يعكس عبد اللطيف حسيني في كتابه «ظلال الاسم الجريح - نصوص»، الصادر عن «برجاف للإعلام والحريات» بعد عدد من الأعمال الإبداعية والسردية في سيرته الإبداعية، حالة شعرية ذات خصوصية لافتة في تقديرنا، على أكثر من مستوى؛ فهي تنزع إلى تناول تفاصيل اللحظة، بما يكاد يقترب من التوثيق، ليتماهى السرد العالي بالشعري، بينما ينصرف هو إلى رصد تلك التفاصيل التي يخلق من خلالها معادلاً موازياً للواقع.
عبر مجموعته الجديدة هذه، التي تقع في سبعة وخمسين صفحة من القطع الصغير، لا يخرج الشاعر من ذلك العالم الذي طالما استأثره، والذي يمكن استقراؤه من خلال عناوين إصداراته السابقة على مجموعته الجديدة، حيث تتكرر كلمة «المدينة» في سياق المفرد أو الجمع، كما أن اسم مدينته عامودا نفسه يرد أكثر من مرة، وإن حاول أن يخرج عبر هذه المجموعة من سطوة هاتين المفردتين، إلا أنه لا يفلح.
هذه المقدمة تحيلنا إلى علاقة الناصّ بالمكان، ليس المكان الجغرافي المجرد، وإنما الفني. إذ سيمتحه من خلال كائنه/ الناص ذاته، ومحيطه، وهو ما يبدو في مجموعته الأخيرة نفسها، حتى وإن لم يبد اسمُ المدينة العَلمي أو الوصفيُّ، في عنوانها، غير أن نصوص المجموعة برمتها لا تفتأ تدور في فضاءات انشغالاته ذاتها، وهي على مفترق الخطِّ الزمني نائسة ما بين مرحلتين: مرحلة ما قبل الثورة السورية، وما بعدها.
قبل كل شيء، لا بد من الإشارة إلى أن الحسيني لم يصنف مجموعته الجديدة على أنها «شعر» بل دون مفردة «نصوص» تحت العنوان الرئيسي، مباشرة، ليس على صفحة الغلاف الأول، وإنما على الصفحة الداخلية التي ورد فيها العنوان لأول مرة، أي الصفحة الثالثة، وفي هذا ما يبين وعيه بطبيعة نصه، حيث تنتمي نصوص المجموعة إلى ذلك النمط الكتابي الجديد الذي عُوِّلَ عليه بأكثر - لا سيما بعيد ثورات ربيع المنطقة التي كان منتظراً منها أن تؤسس لنص جديد، مختلف، وهو ما تحقق المجموعة أكثر شروطه، إذ تمحي الحدود بين أكثر من شكل أدبي، ليكون هناك نص وفي لذاته ولشرطه الداخلي، وفيّ لرؤية صاحبه، فتشكيل النص يأتي أقرب إلى بنية النص المفتوح، بل إنه في العمق الفني لهذا الشكل النصي حيث يتجاور، ويتداخل السرد والشعر، على حد سواء، كما أننا نجد بعض المسرح، أو حتى الرسم، وفراسة العين السينمائية المتحركة على محيط دائري لا متناهٍ: «إنه تسونامي: فلا تغلقوا الأبواب والثغور التي ستسوى بالأرض».
يلاحظ قارئ نصوص المجموعة أن هناك حضوراً مكانياً لافتاً على امتداد شريطها اللغوي، غير أن هذا المكان يتعدى البعد الجغرافي إلى ما هو فني صرف، وهو يظهر في أشكال كثيرة، حيث المكان يعد بطل الظلال الجريحة الرئيسيّ، كما أن المكان المتناول، ليس جامداً البتة، لا سيما أن الناص نفسه يراه وقد تغير هو الآخر، بعد طوال سبات التبس بالجمود، لذلك فإنه سرعان ما يطلق صرخته المدوية، قارئاً تفاصيل اللوحة المكانية الجديدة، ليكون لسان حالها، أو الناطق الشعري باسمها، كشاهد على التحولات المحلوم بها من قبله طويلاً: «دون عهد أو تخمين بات الكائن الجديد يبني ذاته الخلاّقة على أسس تجب ما انكسر فيه أو ضاع بين سنواته التي أمضاها على نمط، أقل ما فيه الخسة والدناءة التي باتت لا وجود لها في الحياة الجديدة التي تتطلب ترقيقاً في التعامل والحديث، تلك صفات نلمسها ونتقراها على الوجوه، وتصرخ بها الأفواه التي غادرتها صفاقة وغدر سنوات..» (ص35).
في المقطع السابق اختصار لفضاءات مدونة تمتد بين تاريخين أحدهما رهن الطيِّ، وآخر رهن البدء، غير أن هذا البدء وذاك الطي مؤجلان، غير محققين بعد، وهو ما ينقص من جدوى مدونة التحول هذه، التحول الذي طالما رهن الشعر الحق ذاته له، في مشروعه، كبؤرة، عميقة، بكل تناقضاتها، من خلال رصد حياة مدينة، قرأ من خلال وجهها تفاصيل ملامحه الشخصية، كشاهد، في مرايا الأمس، واللحظة، والغد، لكي يكون الناطق الشعري لتلك التحولات التي طرأت على المكان برمته!
«أنت منذ الآن غيرك. فلا تحاول الاختباء، فذاك زمن ولى عهده بل انقرض» (ص 36).
لا يمكن النظر إلى مجموعة حسيني الأخيرة هذه، إلا من خلال قراءتها ضمن مستويين: أولهما استمرارها ضمن مشروعه الإبداعي نفسه، وثانيهما إدراجها ضمن ما كتب في فضاء الثورة السورية، وتحديداً من خلال موقعه كمتحمس انخرط في لجة هذا الحدث الذي طالما حلم به، ورسم معاناة إنسانه ومكانه، على أمل الخلاص مما هو فيه، باعتباره أحد الذين عانوا في ما قبل، وما بعد، بل وخلال لحظة الثورة ذاتها، كما تعكس ذلك نصوص مجموعته، وإن كان الناص هنا المفرد بصيغة الجمع:«هكذا أسمي كتاب حياتي حين أفتحه فلا أجد فيه إلا هامشاً من الضياع يسلمني إلى سنوات الضياع. كل ساعة فيها تستفزني وتسألني غابات من الأسئلة، وعلي أن أجيبها دفعة واحدة: كيف عشت، بل لِمَ عشت، ولم تصرخ، ولم خبأت صراخك في نفسك الأمارة بالكبت؟».
«وهكذا لن تجيب مرآة حياتي إلا بتحليل جثة المخضرم الميت - الحي الذي عاش في موته حياً، وميتاً في حياته» (ص52).
إن مجموعة الحسيني الأخيرة على الرغم من قصر شريطها اللغوي، فإنها تعد، في الحقيقة، أحد النتاجات اللافتة التي تناولت الكائن والمكان، ليس من خلال لحظة التفاعل مع حدث الثورة، منقطعة عن سياقها، شأن أبعاضهم ممن تعاملوا معها كمجرد مغامرة، سياحية عابرة، وإنما من خلال اعتبارها امتداداً لرؤيةٍ مؤسس لها فيما قبل صدمة هذا الحدث، ومن هنا، تتجسد أهميتها، واستثنائيتها، على عكس تجارب سواه، من هؤلاء الذين وجدوا في الحدث عينه معبراً جديداً إلى ذواتهم: «أنا الميت الذي لا يبكي عليه أحد. أنا القبر الذي يمر به الكثيرون ويركلونه دون ندم. في العرض المسرحي أنا المهرج طوال العرض. وأنا المقتول في بدايته» (ص15).
الشاعر في المكان... والكائن
«ظلال الاسم الجريح» للحسيني نصوص تدور في فضاء الثورة السورية
الشاعر في المكان... والكائن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة