يذكر التاريخ أسماء زعماء ورؤساء تركوا بصمة في السياسة الداخلية والخارجية لدولهم، بخطاباتهم الموجّهة مباشرة إلى الشّعب، حينها كانت وسائل الإعلام التقليدي، من جرائد وإذاعة وتليفزيون، تلعب دور الوسيط الأساسي والأوحد لإيصال كلماتهم إلى الجمهور، ومنهم سلسلة ممن سكنوا البيت الأبيض وتوالوا على منصب الرئاسة. وهنا يكمن وجه الاختلاف بين الرئيس العصري ترمب ومن سبقه على حكم الولايات المتحدة.
لم يكن تواصل ترمب المباشر مع الشعب، الأول في تاريخ الرؤساء الأميركيين، بيد أن النهج الذي حذاه كان مختلفا وخارجا عن التقليد. فمنذ أكثر من ثمانية عقود، استطاع فرانكلين روزفلت، خلال فترتي رئاسته، (1933 إلى 1944)، التقرب من الشعب بأول تجربة تواصل مباشر، شهدها البيت الأبيض، متحدثا عبر أثير الإذاعة، مع الملايين من الأميركيين، متناولا أزمة المصارف وتردّي الوضع الاقتصادي في البلاد، والركود، ومسار الحرب العالمية الثانية، حينها وُصفت تجربته هذه بالثورة في منصة وسائل الإعلام الوليدة، ليكون بذلك، أول شخصية سياسية أميركية تستخدم أسلوب التواصل المباشر مع الشعب، بعيدا عن بروتوكولات السياسة، واستطاع بقدرته الخطابية أن يؤثر فيهم، ويلطّف من أجواء التوتر التي كانت تمرّ بها البلاد، فكسب احترامهم وحبّهم، وبقيت مكانته عالية في عيونهم طيلة فترة رئاسته، وقد وصلت خطاباته إلى بيوت الأغلبية الساحقة من الشعب، خصوصا أنّ جهاز الراديو في فترة الثلاثينات كان متوفراً لدى نحو 90 في المائة من الأسر الأميركية.
في وقت مبكّر من عام 1952، بدأ التلميح إلى سلطة التلفزيون الأداة الإعلامية الأحدث في ذلك الوقت، وارتباطه الوثيق في السباق الرئاسي. فقد استطاع الجمهوري، دوايت د. أيزنهاور، في المؤتمر الوطني الجمهوري الذي بثّ عبر شاشة التلفزيون، أن يفوز بترشيح الحزب في وجه السيناتور روبرت تافت؛ وهذا ما أكده المستشارون الإعلاميون، الذين قالوا إنّ التلفزيون كان سببا مهما في فوزه في السباق الرئاسي، وكيف أثّرت شخصية آيزنهاور ومظهره الذي بدا محبّبا على الشاشة للمشاهدين والناخبين. طبعا لم يكن هذا هو السبب الأساس لفوزه، وإنما كان سببا مهما. قد تبدو هذه الملاحظات نظريات تجميلية عن التلفزيون والسياسة، ولكن من لم يوافق عليها حينها، لم يستطع إسقاطها.
واستمر البيت الأبيض بالإفادة من هذا التطور الثوري في وسائل الإعلام، ليصبح تقليداً سار على نهجه جميع المرشحين لمنصب الرئاسة، وليكون أول من كرّس التلفزيون لخدمتهم وتواصلهم المباشر مع الناخبين، وتحديداً في 26 سبتمبر (أيلول) 1960، حين جرت أول مناظرة نقلت عبر شاشاته ليتمكن الأميركيون من التعرف على المرشحين وبرامجهم الرئاسية، بين الديمقراطي جون كيندي ومنافسه الجمهوري ريتشارد نيكسون التي شاهدها نحو 60 مليون مواطن، وكيف ساهمت في فوز كيندي، على خصمه نيكسون، الذي ظهر التعرق باديا على وجهه.
كما ساهم الإعلام التقليدي بفوز الرئيس السابق باراك أوباما، وبدأت حملات الترويج له منذ أن أعلن ترشّحه للانتخابات إلى أن وصل إلى سدّة الرئاسة. جدير ذكره أنّ أوباما قبل ترمب، استخدم وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّه لم يشنّ هجمة على الإعلام التقليدي ولم يجعل منها منصة خاصة ووحيدة للتواصل مع الأميركيين من خلالها.
هل تؤسّس تغريدات ترمب لـ«سلطة خامسة»؟
خلافا لمن سبقه من الرؤساء الأميركيين، تجاوز الرئيس دونالد ترمب السلطة الرّابعة، وأصبح باستخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي، صانع الخبر وكاتبه وناشره، فارضا نفسه ليس بصفته رئيسا لدولة عظمى ولاعبا أساسيا في الساحة السياسية العالمية وحسب، بل منافسا مهمّا لوسائل الإعلام التقليدي التي طالما وصف ما تنقله من أنباء بأنّها «كاذبة».
وبعد أن كان الصحافيون والإعلاميون سبّاقين في نقل خطابات رؤساء الدول والسّاسة العالميين، باتوا في عهد الرئيس العصري، يترقّبون تغريداته عبر موقعه الشّخصي على «تويتر»، الذي من خلاله فضّل في فترة السّباق الرّئاسي، التّواصل المباشر مع الناخبين، فخرج عن المعهود وكان أول رئيس يستخدم حسابه الشخصي، ليكرّس أسلوباً جديداً للتواصل معهم. وانطلاقاً من قناعته بقوة تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي وتفوّقها على الأموال التي تُنفق في الحملات الانتخابية، ركّز على التواصل المباشر مع الشعب الأميركي، مؤكداً في حديث له بعد فوزه بالمنصب، أجرته معه ليزلي ستال مقدمة برنامج (60 دقيقة) قائلاً، إنّه استمدّ قوته من أعداد المتابعين له على «تويتر» (تخطى عددهم اليوم 34 مليون متابع)، ويعتقد أنّ هذا التواصل، ساعده على الفوز بجميع السّباقات إلى الكرسي الرئاسي.
فهل أسّست تغريدات الرئيس ترمب لـ«سلطة خامسة» في وجه الإعلام التقليدي؟
قال الدكتور أحمد الفراج الأكاديمي والكاتب السعودي رداً على سؤال «الشرق الأوسط»: «إنّ علاقة الرئيس ترمب مع الإعلام كانت متوتّرة حتى قبل أن يفوز بالرئاسة، لذلك فهو حتى أثناء الحملات الانتخابية اعتمد على اللقاءات المباشرة بأنصاره وعلى وسائل التواصل الاجتماعي عبر حسابه على «تويتر»، ولم يعتمد أبداً على الإعلام التقليدي الذي اعتبر أنّه خصما له، ولدى فوزه بالرئاسة استمرّ في استخدامها، لأن الإعلام التقليدي أكمل هجومه عليه، فترمب من خارج المؤسسة الرسمية أو إن صحّ التعبير، الإعلام الأميركي التقليدي هو ممثّل للدولة العميقة التي هي خصم شرس لترمب.
وأضاف الفراج: «ترمب فاز بالرئاسة رغما عن الجميع، لأن من أوصله هي قاعدته الشعبية، تحديداً المحافظين الأميركيين البيض الذين فقدوا الثقة بالمؤسسة الرسميّة الأميركية وفقدوا الثقة بالدّولة العميقة، وبالتالي هم مع ترمب مهما حدث ومهما فعل حتى اليوم، وترمب يعرف أنّ قاعدته الشعبية الصّلبة ستظل معه، فأعلن خصومته للإعلام التقليدي».
اعتبر الفراج أنّ الإجابة على سؤال، هل النهج الذي نهجه ترمب سيلغي سطوة الإعلام الأميركي التقليدي، صعبة جداً، لأن الإعلام الأميركي التقليدي قوي جداً، ولا يزال يسبّب المشكلات لترمب. ويظهر ذلك جلياً في قضية التّدخل الروسي، فلا يزال الإعلام الأميركي التقليدي، يعمل على هذا الملف وغيره من الملفات، في محاولات مستميتة لإفشال ترمب.
واستطرد الفراج أنّ السّنة التي سنّها ترمب في محاولة إلغاء دور الإعلام التقليدي أو الاعتماد عليه، قائلاً: «إن صحّ هذا التعبير، فمن المبكّر جداً أن نقول ذلك، لأن الإعلام الأميركي التقليدي قوي جداً، سواء صحفه العالمية مثل (نيويورك تايمز) و(واشنطن بوست) أو قنوات التلفزة، مثل (سي إن إن) و(إم بي سي)، و(إي بي سي) و(سي بي إس) وغيرها، ربما قد يخف تأثير الإعلام التقليدي وربما لا، فإن جاء سياسي مستقبلا، مثل ترمب اعتمد على القاعدة الشعبية وعلى وسائل التواصل، وكانت أطروحاته ضدّ الدولة العميقة، فربما سيستمر هذا الأمر؛ لكن إن جاء بعد ترمب أو ترشّح للرئاسة سياسي تقليدي تابع للمؤسسة التقليدية الأميركية وتابع للدولة العميقة سيصبح ما فعله شيئا من التاريخ وستعود السيطرة أو تحديد من يحكم أميركا للإعلام التقليدي مرّة أخرى، هذا لا يعني إنكار دور الإعلام الجديد الذي استخدمه أوباما، لكنّ الموضوع مختلف هنا، فالإعلام الأميركي التقليدي صلب وقوي وتدعمه الدولة العميقة وسيظل صاحب تأثير قوي ولا يزال يشكّل خطراً على ترمب ولا بدّ من الاعتراف بذلك، لا يعني أن ترمب أعلن حربا على الإعلام التقليدي أنّ هذا الإعلام لن يضرّ به». موضحاً كيف أنّ الإعلام التقليدي الأميركي يقود حرباً شرسة جداً ضدّ ترمب، وقد ينجح في الإطاحة به في عدم انتخابه لفترة رئاسية ثانية.
وختم الفراج حديثه، بأنّ ترمب اختار المواجهة، بيد أنه كسياسي كان الأمر أولى به، أن يدرك سطوة الإعلام الأميركي التقليدي، وأن يحاول مهادنته، إلى جانب استخدامه الخاص لوسائل التواصل الاجتماعي. لكنّه اختار أن يتجاهله وأن يواجه الحرب بحرب. مؤكداً على قوّة الإعلام الأميركي، وقد لا ينجح أي سياسي في ذلك، وقد يدرك ترمب لاحقا أنّ حربه ضدّ الإعلام التقليدي خاسرة، ليبدأ هدنة معه.
لافت أنّ جميع الرؤساء الأميركيين، من روزفلت وآيزنهاور إلى أوباما، كانوا يتمتعون بشعبية واسعة في الشارع الأميركي وكانوا يتواصلون باستمرار مع المواطنين بواسطة الإذاعة والتلفزيون. وعلى الرغم من ذلك بقي جميع الرؤساء رهن الآليات الإعلامية لذلك الزمن (الراديو والتليفزيون) وإلى يومنا هذا، فيما أتاح التقدّم التكنولوجي للرئيس ترمب أن يضرب عرض الحائط بالمؤسسات الإعلامية ويطرق أبواب المستمعين من دون استئذان أحد.