الحضور العربي في سرديات الأندلس الأوروبية

لحظتان مميزتان تؤكدان استمرار التماس الحضاري الثري في العصر الحديث

رسم متخيل لسرفانتيس، صاحب «دون كيخوته»
رسم متخيل لسرفانتيس، صاحب «دون كيخوته»
TT

الحضور العربي في سرديات الأندلس الأوروبية

رسم متخيل لسرفانتيس، صاحب «دون كيخوته»
رسم متخيل لسرفانتيس، صاحب «دون كيخوته»

استمراراً لما سبق أن تناولته في مقالة سابقة تحت عنوان «الأندلس: جزيرة أوروبا العربية»، أتوقف هنا عند الأعمال السردية التي ألفت جسراً أوروبياً آخر مع الثقافة العربية، الأعمال التي سبق أن أشرت إليها في المقالة السابقة، وأضيف إليها هنا أعمالاً سردية معاصرة لتؤكد استمرار ذلك الجسر.
مجموعة الحكايات المعروفة بـ«ديسيبلينا كليريكاليس» (قواعد كهنوتية)، قامت على مستوى مختلف بنشر الحكايات القادمة في جذورها من الاحتكاك بالموروث العربي الإسلامي. تلك المجموعة من الحكايات الكهنوتية، التي قصد بها تعليم القساوسة وإرشادهم إلى السلوك القويم، جمعها الإسباني اليهودي موسى السيفاردي، الذي تحول إلى المسيحية في مطلع القرن الثاني عشر، بعد أن درس في الأندلس وانتقل بعد ذلك إلى إنجلترا وفرنسا، مغيراً اسمه إلى بيتروس ألفونسي، أو ألفونس، تيمناً بقديسه أو عرابه (بطرس) وملك أراغون (ألفونس).
تقول دوروثي ميتلتزكي في كتابها المهم «المادة العربية في إنجلترا العصور الوسطى»، إن بيتروس، أو بطرس، كان أحد اثنين أسسا لحركة النقل التي حملت الموروث العربي العلمي والفلسفي ثم الأدبي إلى أوروبا. الآخر هو قسطنطين الأفريقي. كان بيتر، بتعبير ميتلتزكي: «رائد الدراسات العربية على التراب الإنجليزي»، وتقارنه بأول الشعراء الإنجليز الكبار جيفري تشوسر الذي جاء بعده بأربعة قرون. فمن بيتروس ومن قسطنطين جاء كثير من الخيوط والشخوص السردية، إلى جانب المعلومات العلمية التي بثها تشوسر في مجموعته القصصية التأسيسية في السرد الإنجليزي، «حكايات كانتربري»، التي نشرت أواخر القرن الرابع عشر.
إننا نعرف كثيراً اليوم عن أثر ابن سينا وابن رشد والرازي وغيرهم، على النهضة الفلسفية والعلمية في أوروبا، لكن القليل هو الذي يعرف أو يقال عن دور كتاب مثل ديسيبلينا كليريكاليس في تطور الآداب الأوروبية، الكتاب الذي سبق «ألف ليلة وليلة» بقرون وحمل إلى أوروبا ليس متعة الحكايات وخيالها الواسع فحسب وإنما المعرفة العلمية التي كان تُنشد في كتب الأدب في أوروبا العصور الوسطى مثلما كانت تنشد في كتب الجاحظ في العصر العباسي. يقول مترجم الديسيبلينا من اللاتينية إلى الألمانية إن ذلك الكتاب قدم لأوروبا عالماً لم تألفه في ملاحمها، قدم ثقافة مختلفة تتسم أولاً بغياب الرموز المسيحية كالعذراء مع إبراز الحياة المدنية على حساب الحروب والعنف، التاجر بدلاً من الفارس. كما أنه كسر مألوفية التراث اليوناني الروماني الذي طالما قدسته أوروبا ورأته تراثها الوحيد. كتاب ألفونسي، الذي يقول أستاذ اللغات الرومانسية الألماني كارل فوسلر إنه فيما يبدو كتب بالعربية أولاً ثم ترجم إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية، كان بوابة أوروبا إلى ثقافة مغايرة تشبه إلى حد ما، ما وجدته في ملحمة «السيد» التي تغيب عنها بعض الشخوص النمطية في الملاحم الأوروبية. في الديسيبلينا استخدم المؤلف ثلاثة مصادر عربية هي: مجامع الأمثال لحنين بن إسحاق (توفي 877) والمبشر بن فاتك (توفي نحو 1020) وكتاب حول «مكائد النساء». ويعزو مترجم الديسيبلينا الشعبية الواسعة للكتاب في عصره إلى الرغبة في معرفة ذلك العالم الأجنبي الذي كانت تدور على حدوده الحروب الصليبية، أي الرغبة التي عرفها العالم الغربي بعد أحداث تماس فيها العالم العربي والإسلامي مع الغرب كما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
تماس آخر بين أوروبا والعالم العربي الإسلامي، لكنه هذه المرة سلمي وطريف إلى جانب كونه مميزاً، حدث في رائعة سرفانتيس دون كيخوته التي احتفت بالموروث العربي من خلال الراوي الرمز سيدي حامد بننغلي، الموريسكي الذي نسب إليه الكاتب الإسباني حفظ حكاية البطل الإسباني برمتها. فعلى طريقة سرفانتيس الكوميدية الساخرة ولكن الجادة والعميقة في الوقت نفسه يقدم سرفانتيس حكاية الفارس الإسباني الحالم بعصر الملاحم والبطولات القديم بوصفها حكاية قومية كادت تضيع لو لم تحفظها مخطوطة عربية دونها ذلك الموريسكي سيدي حامد لتترجم إلى الإسبانية فيقرأها الكاتب ويتيحها لقرائه. ومع أننا أمام حيلة سردية بأسلوب سرفانتيس الساخر فإن الدلالات تذهب إلى أبعد من ذك لا سيما حين يصف الكاتب الإسباني المؤلف العربي المزعوم بأنه حكيم محمدي استضاء عقله بنور الطبيعة وكأنه فيلسوف يوناني، أي بالطريقة التي فسرت فيها أوروبا المتشددة في تدينها المسيحي معرفة اليونانيين بالحقيقة. فاليونانيون لم يعرفوا الكشف الإلهي أو يروا يسوع وإنما أضاء لهم الله الحقيقة من خلال الطبيعة. وهكذا سيدي حامد، وكأنه ابن رشد أو الفارابي لأوروبا العصور الوسطى. وتتضح رسالة الرواية الإسبانية التي يعدها الكثيرون مؤسسة للفن الروائي في أوروبا حين تشير إلى ضرورة التسامح الديني وتقبّل الآخر وذلك بسرد حكايات جانبية لمسلمين بقوا في إسبانيا وتعرضوا للاضطهاد وأن من الضروري التعامل معهم برأفة. في تلك الحكايات، كما في حضور المؤلف العربي، نجد لحظات تماس مع ثقافة الآخر، لحظات عبور منفتحة نحو الآخر تشبه ما في «الديسيبلينا كليريكاليس» وما حدث من تطورات فيما بعد من خلال «ألف ليلة وليلة» وغيرها.
في ختام هذه الإلمامة باللحظات الأولى للتماس العربي الأوروبي أود أن أقفز إلى العصر الحديث للوقوف على لحظتين مميزتين أخريين تؤكدان استمرار التماس الحضاري الثري من خلال الأندلس. اللحظة الأولى ترسمها بعض قصص الكاتب الأرجنتيني، الإسباني اللغة، خورخي بورخيس الذي تفاعل مع الموروث العربي الأندلسي وغيره على نحو لافت ليشكل جسراً آخر بين العرب والثقافة اللاتينية. ففي عدد لا بأس به من قصصه كتب بورخيس عن شخصيات عربية لبعضها بعد أندلسي-مغاربي لعل أبرزها ابن رشد في حكاية تتناول تعليقاته على أرسطو. هذا إلى جانب استلهامه لـ«ألف ليلة وليلة» وغيرها من الأعمال والشخصيات.
إلى جانب بورخيس هناك أيضاً لحظة تأملها الباحث والمترجم العراقي كاظم جهاد في مقالة نشرتها مجلة «فصول» المصرية عام 1992 حول الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو Goytisolo، وهو شاعر وروائي ولد في برشلونة عام 1929 ويقيم في المغرب منذ أواخر التسعينيات. يقول جهاد إن غويتيسولو في بعض كتاباته الروائية يمارس ما يسمى «الترجمة الداخلية» التي تشير إلى »كل ما يمارسه كاتب داخل نصه من إحالات إلى نصوص أخرى، وأساليب أخرى، ولغات أخرى. عمل به يستحيل النص إلى ما يدعوه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بـ«الترقيعة»، بمعنى العمل المجمع الذي ينهل من مصادر كثيرة، مصرحاً بها دائماً، ويكتسب ما يدعوه غويتيسولو نفسه بطبيعته ’الخلاسية’، ’المولدة‘، ’المبرقشة‘، ’المزيج‘».
يقول جهاد إن الكاتب الإسباني في روايته الشعرية دون خوليان وبعد انتقاله للمغرب «يعيد توظيف الآثار العربية في المتخيل الإسباني ويفيد من تقنيات الحكاية والسجع العربيين وإيقاع الكتابة العربية نفسه الذي يتنامى، كما لدى كبار المتصوفة، في جمل ترتسم في دوائر متصاعدة تفضي إلى متاه». هنا يبدو الوضع وكأن روائياً إسبانياً آخر يستعيد إلى الذاكرة الأوروبية ما كادت أو ربما ما أرادت أن تنساه؛ أي التراث الذي ابتدأ بالملاحم والحكايات ودون كيخوته وشعراء التروبادور (الذين يشكلون لحظة مهمة أخرى لم يتسع المجال للتوقف عندها).
رواية غويتيسولو إلى جانب أعمال بورخيس من اللحظات الأحدث في سلسلة اللحظات التي وقفت عندها في ملاحظاتي هذه والتي أرجو أن تكون قد أضاءت جوانب ليست في تقديري بالوضوح الكافي لدى البعض أو لم تحض بالدرس الذي تستحق، وهو درس يصعب تصور ازدهاره واستمراره دون عناية بالدراسات المقارنة التي ما تزال هامشية الحضور في الكثير من أقسامنا الأدبية.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.