بإمكاننا تقديم بانوراما كاملة متكاملة عن هذه الحركات التي ازدهرت مؤخراً في مختلف مناطق العالم: من الولايات المتحدة، إلى أوروبا، إلى العالم العربي والإسلامي، إلى العالم الهندوسي، إلخ.. فنحن نلاحظ ذات الموضوعات المشتركة لدى مختلف الأصوليين: كالموقف السلبي جداً من المرأة، ومعاداة العالم الحديث بكل قيمه العقلانية الليبرالية المتسامحة، وكذلك ميلهم إلى العنف لفرض أفكارهم على الناس بالقوة لا بالحجة والإقناع، هذا بالإضافة إلى إشعالهم للحروب الأهلية، وكذلك حرب الحضارات بين الشرق والغرب، إلخ... والسبب هو أن الأصولية أياً تكن لا تؤمن بالتعددية الدينية والمذهبية في المجتمع... وبالتالي فكل من يختلف معها في الدين أو المذهب تعتبره كافراً تنبغي تصفيته، ولكن ينبغي الاعتراف بأن الأصولية الداعشية تجاوزت كل أنواع الأصوليات الأخرى من حيث الإجرام والكفر بالله والقيم العليا. وكان آخر فظائعها تفجير الباص في المنيا بمصر، حيث سقط ما لا يقل عن ثلاثين «شهيدا» من إخوتنا الأقباط المسيحيين مضرجين بدمائهم. هذا ناهيك بالجرحى. وبالتالي فهناك الأصولية الداعشية من جهة، وبقية الأصوليات من جهة أخرى. وأنا لا أضعها على مستوى واحد أبدا.
على أي حال فإن كلمة أصولية بالمعنى الحديث للكلمة انتشرت أولاً في الولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر للدلالة على ذلك التيار المتزمت الذي يرفض التطور ويريد أن يعود بالمجتمع إلى الوراء.. وهم يطبقون التفسير الحرفي على التوراة والإنجيل. فكل ما ورد فيهما عن خلق العالم والظواهر الطبيعية والمضامين الجغرافية والتاريخية يأخذونه على حرفيته ويرفضون التفسير المجازي له، أي يرفضون أن يأخذوه على سبيل التصوير الرمزي والمجازي للعالم. فإذا قال الكتاب المقدس بأن الأرض مسطحة فإنهم يرفضون مقولة العلم بأنها كروية. وإذا قال بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض فإنهم يرفضون العكس كما يقول العلم الحديث. وقس على ذلك.
وبالتالي فحتى لو تعارضت المعلومات الواردة في الكتاب المقدس مع حقائق علم الفلك والفيزياء والرياضيات والبيولوجيا... إلخ فإنهم يفضلون اتباع الكتاب المقدس وليس العلم الحديث وبراهينه اليقينية. أما التيار الليبرالي في المسيحية فيأخذ هذه المعلومات على سبيل الرمز والمجاز ويتحاشى بذلك الاصطدام الرهيب مع العلم الحديث. وهنا يكمن الفرق بين المسيحية الأصولية والمسيحية الليبرالية. والسؤال المطروح هنا هو التالي: متى سيظهر الإسلام الليبرالي العقلاني المستنير؟ متى سيعود إسلام المعتزلة والفلاسفة لكي يقضي قضاء مبرما على الظلاميات الداعشية؟
يضاف إلى ذلك أن الأصوليين الأميركيين يرفضون نظرية التطور لداروين ويحاولون منع تدريسها في المدارس وبخاصة في الولايات الجنوبية لأميركا حيث تبلغ شعبيتهم ذروتها. فهذه النظرية التي اكتشفها داروين في القرن التاسع عشر تتعارض مع ما ورد في سفر التكوين التوراتي عن خلق الإنسان والعالم الطبيعي بشكل عام. وبالتالي فهي خاطئة كليا في نظرهم بل وكافرة وثنية. وقد حصلت مصادمات بين الدولة وهؤلاء الأصوليين بسبب هذه المسألة. ولا تزال المشكلة مطروحة حتى الآن وتلهب العواطف وتقسم الناس إلى قسمين متصارعين. هذا لا يعني أن نظرية داروين معصومة أو ممنوع مناقشتها. ولكن ينبغي الاطلاع عليها قبل قبولها أو رفضها.
يضاف إلى ذلك أن الأصولي يحمد الله يوميا على أنه لم يُخلق امرأة. والعياذ بالله! وهو بذلك يحمل صورة سلبية عن المرأة بصفتها كائناً أدنى مرتبة من الرجل. بل وقد يعتبرها بلا فكر أو ناقصة العقل. وكانوا أحياناً يتساءلون: هل فيها عقل أم لا؟ هل لها روح يا ترى؟ ولذلك فإن الأصوليين يراقبون المرأة كثيرا ويشتبهون بها ويحاولون منعها من ممارسة بعض الوظائف والأعمال. كما يتصدون لها فيما يخص مسألة الإجهاض. وكثيرا ما يهجمون على العيادات الطبية التي تمارس عمليات الإجهاض لكي يحطموها أو يدمروها تدميراً. ولا نقول ذلك دفاعاً عن الإجهاض. فالواقع أن المجتمعات الغربية تطرفت في الاتجاه المعاكس أيضاً. ولكن بشكل عام فإن الأصوليين الأميركيين يريدون العودة بالمرأة الأميركية إلى الوراء، أي إلى الحياة التقليدية التي كانت سائدة في الولايات المتحدة قبل الستينات من القرن العشرين. ومعلوم أنه حصلت ثورة جنسية تحررية في أميركا عندئذ، وعمت هذه الثورة بلدان أوروبا أيضاً. وأصبحت العلاقات بين الجنسين مختلفة كلياً عما كانت عليه في السابق. وظهرت حركات تحرر المرأة التي قضت على هيمنة الرجل عليها. ولكن هذه الثورة زادت عن حدها حتى انقلبت إلى ضدها. انظر انتشار الشذوذ مثلا ًبل وتشريعه علناً. وبالتالي فليس كل ما تقوله الأصولية خطأ. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين يكفّرون خصومهم السياسيين عادة ويعتبرونهم رجساً من عمل الشيطان. وكثيراً ما يصدرون فتوى شرعية باغتيالهم. وبالتالي فهم ميالون إلى العنف والضرب لفرض رأيهم الذي يعتقدون أنه رأي الله ذاته. وهم يعتقدون بأنهم يمتلكون الحقيقة الإلهية المطلقة وكل الآخرين على خطأ وضلال. وبالتالي فهم لا يناقشونك لأن النقاش ممنوع عندهم عادة... من يناقش الحقائق المطلقة أو اليقينات التراثية الراسخة؟ وهم رجعيون من الناحية السياسية. وكثيراً ما يتحالفون مع اليمين المتطرف من أجل المحافظة على القيم التقليدية «الخالدة» للأمة الأميركية أو الفرنسية أو الإسبانية، إلخ... وهم يفسرون كل شيء على ضوء عقائدهم الغيبية وأحياناً الخرافية. فمثلاً عندما حصلت ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية عام 2001 قالوا بأن الله أرادها كعقاب لأميركا التي ابتعدت عن الدين. هذا ما صرحت به ابنة المبشر البروتستانتي الأميركي الشهير: بيلي غراهام. وهو أحد كبار القادة الأصوليين في الولايات المتحدة. فعندما سألتها إحدى الصحافيات عن رأيها بهذا الحدث الزلزال الذي صعق أميركا أجابت قائلة: «أعتقد أن الله حزين جداً مثلنا كلنا لحصول هذه الكارثة. ولكن لماذا حصلت؟ لأننا منذ سنوات كثيرة ونحن نحارب الله والدين. ومنذ سنوات طويلة ونحن نطرد الدين من مدارسنا، وحكومتنا، ومؤسساتنا، وحياتنا. لقد أصبحنا ماديين وإلحاديين بشكل محض. لقد تخلينا عن الله فتخلى الله عنا». ثم تهاجم السيدة غراهام العلمانيين الأميركيين وتقول: «لقد طالبوا بمنع الصلاة المسيحية في المدارس واستجابت الحكومة لمطالبهم. ثم طالبوا بمنع قراءة الكتاب المقدس في المدارس أيضاً، ونفذت الدولة مطالبهم... ثم طالبوا بإعطاء بناتنا حق الإجهاض إذا كن لا يردن الاحتفاظ بالجنين واستجابت الحكومة لمطالبهم. ثم طالبوا بالحرية الجنسية بين الشباب والبنات ونالوا ما يطلبون. وهكذا خرجنا على شرع الله فعاقبنا الله بضربة 11 سبتمبر التي نستحقها لأننا تخلينا عن ديننا وإيماننا». وهذا التفسير لـ11 سبتمبر يشبه التفسير الذي قدمه الأصوليون عندنا الهزيمة 5 التي ستحل ذكراها الخمسون المشؤومة بعد أيام قلائل. فقد قالوا نفس الشيء تقريبا. قالوا ما معناه: «لقد تخلينا عن الله فتخلى الله عنا وجعل إسرائيل تنتصر علينا. لقد أصبحنا قوميين، ماركسيين، شيوعيين، إلحاديين فعاقبنا الله بهذه الهزيمة الساحقة الماحقة». بل ووصل الأمر بالشيخ الشعراوي إلى حد أنه شكر الله على هذه الهزيمة الذي أدت إلى تضعضع معسكر الكفر في مصر والعالم العربي. فهزيمة عبد الناصر بالنسبة له كانت تعني خيراً وبركة..
وبالتالي، فعلى الرغم من اختلاف الأصوليين فيما بينهم وعلى الرغم من كرههم الشديد لبعضهم البعض فإنهم جميعاً يشتركون في نفس العقلية الغيبية الخرافية. كما أنهم يتوحدون ضد العالم الحديث وحرياته وقيمه الإنسانية والديمقراطية. ويكفي أن تقرأ تصريحات الأصوليين اليهود، أو المسيحيين، أو المسلمين لكي تتأكد من ذلك. ففي رأيهم أن العقلانية كفر، والديمقراطية كفر، والليبرالية كفر... إلخ.
وجميع الأصوليين يطالبون بزيادة المواد الدينية في المدارس. فبما أن العلمانية هي السائدة في بلدان أوروبا وأميركا، فإن تعليم الدين في المدارس العامة ممنوع أو مقلّص جداً. وذلك على عكس ما هو حاصل عندنا. وهذا ما يزعج كثيرا الأصوليين المسيحيين الذين يطالبون علناً بإعادة تدريس الدين المسيحي في المدارس الأميركية وبالطريقة التقليدية السابقة على التنوير. كما يطالبون بإعادة الصلاة أيضاً إلى المدارس لكي تبتدئ الدروس بها. ويدعون أيضاً إلى الفصل بين الجنسين. بل ويطالبون بإعادة العمل بالقوانين العنصرية التي تفرق بين الأسود والأبيض. فهم يفضلون عدم اختلاط البيض «النظيفين» بالسود «القذرين الطالعة رائحتهم» في المدارس، والجامعات، والباصات، والمطاعم، والمقاهي، إلخ. وهذا أكبر دليل على مدى رجعيتهم وكرههم للحياة الأميركية الحديثة التي أصبحت لا تفرق بين السود والبيض كما كان يحصل سابقاً.
وبالتالي فالأصوليون الأميركيون يريدون العودة بالبلاد إلى الوراء، إلى أيام التمييز العنصري واحتقار البيض للسود. إنهم يريدون التراجع عن كل مكتسبات العقود الأخيرة في هذا المجال. ومعلوم أن حركة النضال من أجل نيل الحقوق المدنية من قبل السود ابتدأت منذ الخمسينات أو الستينات في القرن الماضي. وكان من كبار قادتها مارتن لوثر كنغ الذي اغتيل في نهاية المطاف ودفع حياته ثمناً لها. نعم لقد دفع حياته ثمناً لأفكاره ومبادئه الإنسانية الرفيعة. ولولا ذلك لما انتصرت هذه الأفكار في نهاية المطاف وأصبحت حقيقة واقعة في المجتمع الأميركي. والآن يريد الأصوليون التراجع عنها! وهذا يعني أنهم رجعيون بالمعنى الحرفي للكلمة. إنهم رجعيون سياسيا، ودينيا، واجتماعيا، وكل شيء... لحسن الحظ فإن الرئيس دونالد ترمب لم يتراجع عن هذه المكتسبات الإيجابية التي حققها المجتمع الأميركي. وقد فوجئت بأن هديته للبابا عندما عرج عليه عائدا من السعودية كانت مؤلفات مارتن لوثر كنغ! من يصدق ذلك؟
ولكن المشكلة هي أن ضربة 11 سبتمبر أعطت للأصوليين الأميركان دفعاً كبيراً أو زخماً جديداً ما كانوا يحلمون به سابقاً. وهكذا أصبحت لهم تلفزيوناتهم وإذاعاتهم التي تجذب ملايين البشر. وأصبح دعاتهم يملأون الشاشات والفضائيات بكلامهم المعسول الذي يدعو أميركا للعودة إلى طريق الرشاد، أي إلى القيم الأصولية المسيحية التي تخلت عنها بعد ثورة الستينات وأدارت ظهرها لها. وأخيراً، فالسؤال المطروح هو التالي: ألا يمكن القول بأن المبالغة في التحرر والشذوذ والحداثة المشوهة هو الذي أدى إلى رد الفعل الأصولي هذا؟ نحن لا ندافع عن الأصولية ولكن ينبغي الاعتراف بأن الوسطية هي أفضل الحلول: لا إفراط ولا تفريط، لا غلو في الدين ولا تحلل من كل القيم والمعايير. وعلى هذا النحو حدد أرسطو الفضيلة. فهي حد وسط بين قطبين متضادين ومتطرفين. فالكرم هو حد وسط بين البخل والإسراف. والشجاعة هي حد وسط بين الجبن والتهور. وقس على ذلك..
ملاحظة: هذا المقال، كمعظم مقالاتي، مستقى من عدة مصادر من بينها كتاب: «الدين في الولايات المتحدة»، للبروفسور دوني لاكورن الأستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس.
8:6 دقيقة
الأصولية الأميركية في مواجهة الحداثة
https://aawsat.com/home/article/942711/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B5%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9
الأصولية الأميركية في مواجهة الحداثة
موضوعات مشتركة لدى مختلف الأصوليين
- باريس: هاشم صالح
- باريس: هاشم صالح
الأصولية الأميركية في مواجهة الحداثة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة