تحت خط الفقر الشديد. وتواجه 73 في المائة من العائلات في غزة ارتفاعاً في حوادث العنف الاجتماعي، بحسب ما تكشف هذه الإحصاءات.
ويربط مراقبون حالات الانتحار والتفكير بمحاولة الانتحار بالواقع الاقتصادي الصعب وانتشار البطالة وارتفاع نسب الفقر المدقع في المجتمع الغزي، ما يزيد من حالة الاكتئاب في صفوف المواطنين ويدفع بعضهم للتخلّص من حياته. وشهدت نسب البطالة في القطاع ارتفاعاً كبيراً وصل إلى ما يزيد على 60 في المائة.
وأفاد إحصاء صدر عن المرصد الأورو - متوسطي بداية العام الحالي، بأن 55 في المائة من سكان القطاع يعانون من الاكتئاب، وأن 50 في المائة من أطفال غزة في حاجة إلى دعم نفسي، في حين أشار إحصاء لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» إلى أن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في غزة، والبالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية، مشيراً إلى أن الحصار المفروض على القطاع لا يؤثر فقط في النواحي البدنية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، لكن يعرّضهم أيضاً لمستويات عالية من الضغط النفسي والاجتماعي. وفعّلت «الأونروا» مؤخرا 21 مركزاً تابعاً للوكالة لاستقبال اللاجئين الذين ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية في القطاع، وبدأت بتشغيل 31 مشروعاً تجريبياً من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن خدمات الرعاية الصحية. وترى الجهات الأمنية في غزة، أن معدلات الجريمة وحتى محاولات الانتحار طبيعية ولا يوجد فيها أي خطر حقيقي على اعتبار أن الدول الأخرى تسجّل حالات أكثر، في حين تعتبر مراكز حقوقية ما يجري خطيراً كونه يعكس الواقع المأسوي في قطاع غزة. ويقول الدكتور فضل عاشور، اختصاصي الطب النفسي والعصبي في كلية الطب بجامعة الأزهر بغزة: إن الانتحار سمة إنسانية يختارها الشخص بشكل طوعي بعد اضطراب عقلي ناتج من حالة من الاكتئاب جراء التفكير بأنه يعتبر أن لا معنى لحياته، وأنه لا بد من إنهائها. ويوضح، أن الانتحار يمر بثلاثة مراحل، أولها التفكير في الانتحار، وهذا قد يدوم أو يقصر زمنياً، وثانيها وضع خطة لكيفية الانتحار إما حرقاً أو شنقاً أو بطريقة أخرى، والمرحلة الأخيرة تتمثل في التنفيذ و«قلائل هم الذين يصلون إلى هذه المرحلة على رغم وجود كم كبير جداً ممن يفكرون بالانتحار ولديهم الخطة لذلك، لكنهم لا يصلون إلى مرحلة التطبيق، وإن وصل بعضهم إلى التطبيق فإنهم لا ينجحون جمعيهم في ذلك».
ولفت عاشور في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الغالبية العظمى من شباب غزة، وبخاصة جيل ما بين 20 إلى 35 سنة ممن حرموا من كل شيء، سواء العمل أو الزواج وعدم وفرة المال ووجود فراغ هائل في حياتهم، هم أكثر المرشحين للانتحار في ظل الأوضاع الحياتية الصعبة وانغلاق الأفق، وبخاصة أن الأزمات الحالية باتت تصيب كل فرد بالمجتمع وليس فقط الوضع السياسي والاقتصادي العام.
واعتبر أن الحصار المشدد على القطاع والحروب والوضع الاقتصادي وانعدام الأمل منذ سنوات، جميعها أسباب «قتلت الأمل في صفوف الغزيين»، ولا سيما الشباب منهم، و«أفشلت كل أمل ممكن بعد تجارب مخادعة بوجود انفراجات». وقال: إن الواقع الحالي لا يمكن أن يتغيّر سوى من خلال تغيير الواقع السياسي الذي يؤثر اقتصاديا وحياتياً على المجتمع.
الظروف الصعبة في غزة ترفع معدلات الاكتئاب... والتفكير بالانتحار
الظروف الصعبة في غزة ترفع معدلات الاكتئاب... والتفكير بالانتحار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة