روائيون وناشرون من 12 بلداً عربياً في «ملتقى فلسطين الأول للرواية»

ذاهبون «انتصاراً للثقافة»... وبعضهم انتقد الحديث عن «التطبيع» حين يتعلق الأمر بكسر الحصار

يحيى يخلف  -  واسيني الأعرج
يحيى يخلف - واسيني الأعرج
TT

روائيون وناشرون من 12 بلداً عربياً في «ملتقى فلسطين الأول للرواية»

يحيى يخلف  -  واسيني الأعرج
يحيى يخلف - واسيني الأعرج

«قبلت بكل فرح»... أجابت الناشرة المصرية صاحبة دار «العين» الدكتورة فاطمة البودي، عن سؤال «الشرق الأوسط»، حول تلقيها دعوة للمشاركة في «ملتقى فلسطين الأول للرواية»، الذي يعقد في مدينة رام الله بالضفة الغربية من 7 إلى 11 مايو (أيار) الحالي. وأضافت البودي بمشاعر عميقة وصادقة: «من ذا يتأخر عن دعوة من فلسطين؟».
وفي حين رحب يحيى يخلف، وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق، بمشاركة الروائيين العرب، قال واسيني الأعرج، إنه ذاهب لحضور «أعراس فلسطين ومآتمها مهما كانت المسافة ثقيلة»، ذاهب إلى من «يحلمون بالحرية والعصافير والخير والخبز والفرح والإنسان». وتعتقد مها حسن، أن الدعوة إلى فلسطين، تحررها من الهزيمة التي ولدت معها ولاحقتها العمر كله. فيما ذهبت نجوى بن شتوان؛ لعزمها على إسقاط ما تبقى من تبعات نظام القذافي الذي كتب على جوازات السفر «يمنع من دخول فلسطين المحتلة». واستهجن الحبيب السالمي، الحديث عن «التطبيع حين يتعلق الأمر بزيارة أهلنا في فلسطين». ورأى إلياس فركوح في مشاركته أمرا يعني له الكثير. أما كمال الرياحي فاعتبر قبول دعوة وزارة الثقافة الفلسطينية: «اعترافا بدولة فلسطين».
أكثر من خمسين روائيا عربيا وروائية، بينهم ناشرون، ينتمون إلى كل من: فلسطين، والأردن، ومصر، وسوريا، والجزائر، والمغرب، وإريتريا، وتونس، وليبيا، والعراق، والكويت، والسودان، تلقوا دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة، جاء فيها: «إن حضوركم ومشاركتكم في ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، دعم لنضال شعبنا، في مواجهة سياسات العزل وخطوة على طريق كسر الحصار الثقافي على فلسطين».
وفي المقابل، ثمة من يعتبر أي مشاركة في أي أنشطة ثقافية أو فنية في فلسطين، تطبيعا كاملا مع إسرائيل لا يمكن الدفاع عنه أو حتى تبريره. وأن زيارة فلسطين، غير مقبولة قبل تحريرها.
فماذا قال بعض من لبّوا الدعوة وبدأوا يحزمون حقائبهم استعدادا لملاقاة فلسطين والفلسطينيين، وكيف ينظرون إلى هذه الخطوة «الإشكالية»، التي لم تزل تجر الكثير من المتاعب؟
الروائي الفلسطيني، يحيى يخلف، خصّ «الشرق الأوسط» بكلمة رحب فيها بالروائيين العرب، وتوقع حضورا جيدا ومشاركات فاعلة، وقال: «نحن المثقفين الذين نعيش في فلسطين، ونتشبث بثقافة الصمود، وينمو إبداعنا في جو التحدي ومقاومة المحتل بكل الوسائل المتاحة، نعتبر المجيء والمشاركة والتواصل معنا، نوعا من الدعم لنا ولشعبنا المتعطش للتواصل مع محيطه القومي. يقال إن زيارة السجين لا تعتبر زيارة للسجان... ولا يعجبنا كثيرا هذا القول؛ لأن أبطالنا أسرى الحرية في سجون الاحتلال، يحاصرون السجان بمعركة الإضراب عن الطعام، ويقاومون حتى وهم وراء القضبان، في كفاح أسطوري تعجز عن وصفه الكلمات».وأضاف وزير الثقافة الأسبق: «نحن ضد التطبيع بمعناه الفج والقبيح، ونعتبر الثقافة قلعتنا وهويتنا، ولا نقبل حتى مثقفا عربيا أو أجنبيا يزور إسرائيل ثم يطلب زيارتنا. وأحب هنا أن أؤكد أن المثقفين الإسرائيليين لا يتطلعون إلى التطبيع؛ لأن نصوصهم مليئة بالحقد والكراهية واحتقار الآخر. ويمارسون التمييز حتى على أدبائنا داخل الخط الأخضر. ولا يرغبون حتى في ترجمة أدبهم أو الاطلاع عليه، باستثناء ما ترجمه بعض اليسار للراحل محمود درويش. وحتى هذه القصائد، هاجموها في الكنيست ودوائر الحكومة. إن زيارة أي أديب عربي إلى فلسطين، هي دعم وإسناد لكفاح شعبنا وتأكيد على عروبة فلسطين وعلى مكانتها بصفتها قضية مركزية للأمة العربية».
* شمس ممنوعة
وقال الروائي الجزائري واسيني الأعرج: «مشاركتي تدخل في سياق التزام نشأ في منذ طفولتي الأولى. لا أريد أن أخونها كيفما كان الحال، طفولتي صنعتني. أن أحضر أعراس فلسطين ومآتمها مهما كانت المسافات الثقيلة، والظروف الفاصلة. وليس ملتقى فلسطين للرواية إلا واحدا من هذه الأفراح المشتركة. في فلسطين لا يوجد فقط الموت، يوجد أيضا ناس يحلمون بالحرية والعصافير والخير والخبز والفرح والإنسان. لا أهتم بعدها كثيرا بما يمكن أن يقال. لا يُحاسب من يحب أرضه. ومن حاسبه فهو يكره تلك الأرض التي تسرق يوميا. التطبيع؟ ليكن. لهم تطبيعهم كما يصفونه وينتشون به وراء الكذبة الكبرى، ولي شوقي وحبي. أعرف كما يعرفون، أن التطبيع أن تسير وفق شهوة القاتل، أن تقبل بعزلة أرض الملائكة والأنبياء، وبرميها في جهنم النسيان، وقتلها في الصمت الخبيث. لي فلسطيني التي كبرت في حضن ذاكرتها التي لا تموت أبدا. أتحمل بؤس المعابر وقسوتها، وخبث الذي يتفرس أشواقي، لأني أعرف سلفا أني بمجرد وصولي سأنسى الغبار، ولن تبقى في قلبي إلا رائحة التربة الأولى وعطر فلسطين وتكبر فيّ رغبة أخرى للحياة وفتح البوابات الثقيلة مع ملايين الأيدي لتدخل الشمس الممنوعة.
* حررني من الهزيمة
وتعتقد الروائية السورية، مها حسن، أن الدعوة إلى فلسطين، تحررها من الهزيمة التي ولدت معها ولاحقتها العمر كله، عبر استعادة «الزمن الضائع»، والقبض على حقها في الكتابة. لم تتردد مها في قبول الدعوة، أو تتلعثم في صياغة موافقتها، والدفاع عن موقفها. وقالت: «وُلدت في عام النكسة، وحملتُ معي دائماً بذور تلك الهزيمة، حتى أنني اشتغلت في أول طريقي الروائي، على فكرة الجيل المهزوم، عبر روايتي (جدران الخيبة أعلى)، الصادرة سنة 2002. منذ ولادتي وحتى صباي، رافقني إرث الهزيمة، حتى يمكنني التحدث عن الهزيمة الجمعية لجيلي على الأخص. ولكنني آمنت أيضاً، بقدري الشخصي: الكتابة. اليوم، تأتي فكرة الذهاب إلى فلسطين، كأنها تحقيق لحلم قديم ضائع. لم أفكر يوماً بهذا. فقط جاءت الفكرة في العامين الأخيرين، حين وجدتُ أن كتابتي تحتاج إلى ذلك المكان الضائع. الذهاب اليوم إلى فلسطين، يماثل ضد (الزمن الضائع)، لأدخل فصل: الزمن المُستعاد، تماشيا مع رواية مارسيل بروست، وتحقيقاً لحقّي في الكتابة والتخيّل ومقارنة الواقع، والتحرر من الهزيمة التي فرضها الآخر».
* ليس ذنب الفلسطيني أنه محتل
أما الروائي التونسي، كمال الرياحي، فقال: «زيارة فلسطين حلم يراود كل عربي منذ الطفولة، والوصول إليها من خلال نشاط ثقافي أمر جيد. وقبول دعوة وزارة الثقافة الفلسطينية هو اعتراف بفلسطين دولة. ومشاركتنا هي جزء من مساندتنا نضال الشعب الفلسطيني، كما جاء في نص الدعوة. مقاطعة أهلنا تحت الاحتلال لم تخدم إلا الإسرائيلي. أن يهبّ الكتاب العرب إلى فلسطين، فهذا إعلان منهم أنهم لم يتخلوا عن الفلسطينيين في محنتهم، وليس ذنب الفلسطيني أنه محتل، بل ذنب العربي الذي يحاصره في المطارات العربية ويحتج على بقائه في أرضه. لا يمكن لزيارتنا لفلسطين، ومشاركتنا في مؤتمر تنظمه دولة فلسطين، إلا أن يكون دعما لشعب فلسطين».
* آخر تبعات نظام القذافي
وأخذت الروائية الليبية، نجوى بن شتوان، التحدي إلى مسافات بعيدة، حين قالت: «يشكل قبولي الدعوة لملتقى الرواية العربية الأول في فلسطين، مساندة ودعما للثقافة العربية في شخصيتها الفلسطينية، فلماذا أقبل دعوات العرب هنا وهناك وأتحفظ على قبولها من فلسطين؟ لقد كانت فلسطين محتلة ولم تزل، وهي في جواز سفري ما زالت أرضاً ممنوع عليّ دخولها بقرار من النظام الليبي السابق، ولكني سأتخطى ما تقرره السياسة دعماً للأدب ولأهلنا في الأرض المحتلة وسأقبل العبور مثلهم، أنا ذاهبة إلى فلسطين وإلى الفلسطينيين ولست ذاهبة إلى إسرائيل أو الإسرائيليين، أنا هناك تلبية لنداء فلسطين وسيجري عليّ ما يجري عليهم. إن دعمهم أقل ما يمكن أن نقدمه لهم، وماذا ترانا قدمنا لهم عندما كنا في أوطاننا وكنا نتكلم عن القضية الفلسطينية من بعيد؟ سأشارك حتى لو اضطرت إلى أن يختم لي الحاجز الإسرائيلي على جواز سفري، سأشارك كرامة وإكراماً لفلسطين وليس لشيء آخر، بل إني سأسقط آخر ما بقي من تبعات نظام القذافي عليّ، حين كتب لنا في جوازات سفرنا يمنع من دخول فلسطين المحتلة... شخصياً ستكون لحظة فارقة في حياتي أن أكون هناك، وأن أصلي أيضا في القدس».
* لم أتردد وضد التطبيع
بهدوئه الذي يشبه سرد روايته الجميلة «روائح ماري كلير»، قال الروائي التونسي، الحبيب السالمي: «حين تلقّيت دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة في فعاليات ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، لم أتردد لحظة في الموافقة، خصوصا أن الدعوة تشير إلى أن حضورنا ومشاركتنا دعم لنضال شعبنا في مواجهة سياسات العزل وخطوة على طريق كسر الحصار الثقافي على فلسطين. أرى أن واجبي بصفتي عربيا أولا، ومثقفا ثانيا، أن أذهب إلى فلسطين. ولا أفهم كيف يمكن الحديث عن تطبيع أو شيء من هذا القبيل إذا تعلق الأمر بزيارة أهلنا في فلسطين. قبل بضعة أعوام، كنت ضيفا على المؤتمر الأدبي العالمي في برلين. أخبرتني المسؤولة عن الاتصال، بأن صحافيا إسرائيليا من جريدة «يديعوت أحرنوت»، إذا لم تخني الذاكرة، يريد أن يجري لي حوارا فرفضت. أنا عموما ضد التطبيع. ولكن ما علاقة زيارة فلسطين بالتطبيع. يشرفني أن أنزل ضيفا على إخواننا الفلسطينيين، وأن أساهم في كسر الحصار الثقافي على فلسطين.
* أذهب ولديّ ما أقول
أما الروائي الأردني، إلياس فركوح، فقال: «أن أشارك في حَدَثٍ ثقافي أدبي فوق جزء من فلسطين، لهو أمرٌ يعني لي الكثير. ومن معانيه التي من الصعب إظهارها بوضوح؛ امتحان فلسطين في داخلي وتجذرها بأبعادها كافة: أرضاً عشتُ عليها وبدأ وعيي على الحرية بالتشكُّل في فضائها حين كنتُ صبياً في إحدى مدارسها، وإعادة قراءة لجزء من تاريخي الشخصي بوصفها كتاباً لن تنتهي صفحاته أبداً. إنها المرة الأولى، بعد نحو عشرين سنة، أعود إليها بوصفي كاتباً لديه ما يقوله، ويجهد أن يكون قولاً يحترم نُبْلَ قضيتها، وشرف مناضليها».
* الى فلسطين خذوني معكم
وقالت الناشرة المصرية د. فاطمة البودي، المدير العام لدار العين: «عندما جاءتني دعوة للمشاركة بمؤتمر الرواية الأول بفلسطين، سيطرت علي مشاعر كثيرة، أولها الفرحة لزيارة هذه البقعة العزيزة جداً على نفسي، وثانيها (نوستالجيا) ذكرتني بكل ما مر علي في عمري من مشاعر تجاه القضية الفلسطينية والمدن الفلسطينية في أغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم. وتذكرت على الفور (إلى فلسطين خذوني معكم)، ولكن من دون بندقية، بل على جناح الثقافة والمعرفة والأدب. كم تمنيت أن يكون محمود درويش على قيد الحياة ليأخذني إلى الأماكن التي كثيراً ما حكي عنها. بكل الفخر والفرح ألبي هذه الدعوة الكريمة، التي تحمل في كلماتها معاني المشاركة في كسر الحصار الثقافي عن فلسطين».



إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).


كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
TT

كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة

كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة
كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة

كشفت أعمال المسح والتنقيب المتواصلة منذ بضعة عقود في دولة الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها مستوطنة مليحة التي تمتد في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وتبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة. بدأ استكشاف هذه المستوطنة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتواصل في العقود التالية، حين عمدت بعثة أثرية فرنسية إلى إجراء سلسلة من الحفريات، ساهمت في إلقاء الضوء على تاريخ هذه المنطقة التي شكّلت في الماضي مركزاً تجارياً وسيطاً، كما تشهد مجموعات اللقى المتنوّعة التي خرجت من بين أطلالها، ومنها كؤوس فخارية برتقالية اللون، قيل إنّها مستوردة من إيران.

أجرت البعثة الأثرية الفرنسية في مطلع عام 2010 حملة تنقيب في مليحة مدى أربعة أسابيع، وكان الهدف الأساسي لهذه الحملة العمل على توثيق الدور النهائي للاستيطان في هذا الموقع الاستثنائي خلال القرون الميلادية الأولى. حسب تقرير خاص بهذا الموسم من التنقيب نُشر في العدد 13 من «حولية آثار الشارقة»، خرجت من بين أطلال مليحة مجموعة من الحلى الذهبية بدت غير مألوفة في طبقات الاستيطان الخاصة بهذا الموقع، ومجموعة من المسكوكات منها قطعة محلية، وختم مصنوع من عجينة زجاجية، صيغ على شكل أسد مضطجع، مع نقش بالخط الآرامي، إضافة إلى العديد من اللقى الخشبية والعاجية التي تعود إلى قطع مهشّمة. في هذا السياق، خرجت الحملة بمجموعة كبيرة من اللقى الفخارية، منها قطع محلية الصنع، وقطع مصدرها وادي السند، و«كأس إيرانية ذات طينة برتقالية مصبوغة، وُجدت مبعثرة مع كُسر تعود لكأس أخرى».

حمل هذا التقرير صورة لهذه الكأس «المستوردة من إيران»، وهي كأس تمّ ترميمها لاحقاً بشكل دقيق، وتتميّز بحلّة زخرفية مطلية باللون الأسود، تجمع بين التقاسيم الهندسية المجرّدة وصورة حيوانية محوّرة تمثّل كما يبدو وعلاً يقف ثابتاً على قوائمه الأربع، في وضعية جانبية تخلو من أي حركة. يزين قمّة هذه الكأس شريطان زخرفيان تختلف المفردات التشكيلية الخاصة بكلّ منهما. يتبنّى الشريط الأعلى زينة قوامها سلسلة من الدوائر اللولبية تحلّ بين خطين أفقيين، ويتبنّى الشريط الموازي شبكة من الخطوط الملتوية تحلّ بين خطّين مشابهين. يقابل هذين الشريطين شريط ثالث يُزّين قاعدة هذه الكأس، وقوامه كذلك سلسلة من الدوائر اللولبية، تُماثل في تكوينها تلك التي تُكلّل هذه القطعة الفخارية. يظهر وسط هذه الشرائط الزخرفية وعل يقف بثبات تحت قوس عريضة، تزيّنه شبكة من الخطوط العمودية المرصوصة كأسنان المشط.

صُوّر هذا الوعل بشكل تحويري في وضعية جانبية، مجرّداً من أي تفاصيل مادية توحي بالثقل. الرأس صغير، ويعلوه قرنان ضخمان مقوّسان يبلغان طرف الظهر. العنق طويلة، وهي كذلك مقوّسة، وتشكّل امتداداً للصدر النحيل. القوائم الأربع ظاهرة، وهي مجرّدة من المفاصل، وتبدو أشبه بأربعة خطوط متوازية. قمّة الظهر مدبّبة، وتوازي في استدارتها قوس العنق. يتكرّر هذا التأليف على كأس مشابهة، حيث يعود الوعل ويحلّ وسط مساحة مجرّدة غاب عنها القوس المزخرف بخطوط عمودية. يظهر الحيوان هنا مع قرنين طويلين متوازيين حدّدا بشكل مغاير، ويبدو وجهه أكبر حجماً، وعنقه أعرض. الحلّة الزخرفية واحدة، وتتمثّل في ثلاثة شرائط صيغت بشكل مماثل.

نقع على كأس ثالثة تتبع هذا الطراز الخاص، وفيها يتحوّل الوعل إلى عقرب، كما يوحي ذيله اللولبي الكبير الملتف من خلف رأسه. تزيّن قمة هذه الكأس سلسلتان متوازيتان من الدوائر اللولبية، وتزيّن قاعدته سلسلة ثالثة مماثلة في التكوين. يقف العقرب بثبات على شريط مكوّن من ثلاثة خطوط أفقية متوازية، وسط قوس عريض زُيّن بشبكة من الخطوط المتقاطعة على شكل مكعبات صغيرة متراصة.

تتشابه كؤوس مليحة الثلاث من حيث التكوين، ويبلغ طول كل منها نحو 16 سنتيمتراً، وقطرها نحو 15 سنتيمتراً. تتبع هذه القطع الفخارية طرازاً فنياً راسخاً في القدم، تحوّل إلى طراز جامع عابر لحدود أقاليم الشرق القديم. تعود أقدم شواهد هذا الطراز المعروفة إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومصدرها مدينة شوشان العريقة التي تُعرف اليوم باسم سوسة، وتتبع في زمننا محافظة خورستان، حيث تقبع في أسفل جبال زاغروس، بين نهر دجلة ونهر كرخة ونهر دز. بقي هذا التقليد الفني حياً على مدى عصور من الزمان، وبلغ نواحي متباعدة من أقاليم الشرق القديم، ودخل نواحي عديدة من الجزيرة العربية.

تعود كؤوس مليحة كما يبدو إلى القرن الميلادي الأوّل، وتمثّل من هذا المنظار آخر تجليات هذا الطراز الفني العريق. يأخذ هذا الطراز هنا شكلاً متقشّفاً متواضعاً يخلو من الرهافة، غير أنه يحافظ على الجاذبية التي تميّز بها أسلوبه في أشكالها المتعدّدة العابرة للأزمان.