«أميركا أولاً» و«بريطانيا أولاً» و«صُنع في الهند»... شعارات قومية غطت سماء ختام 2016 وبداية 2017، وعبرت عن توجهات حكام وحملات انتخابية تهدد النظام العالمي القائم على حرية التجارة. في المقابل، تعترض باقي الدول الكبيرة على تضرر مصالحها من هذه الشعارات، وفي مقدمتها الصين والاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا... ولكن الواقع يشير إلى أن هذه الدول تصنع تحولا آخر في هيكل اقتصادها دون الاهتمام - أيضا - بمصالح باقي الدول.
مع تباطؤ نمو دول الاتحاد الأوروبي، قامت ألمانيا بتحويل وجهة صادراتها، وأصبحت وجهة صادراتها ومصادر وارداتها خارج الاتحاد الأوروبي، وبعد أن كانت دول مثل فرنسا وهولندا أهم الشركاء التجاريين، حلت الولايات المتحدة والصين وإنجلترا والإمارات محلها.
الصين قاطرة نمو العالم وأهم مصدريه تتحول إلى صناعة الخدمات وتشجيع الطلب المحلي منذ سنوات، فالخدمات تجاوزت حاجز الـ50 في المائة من الناتج الإجمالي في العامين الماضيين، مما يعني أن التصدير أو الصناعة لم يَعُدا فرسي الرهان في الاقتصاد الصيني.
المختلف بين الدول التي يتصدرها «اليمين» الآن والصين، هو أن هيكل هذه الدول يعتمد على طلب محلي قوي من البداية؛ مثل الوضع في الولايات المتحدة وبريطانيا، أو تأخر كبير في متوسط الدخول مثل الهند... أما الصين التي سبقت الهند بكثير وأصبحت تضم طبقة متوسطة كبيرة ومتزايدة، فلا تحتاج لمثل هذه الشعارات المخيفة، بل تحتاج إلى أن تغلق مجالها أمام شركات الخدمات الأجنبية، وأن تقدم نماذج لأثرياء الداخل تحفز المواهب على البقاء ببلادهم والادخار والاستثمار فيها، وأن تحتفظ بالاستثمارات في الأراضي الصينية، لضمان بقاء معدل النمو فوق حاجز 6 في المائة.
ينوي الرئيس الأميركي دونالد ترمب معالجة العجز التجاري للولايات المتحدة، طالباً من إدارته تحديد البلدان التي تمارس «غشّاً» في القواعد المعمول بها، واقتراح كل التغييرات الضرورية لـ«حماية» الصناعة الأميركية، وهو يقصد دولا محددة؛ منها الصين وألمانيا، وذلك بالتزامن مع عقد القمة المرتقبة بين ترمب ونظيره الصيني تشي جينبينغ في فلوريدا يومي 6 و7 أبريل (نيسان) الحالي؛ حيث إن «اللقاء مع تشي سيكون صعبا جدا. لم نعد قادرين على تحمل عجز تجاري ضخم وخسارة الوظائف»، وفقا لترمب. وبالفعل، فإن أميركا مهتمة بألا تصدر الصين بضائع رخيصة لها، ولكن من قال إن الصين لا تريد ذلك؟
في نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، ضحت الصين بجزء كبير من احتياطاتها النقدية لدعم عملتها المحلية، حيث لا تريد بكين أن تنخفض قيمة اليوان بشكل يطرد الاستثمارات الموجودة في الصين بالفعل، ويحفز المستثمرين على الاستثمار في الولايات المتحدة، التي من المتوقع أن تشهد زيادة قوة الدولار، فيستفيد المستثمر من عائدات زيادة سعر الدولار، بالإضافة إلى عائد الاستثمار نفسه.
وشددت الصين القواعد المتعلقة بنقل رأس المال إلى خارج البلاد في الأشهر الأخيرة، واستهلكت نحو 320 مليار دولار من الاحتياطات العام الماضي. وفيما يخص الإغراق، تتخلى الصين تدريجيا عن صناعة الحديد والصلب، وهي واحدة من أشهر الصناعات المتهمة بإغراق العالم بالصلب الصيني الرخيص. وترى بكين أن إنتاج الصلب الصيني أصبح يفوق حاجة العالم، وبالتالي هي تحاول نقل أكثر من مليوني وظيفة من هذا القطاع لقطاعات أخرى تخدم زيادة الطلب المحلي وليس حركة الصادرات، مما يعني أن الصين تحاول بشكل جدي تغيير العنوان الرئيسي لاقتصادها من «دولة الصادرات الرخيصة» عن طريق رفع قيمة العملة وإضعاف كبار المُصدرين، إلى دولة «الطلب المحلي القوي»، ولكن من دون ضجيج، وهذا لأنها لا تستبدل بسلعة مستوردة سلعة محلية، بل تستبدل بخدمة مستوردة خدمة محلية، وبمستهلك مستورد مستهلكا محليا.
وتعتزم الصين خفض طاقة إنتاج الصلب 50 مليون طن، وطاقة إنتاج الفحم أكثر من 150 مليون طن هذا العام، حسبما ذكرت هيئة التخطيط الرئيسية مع تعزيز بكين جهودها لحل مشكلة الطاقة الإنتاجية الفائضة.
وقالت سلطات الجمارك الصينية إن واردات الصين ارتفعت بنسبة 1.38 في المائة خلال فبراير (شباط) الماضي، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وفي الفترة نفسها، تراجعت الصادرات بنسبة 3.1 في المائة، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي لتصل إلى 1.120 مليار دولار، وقد سجلت الصين عجزا في الميزان التجاري بلغ 15.9 مليار دولار.
يذكر أن هذه أول مرة منذ 3 أعوام تتجاوز فيها واردات الصين صادراتها. وهذا لا يرجع إلى نمو الواردات بشكل كبير فقط، ولكنه يوضح أن الصين لم تعد تهتم بالشكل الكافي بأن تغرق صادراتها العالم؛ كما كانت تفعل في السابق.
في المقابل، لا تعتزم بكين التخلي عن دعمها التوجيهي للاقتصاد، ولو أدى ذلك إلى زيادة العجز، وستستثمر هذه السنة 355 مليار يورو في مشاريع سكك الحديدية والطرقات العامة والمجاري المائية، ولكن هذه الاستثمارات، كما هو واضح، تحسن من أوضاع الطلب الداخلي.
في نهاية مارس (آذار) الماضي، قلص بنك الشعب (المركزي) الصيني السيولة النقدية في النظام المصرفي الصيني من خلال وقف عمليات سوقية مفتوحة تعرف باسم «اتفاقية إعادة الشراء»، حيث تتبنى الصين خلال العام الحالي سياسة نقدية «حكيمة ومحايدة». ورغم معدلات النمو المرتفعة التي شهدتها الصين خلال أكثر من 40 عاما، فإن الحكومة قررت أن تقف السياسات النقدية على الحياد؛ لا تضعف الطلب المحلي ولا تقويه، في حين تعمل سياسات الصناعة والتجارة على تقويته.
وظهرت دراسة خاصة لنشاط المصانع الصينية مطلع الأسبوع الحالي تشير إلى تباطؤ النمو بقطاع الصناعة في الصين، في تناقض مع تقارير رسمية أشارت إلى تسجيل أسرع وتيرة للنمو منذ نحو 5 سنوات. وتراجع مؤشر «كايشين إنسايت لمديري المشتريات» في البلاد بنسبة 51.2 في المائة خلال مارس الماضي، مقارنة بـ51.7 في المائة خلال فبراير (شباط) الماضي، ومقارنة أيضا بارتفاع وصل إلى 53.4 في المائة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهو الأبرز منذ 17 شهرا. وتراجعت معدلات النمو في المخرجات وإجمالي الطلبات الجديدة وأسعار المدخلات والمخرجات عن الشهر الماضي. وزادت مبيعات الصادرات الجديدة بوتيرة هي الأضعف منذ 3 أشهر، حيث تراجعت إلى 51.9 في المائة، من 53.8 في المائة خلال فبراير (شباط) الماضي، طبقا للتقرير.
وقال تشونغ تشينغ شينغ، مدير تحليل الاقتصاد الكلي في مجموعة «سي إي بي إم» البحثية الاستثمارية المستقلة: «بشكل عام، واصل الاقتصاد الصناعي الصيني تحقيق تحسن... لكن بدأت مؤشرات الضعف في الظهور، قبل الربع الثاني». وتركزت دراسة «كاشين» بشكل كبير على الشركات الصغرى، التي تتجه للتصدير، بينما يستهدف المؤشر الرسمي الشركات الحكومية الكبرى. وكان المؤشر الرسمي للاتحاد الصيني للوجستيات والمشتريات قد سجل نموا قيمته 51.8 في المائة خلال مارس (آذار) الماضي، وهو الأعلى منذ أن سجل المؤشر نموا بنسبة 53.3 في المائة عام 2012. وحتى فيما يخص الاستثمارات الخارجية، ورغم اتفاق كثيرين على أن الصين تتوسع عبر «طريق الحرير» وبنك التنمية (الخاص بدول «بريكس»)، و«البنك الآسيوي للبنية التحتية»، فإن حوارا مع «ك.ف. كاماث»، رئيس بنك التنمية الجديد الأسبوع الماضي، نقل صورة مختلفة، فقد أوضح أن البنك يخطط لجمع ما بين 300 و500 مليون دولار من خلال إصدار سندات مقومة بالروبية الهندية في النصف الثاني من العام، وهذا بعد أن باع البنك سندات خضراء مقومة باليوان الصيني بقيمة 435.5 مليون دولار في سوق بين البنوك بالصين العام الماضي.
وتقول «رويترز» إن تأسيس «البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية» أثار تساؤلات بشأن جدوى بنك التنمية الجديد، وحدا ببعض المعلقين لإلقاء الشكوك بخصوص التزام الصين تجاه البنك، بيد أن كاماث قلل من أهمية تلك المخاوف، وقال: «نشعر بأقصى قدر من الترحاب في الدولة المضيفة. تلقينا أكبر دعم من الصين من أجل الوصول إلى حيث نحن الآن... نحقق نموا بأقصى سرعة ممكنة... لا نجد أي معوقات».
الصين تنغلق على نفسها... لكن بلا ضجة
الخدمات تستحوذ على معظم الاقتصاد بدل الصناعة أو الصادرات
الصين تنغلق على نفسها... لكن بلا ضجة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة