تهيمن الحرب بكل تداعياتها وأهوالها الكارثية على فضاء ديوان «لا وردة للحرب» للشاعرة أمل جمال، الصادر حديثاً عن دار «بتانة» للنشر بالقاهرة... فبعين طفلة مسكونة بالخوف والوجع والصراخ تكتب الشاعرة عن الحرب، وتسائلها بلغة شعرية سلسة بسيطة، وبوعي مباشر، نابع من أعماق القلب والروح، بل تحولها إلى ما يشبه المرثية الحارة اللاعجة للوجود الإنساني، سواء في معايشته لواقعه الراهن، أو في تطلعه لمستقبل غامض، مشوش الملامح والرؤى والمعنى.
تنفتح قصائد الديوان على مشهد الحرب بطاقة البراءة المغتالة، في داخل البشر والطبيعة والعناصر والأشياء، وتتناثر بشاعة هذا المشهد في كل تفاصيل الحياة: في الميدان، والشارع، والمقهى، والبيت، والسوق، بل يمتد إلى عالم الطفولة والأحلام والذكريات... فالحرب لا وقت لها ولا زمن، لا وردة، ولا مغفرة، تطلع من برك الدم وأشلاء القتلى. الحرب ليست معطياً سيكولوجياً أو تاريخياً فحسب، على فساد واختلال القيم والمعايير في هذا العالم الذي نعيشه، إنها لحظة فارقة بين الوجود والعدم، بين أن نكون أو لا نكون.
تعي الشاعرة هذه الحقيقة، وتدفع بنصوصها في الديوان إلى الذهاب أبعد فيما وراء الخراب والدمار والقتل والدماء، فما تخلفه الحرب من مآسٍ وكوارث، ليس وجوداً افتراضياً من صنع الخيال، إنه واقع معاش بالفعل والقوة معاً، يتجسد كهم شخصي وعام، في أبسط وأدق تفاصيل الحياة، مدركة أن الحرب نقيض الشعر، لا تعرف الضعف الإنساني، لا تمجده ولا تحتفي به مثلما يفعل الشعر، بل تحتقره وتزدريه، تستغله وتتواطأ ضده، لتربح جوعها في نهاية المطاف.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا في هذا الفضاء الدامي: من أين تبدأ حرب الشاعر وكيف تنتهي، وهو الكائن الأعزل، لا أسلحة له سوى لغة، كل ما يطمح أن تحفظ له توازنه في فراغات الوعي بوجوده، وواقعه اليومي اللاهث الضاغط، ناهيك بغد ومستقبل، أصبحت أجوبته وأسئلته مكرورة ومعادة بشكل رتيب.
ببساطة شديدة تجسد الشاعرة هذه الاشتباك المعقد بين وعي الذات في مشهد حياتها اليومي المألوف، ووعي الحرب أيضاً في مشهد خبزها الذي لا ينتهي من الخراب والدمار والقتل، فيما تبدو مسافة الوعي بين المشهدين شاسعة وغامضة وملتبسة، أشبة بسلسلة معقدة من الحلقات والدوائر... تجسد الشاعرة ملامح هذا الاشتباك في قصيدة «صلاة للخوف» التي تستهل بها الديوان، وتقول فيها:
«أنا من مساكين هذا الوطن
دونما أقنعة أو ثقافات أمضي
وأسير هكذا في الشوارع
على بائعي الخضراوات أعرِّج
ومع بائعي السمك
أناقش حظر التجول
وأعداد القتلى
وثمن الطماطم.
أترك نفسي صخرةً
تضربها الريح
وفي الليل أبكي
أتأمل أطفالي النائمين
في حدائق أحلامهم
فتخرجَ أسئلة من مكمنها
تنظر للخارطة التي تتشطّى
وتنظر للغد والتاريخ
وللصحراء الزاحفة علينا بتوحشها
وأخافُ
ككل المساكين
أخاف».
على عكس مشهد الحرب الذي يرتبط بفعل الموت كطارد للحياة، ومستلب لكل ما تحمله من قيم الأمان والعدل والجمال، يبدو فعل الخوف في نصوص الديوان، وكأنه محاولة لحماية الذات وتربصها بنفسها، وهي حماية مزدوجة فنياً وشعورياً في فعاليتها ورمزيتها الفنية، في طياتها فكرة الخوف من الشيء، وفي الوقت نفسه الخوف عليه ومنه وضده معاً.
تحاول الذات الشاعرة على مدار قصائد الديوان أن تبدد هذه الخوف أو على الأقل تتعايش معه، وتتأمله كغريزة طبيعية، لا تنفصل عن مشاعرها وانفعالاتها وهواجسها، عن مشهد الحرب، ومشهد الحياة من حولها. كل ما ترجوه ألا تهتز قناعتها بأحلامها في عالم عادل وسويّ، أن تصمد القصيدة بإغراءاتها الرخوة الدافقة في مواجهة الزمن والموت... لكن كيف يتأتي لها ذلك في فضاء خانق، لا رهان فيه على شيء، سوى الخسران؟ فلا بأس إذن من أن تغني للموت، تسلبه عنصر المباغتة والمفاجئة، بالقدرة - أو على الأقل تفسد راميتها المفجعة، تتعاطى معه كمجرد سلوك عادي يكرر نفسه برتابة وملل يثيران الشفقة والاشمئزاز معاً... تقول الشاعرة في أغنيتها للموت:
«أنا حزينة حتى الموت يا إلهي
لكن الموت مشغول عني بالزنازين
وثلاجات الموتى.
الموت يجلس على رؤوسهم ويبكي
حتى تأتي أمهاتهم
فيتركهم لمالك الدمع والصرخات
ويجري لملاقاة دماء جديدة
وجثث ساخنةٍ
تنمو عليها أحلامهم الغضة
وقبلات الحبيبة التي انطفأت».
هذه المعايشة الهادئة الرشيقة لفعل الموت، التي تصل إلى حد الخجل منه والتعاطف معه، تضمر في طياتها حسّاً عفوياً بفلسفة البداهة، التي تُعنى بالنظر إلى الأشياء في بساطتها وتلقائيتها، وتراثها الشعبي، بعيداً عن المحمولات الفكرية الثقيلة والمعقدة للقضايا والأفكار. ومن ثم، فالموت يظل مجرد غلالة وقشرة، لفعل رخو أشبه بالكأس الفارغة، تنتظر من يملأها، بصرف النظر عن طبيعة العلاقة بين الكأس وما تحتويه.
بهذه الروح من الندية تواجه الذات الشاعرة الموت وتخاطبه وكأنه طفل في النص نقسه قائلة:
«أيها الموت
يا بطل التراجيديا
كم من الرصاصات تحتاج لتهدأ
في حضن التاريخ
وترتاح؟»
وفي بعض النصوص الأخرى تكثف الشاعرة من زخم مواجهتها لهذه اللحظة الكابوسية، باستخدام السخرية ونظائرها المشبوبة بالمزاح وروح المرح والفكاهة، في تنويع زوايا المشهد، وبناء مشهدية جديدة، مشغولة بالهم الإنساني، ومغسولة به إلى حد التماهي، ففي لطشات واخزة تشبه ضربات الفرشاة المرتجلة على مسطح اللوحة، تنداح السخرية من الحرب، من الموت، من الزمن، بل من الشعر نفسه، ويصل الأمر إلى حد ممازحة الموت، فتعامله الشاعرة ضيفاً وعابر سبيل، تقدم له الطعام والشاي، وتشفق عليه وهو يتعرّق ويبكي من كثرة أعداد القتلى: يطالعنا كل هذا في نص رائق من نصوص الديوان بعنوان «قالت البنت» تقول فيه:
«لا وردةً أضعها على جبيني
هذا الصباح لينزل الندى
على الحرب فيطفئها
لا قلب يشرق من قنبلة.
أنا يتيمة يا ربُّ
ودموعي لم تعد تضيء
فكيف أعبر إلى الضوء
وحدي؟
أيها الموت تفضل ها هنا
لستَ غريباً على عائلتي
أيها الموت استرح
سأصنع لك شاياً
وأفتح لك التلفزيون
وأصمتُ
حتى تنتهي الحربُ
من ترتيب قوائمها الجديدة».
إن هذه التداعيات الملتهبة، المحاصرَة بمخاطر الموت والحرب، كثيراً ما تتحول في الديوان، إلى محاولة لخرق جدران العالم الصماء الصلدة الزائفة، فالرغبة في الرقص التي تكشف عنها الذات الشاعرة في أحد النصوص بعنوان «رقص»، سرعان ما تتجاوز كونها ومضة هوس ساخرة، لتصبح حالة وموقفاً شعريين، ضد أحد أنظمة العالم، التي تتستر تحت أقنعتها الحربُ نفسها.
يبرز هذا على نحو لافت في قصيدة «سيدتي العولمة» وهي أحد النصوص اللافتة بالديوان، حيث تتحول السخرية إلى معول شعري شفيف للهدم والبناء معاً:
«من فضلك يا سيدتي
أيتها العولمة الفاضلة
لا حاجة أن تجرحي رهافتك
بياسمينة قتلها الفرارُ من البراميل المتفجرة
أو ترهقي عيونك في عد الغارقين
الهاربين في قوارب
ولا تجهدي عقلك في تتبع أثر الدماء
من فضلك يا سيدتي
لا تفسدي ليلتك
ونامي قليلاً».
فهكذا، تلملم الشاعرة «جراح الأمس واليوم والغد» في سلة الحرب، تحملها على كتفيها وتنادي وسط الخراب والدماء، في هذه الديوان الشيق المتميز:
«أنا بائعة الروبابيكيا
أجمع ضحكات الأطفال المكسورة
ألعابهم نصف المحترقة
وبكاءهم الطويل
أنا بائعة الروبابيكيا
لا أبواب أطرقها في مدن الموت
فمن يشتري من أجلهم حياة؟!».
أمل جمال تطارد الحرب في ديوانها الجديد
بلغة شعرية بسيطة
أمل جمال تطارد الحرب في ديوانها الجديد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة