«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

سالمة صالح تكتب عن تجربتها المؤلمة

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال
TT

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

صدر عن «منشورات الجَمل» كتابٌ جديد يحمل عنوان «عام السرطان» للقّاصّة والروائية العراقية سالمة صالح المُقيمة في برلين حالياً. ونظراً لصعوبة تصنيف هذا الكتاب السردي فقد وضَعَتهُ الكاتبة في خانة «تجارب» بينما ارتأى الشاعر فاضل العزاوي أن يسمّيه «رواية» في الكلمة المُعبِّرة على دبجها على الغلاف الأخير. وعلى الرغم من صحّة التصنيفَين أعلاه إلاّ أن سالمة صالح تُعرِّج في الصفحات الأخيرة من الكتاب لتصِفهُ بما يُشبه «التقرير» عن تجاربها الشخصية مع مرض السرطان. وبما أن العمل أدبي بامتياز وليس تقريراً، فيمكن تصنيفه «بالسيرة الروائية» التي تتماهى فيها المؤلفة مع راوية النص، كما يذهب الناقد عبد الله إبراهيم، ليقدّم لنا في خاتمة المطاف خطاباً أدبياً مُهجّناً يستمد مادته الأساسية من الرواية والسيرة الذاتية في آنٍ معا.
تُشْبِه بِنية هذه السيرة الروائية سجادة مُتقنة الصنع لا تحتمل الخطأ في حياكة نسيجها، ورسم أشكالها المجسّمة بطريقة فنية مُبهِرة لا تُخطِئها العين الحصيفة. فعلى الرغم من ضراوة المرض الذي تعرّضت له الراوية إلاّ أنها حافظت على حبكة الرواية، وحرصت على إيقاعها الداخلي المُتوازن، والتزمت بلغة مشذّبة خالية من الزوائد والاستطرادات.
تمتلك سالمة صالح رؤية أدبية في تجربتها القصصية والروائية، ويستطع القارئ الكريم أن يتلمّس في منجزها السردي بعض المحمولات الفنية والفكرية والجمالية التي استلهمتها من قراءاتها الواسعة، وتخصصاتها الدقيقة فهي ترسم، وتعزف، وتصوِّر، وتترجم، وتكتب نصوصاً قصصية وروائية يعتمد بعضها على أبحاثٍ عميقة كما هو الحال في سيرتها الروائية «عام السرطان» التي تغصّ بمعلومات علمية دقيقة عن نوعين من السرطان وهما بالألمانية «الموربوس هودجكِن والكارزينوم» حيث أُصيبَت بهما في بداية 2013 وتماثلت للشفاء قبل نهاية العام ذاته بثلاثة أيام، وقد سمت ذلك العام بـ«العام المفقود» وهو توصيف مجازي جميل كان يصلح أن يكون عنواناً مثيراً للسيرة الروائية برمتها.
الإحساس بالفراغ
لم تشعر الراوية بالصدمة حتى بعدما عرفت أنّها مُصابة بالسرطان وأنّ هذين النوعين غير قابلين للشفاء لكنها شعرت بفراغ كبير، وتوصّلت إلى قرار سنعرفه عند اللحظة الحاسمة التي تمثلت بصدمة زوجها «فاضل» وهو يتلقّى خبر إصابتها بصوت متهدِّج اضطّرها لأن تشدّ من عزيمته قائلة: «لا تبكِ فإنني لم أمتْ» (ص11) وكأنها توحي لنا بأنها ستقاتل هذا المرض اللعين بكل ما أوتيتْ به من قوة. لم يحضر فاضل كثيراً في النص السيري ولا الابن الوحيد محمد لكننا نتحسس وجودهما وانعكاس ظلالهما على تطورات الأحداث التي تشهدها بطلة النص وكائنته السرديّة الوحيدة، وتحسباً لأسوأ الاحتمالات أوضحت لفاضل طريقة استعمال الغسّالة الكهربائية، والصرّاف الآلي، وأين يجد المواد الاستهلاكية في السوق في أثناء غيابها في أروقة المستشفى التي تتحمّلها على مضض.
لا يمكن متابعة مراحل المرض كلها بدءاً من التشخيص الأولي وانتقاله من الغدد اللمفاوية في الرقبة إلى الطحال، مروراً بالعلاج الكيماوي والتأثيرات الجانبية لبعض الأدوية، وانتهاءً بمرحلة الشفاء التام وقهر المرض كلياً بعد أن سبب لها الكثير من الألم، والإرهاق، وسقوط الشعر، وتخفيض الكريّات البيض، وتضاعف دقّات القلب، والشعور بالغثيان، وألم شديد في الأسنان وعظام الجمجمة، ووجع في المعدة والأمعاء، وتجلّط في الرئة، وتورّم في الساقين، والتهاب في الأوردة، وخدر في أصابع اليدين والقدمين، وحالات الإغماء القصيرة وسواها من الأعراض المُوجعة والمُحرجة في بعض الأحيان. لنمعن النظر في هذه الجُمل المُقتضبة التي تكشف عن حجم الألم الذي كانت تعانيه الراوية حينما تقول: «أَفقتُ في الهزيع الأخير من الليل وصرتُ أعوي مثل ذئب جريح وأنا أتنقّلُ في المنزل» (ص28). وفي موضع آخر سبب لها بعض الحُقَن الطبية ذعراً لا مثيل له حيث تصفه الساردة كالآتي: «كنتُ أسمع ضربات قلبي تدقُّ طوال الوقت فتجعل النوم متعذراً، كان ذلك هو الجحيم بعينه» (ص64).
المعطيات الثقافية
من أبرز المحمولات الفكرية في هذا النص السيري هو إحساس الراوية التي دهمها المرض العُضال في سنّ متقدمة بعض الشيء بأنها أصبحت مثل «ذرّة غبار معلّقة في الهواء» (ص86). يمكن استنتاج أفكار كثيرة من متن هذا النص الذي يتمحور في جانب منه على الضعف البشري من جهة، وعلى المكابرة من جهة أخرى، وقد رفضت زيارات جميع المعارف والأصدقاء لأنها لا تريد لأحد أن يراها في أشدّ حالاتها ضعفاً.
على الرغم من المخاطر الجمّة التي كانت تُحاصرها من الجهات الأربع إلاّ أنها كانت تفكر بشجيرة «الحبّة الخضراء» وقد طلبت من أحد أصدقاء البستنة أن ينقلها من الحديقة المُستأجرة إلى أصيص، كما كانت تستمع إلى مقاطع من سيمفونية لبرامز، وتتمنى لو أنها سجّلت الموسيقى الوحشية التي انطلقت من إحدى الكنائس المجاورة، وترغب في تصوير بعض الأزهار النادرة التي تشبه قناديل مشتعلة.
لا بد أن تُثير الراوية طبيعة العناية المركّزة التي تتلقاها سواء في المستشفى أو في دار النقاهة وتستغرب لهذه المؤسسة الطبية التي تبذل قصارى جهدها لإنقاذ حياة أي مريض سواء أكان طفلاً رضيعاً أم شيخاً طاعناً في السن فتبوح لأحد الأطبّاء قائلة: «إننا نُجاهد هنا من أجل حياتي الشائخة، وفي مكان آخر يموت في الحروب آلاف من الشبّان» (ص85).
تُمجِّد الكاتبة أهمية المعرفة، فلا المنصب، ولا الجاه، ولا اللقب هو ما يضفي على الإنسان هيبته لأنها موقنة تماماً بأنّ «المعرفة تمنح المرء مهابة لا يمنحها المال ولا المركز الوظيفي أو السلطة» (98). وهي تنتمي من دون شك إلى أصحاب المعرفة الذين يرون الأشياء على حقيقتها، ويتلذذون بالمعطيات الثقافية والفكرية والجمالية.
وعلى الرغم من الآلام الممضّة التي تعرّضت لها الراوية إلاّ أنها تمكنت في خاتمة المطاف من قهر هذا المرض اللعين، ولعل النهاية السعيدة التي رسمتها الكاتبة سالمة صالح تعزّز انتصارها في هذه الملحمة الفردية حينما واجهت ضراوة الموت بأقسى أشكاله المرعبة. صحيح أنها نسيت بعض الأشياء التي جاءت لشرائها من السوق وهي في طريقها إلى محطة القطار لكنها رأت شخصاً في «مايباخ أوفر» لم تتذكر اسمه، وربما لم تعرف اسمه من قبل لكنها تذكّرت هذا الإنسان الذي كان طالباً في معهد الفنون الجميلة قبل 47 سنة فقالت في سرِّها: «ما زلتُ أحتفظ بذاكرة يقظة. لقد نجوت» (ص118).
تتمتع هذه السيرة الروائية بحضور قوي لعنصري الزمان والمكان ومن خلالهما يمكن التعرّف على شبكة العلاقات الشخصية للكائنة السيرية وأنشطتها الثقافية المتعددة سواء في برلين أو بعض المدن الألمانية أو خارج البلاد، كما أن حركتها خلال عام كامل من البيت إلى المستشفى أو دار النقاهة أو السوق أو الأندية الثقافية تكشف عن خريطة المدينة وما تنطوي عليه من معالم عمرانية حديثة، وحدائق غنّاء طالما توقفت الكاتبة عند شجيراتها وأزهارها الجميلة التي لا يكّف بعضها عن مقارعة الموت الذي يختبئ وراء أقنعة مخيفة.
لا مفرّ من الإشادة بالبناء العضوي الرصين لهذه السيرة الروائية الصادقة التي عالجت فيها الكاتبة ثيمة حسّاسة وخطيرة دوّنت تفاصيلها بلغة أدبيّة رفيعة لا تخلو من الجديّة والدُعابة والفرح.



قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024
TT

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع... في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في مصر تراوحت قراءات المثقفين والأدباء ما بين الرواية والشعر؛ خصوصاً الشعر الأميركي بآفاقه الكثيرة التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من الاكتشاف، كما شملت القراءات الجوانب المنسية والمهمشة من التاريخ، فضلاً عن كتب السيرة الذاتية وعلاقتها بالفلسفة، وكذلك الكتب التي تتناول الأدوار المتعددة للنخبة المثقفة وأقنعتها التي تراوح دائماً ما بين الخفاء والتجلي.

أحمد الخميسي: مكتبة متنقلة لبيع الأرض والسماء

في البداية، يشير الكاتب أحمد الخميسي إلى تنوع قراءاته ما بين اللغة والأدب والسياسة، ففي عالم الأدب استمتع برواية «المكتبة المتنقلة» للروائي الأميركي كريستوفر مورلي الذي توفي عام 1958، وفيها نقرأ بروح الفكاهة العذبة حكاية «ميفلين» العجوز الذي عشق الكتب وأُغرم بتقديمها للآخرين فراح يجوب القرى بعربة خشبية محملة بمكتبة كاملة يجذب الناس إلى متعة القراءة. يقول الكاتب على لسان ميفلين: «إننا عندما نبيع كتاباً لرجل فنحن نبيعه حياة جديدة بأكملها، الحب، والصداقة، والفكاهة... السماء والأرض بأكملهما موجودان في الكتاب».

ويشير الخميسي كذلك إلى كتاب «اختلاق إسرائيل» للكاتب البريطاني كيث وايتلام الذي يفنّد فيه الكثير من المعلومات التاريخية التي تربط الماضي بالحاضر فيما يتعلق بالأسس التي قامت عليها دولة إسرائيل، مؤكداً أنه «إذا نظرنا من منظور أطول زمناً، فان تاريـخ إسرائيل الـقـديم يبدو مثل لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل». وتبقى في ذاكرة الخميسي كتاب يصفه بـ«ممتع» يحمل عنوان «أين ذهب المثقفون؟» للأكاديمي المجري فرانك فوريدي المختص في علم الاجتماع، وفيه يعالج برشاقة ويسر قضية عزوف الناس عن القراءة في عصرنا حتى في بلدان مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا، مركّزاً من خلاله على موضوع اختفاء المثقفين. ويقول المؤلف إن من أسباب ذلك حصر دور التعليم والثقافة في حدود الأدوات التي تخدم أغراضاً عملية لا أكثر؛ مما أدى إلى التسطيح الثقافي، وإلى ما أطلق عليه الأكاديمي المجري «تهميش الشغف الفكري»، فلم يعد للمثقف دور في مجتمعاتنا المعاصرة. ويضرب مثالاً على ذلك من فرنسا قائلاً: «إن المثقفين الفرنسيين الآن، مقارنة بسارتر، يبدون مجرد تكنوقراطيين هزيلين». ويطرح كتابه بقوة سؤالاً أساسياً: أين اختفى المثقفون بالفعل؟ ولماذا؟

سارة حواس: «شاعرة في الأندلس» تبحث عن هوية فلسطينية

وتركزت قراءات المترجمة والأكاديمية الدكتور سارة حامد حواس على الشعر الأميركي الحديث، لا سيما أرشيبالد ماكليش، وتيد كوزر، وتشارلز رايت، ودابليو إس مروين، وكونراد أيكن، وچيمس رايت ويوسف كومنياكا، وغيرهم ممن كتبت عنهم في كتاب جديد سوف يصدر لي قريباً بعنوان «ولاؤهم للروح: عشرون شاعراً أميركيا حازوا حائزة بوليتزر» بالتزامن معرض القاهرة الدولي للكتاب.

وفي النصف الثاني من العام، شملت قراءات حواس الكثير من الروايات التي توقفت عندها بشغف، مثل رواية «صاحب الظل الطويل» لچون ويبستر وهي من ترجمة بثينة الإبراهيم والصادرة عن «منشورات تكوين» ورواية «النباتية» لهان كانغ التي حازت جائزة نوبل في الآداب لعام 2024، ورواية «رحلات في غرفة الكتابة» لبول أوستر الصادرة عن دار «التنوير». أما عن الكتب التي تتناول موضوع الكتابة بصفة عامة، فأحببت كتاب «كيف كانوا يكتبون» الصادر عن دار «المكتبة العلمية»، وهو كتاب ألَّفه مجموعة من الكتَّاب لم يذكرهم الكتاب، وقام بترجمته عادل العامل، ويتناول تجارب الكتَّاب في كتاباتهم من شكسبير إلى هوراكامي، وهو عمل ثري وملهم وأرشحه لأي كاتب مهتم بتجارب الآخرين.

أما عن الكتاب الذي توقفت عنده كثيراً لسارة حواس وخلق حالة لا تُنسى من الجمال والبهاء، فهو «شاعرة في الأندلس» للشاعرة الأميركية - الفلسطينية ناتالي حنظل، ترجمة الشاعر السوري الدكتور عابد إسماعيل وصادر عن دار «التكوين» وهو كتاب يمزج الشرق بالغرب، والحب بالفقد، والضياع باستكشاف الذات، والبحث عن الهوية التي ضاعت في سبر أحداث تحدّها جغرافيات مختلفة، حيث جاءت الشاعرة من فلسطين إلى نيويورك، ثم تذهب إلى الأندلس، التي أقامت فيها نحو عام.

وتضيف حواس: «هو من أكثر الدواوين التي أثَّرت فيَّ ومست قلبي؛ شعور بالاغتراب ممزوج بالألم والحب، شعور بالقوة والانتصار برغم الفقد والتيه، مشاعر إنسانية حقيقية كتبتها ناتالي حنظل كما لو كانت تكتب نوتة موسيقية».

خالد عزب: التاريخ المنسي لأهل الجنوب

ويتوقف المؤرخ والباحث في الدراسات الأثرية الدكتور خالد عزب عند كتاب مثير يكشف جوانب مهملة في البحث التاريخي في مصر ألَّفه الباحث النابغة أمير الصراف يحمل عنوان «منقريوس بن إبراهيم... وزير ومباشر همام الهواري أمير صعيد مصر»، وصدر عن دار «المرايا» بالقاهرة. ويتساءل الدكتور محمد أبو الفضل بدران في مقدمة الكتاب: «هل يطوي التاريخ صفحات عمداً ويُظهر أخرى؟ لماذا يغفل التأريخ صانعي الأحداث الفعليين وأدوارهم المؤثرة، ويمضي في تمجيد المنتصر وينسي المهزومين؟».

يتابع عزب: يسلط الكتاب الضوء على التاريخ المنسي لصعيد مصر وإقليم الجنوب من خلال أحد أهم أفراد رجال الإدارة القبطية في صعيد مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو منقريوس بن إبراهيم المكنى في بعض وثائق وحجج المحاكم الشرعية، بـ«بولس منقريوس» وكان وزير الأمير همام بن يوسف بن محمد وذراعه اليمنى في الإدارة. ويذكر المؤلف أن التحاق منقريوس بإدارة همام، زعيم قبيلة هوارة، تزامن مع تولد فكرة الدولة المستقلة في صعيد مصر، والموازية للسلطة المركزية في القاهرة، ذات الجناحين المتمثلين في الوالي العثماني وشيخ البلد الذي كان منصبه في حوزة المماليك.

حسين محمود: مشاهد سيرة ذاتية من ذاكرة مثقوبة

ومن أبرز ما قرأه الدكتور حسين محمود، أستاذ الأدب الإيطالي، عبر 2024 كتاب لمارتا نوسباوم بعنوان «ليس للربح»، ترجمة فاطمة الشملان، لافتاً إلى أنه يناقش أهمية الدراسات الإنسانية للديمقراطيات. قرأت أيضاً كتاب «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» لإيتالو كالفينو، ترجمة دلال نصر الله، وفيه يقدم الكاتب الإيطالي الأشهر رؤيته حول ضرورة إعادة قراءة أمهات الكتب في مرحلة النضج، وإعادة اكتشافها من جديد وهناك كذلك، كتاب «العلم الجديد» لجان باتيستا فيكو، ترجمة أحمد الصمعي، في فلسفة التاريخ، والذي يقسم فيه التاريخ إلى ثلاث مراحل، مرحلة الأرباب، ثم مرحلة الأبطال، وأخيراً مرحلة البشر.

ويتوقف الدكتور محمود عند كتابين لأحمد جمال الدين موسى، هما «شطحات منسية» وهي مجموعة قصصية، و«مشاهد تنبض من ذاكرة مثقوبة» وهي سيرته الذاتية، مشيراً إلى أن موسى أديب نبغ في سن متأخرة في فن الرواية، وهو غزير الإنتاج رغم هذا، فقد قضى معظم حياته في عمله الأكاديمي والوزاري، ولم يتفرغ للأدب إلا بعد تقاعده الذي وفَّر له الوقت والاسترخاء الكافي لكي يستعيد هوايته في الكتابة ويصدر العمل تلو الآخر.

ويشير الدكتور محمود إلى أن بعض إنتاج هذا المؤلف ليس وليد اللحظة، وإنما يعود إلى فترات مبكرة من حياته، خصوصاً المجموعة القصصية «شطحات منسية» التي جمع فيها نصوصاً كتبها في شبابه، رغم أنها تتميز بتحقيق الشروط الفنية لفن القصة القصيرة من حيث التقاط الحدث وتكثيفه والتعبير عنه بلغة سهلة التوصيل والتواصل. وتأتي السيرة الذاتية لأحمد جمال الدين موسى عبر مشاهد تتوالى من ذاكرة مثقوبة لكي يقدم لنا فيها نموذجاً حديثاً لأدب السيرة الذاتية في تنوع أحداثها وتقسيمها إلى موضوعات، تنقسم داخلياً بترتيبها الزمني، في تدفق جيد الإيقاع وسلس لغوياً، لكنه ليس تدفقاً حراً، بقدر ما هو تحت سيطرة المؤلف، المنضبط في بنيته السردية انضباطاً هندسياً.

مروة نبيل: الغموض الساحر في علم البيولوجي

وتوضح الشاعرة مروة نبيل أنه مثلما تحمل القراءات الجديدة فائدة، فإن إعادة القراءة تمنح المزيد من التأمل والتفكير واستشراف رؤى وآفاق متنوعة للكتابة. من هنا استرجعت هذا العام ديوان «المثنوي» لـجلال الدين الرومي، وأزعم أنه من الكُتب التي لا تمنح ما فيها في قراءة أولى أو ثانية، ولا تُؤخَذ إلا بقوة ما، فهو كتاب متعدد الطبقات، ومفتوح على نوافذ شتى للقراءة والتأويل، وهو ما يمنحه حيوية وامتداداً في الزمان والمكان. وشغفاً بالأدب اليوناني وبكازانتزاكيس، كان «تقرير إلى جريكو» تَتمة لقراءة مجمُوعتِه المُترجَمة.

وتعتبر مروة أن كتاب «الخاطرات - سيرة ذاتية فلسفية» للدكتور سعيد توفيق جاء مثل مكافأة بالنسبة إليها، فالكتاب في الواقع مصفوفة فائقة الأبعاد من حيث الأساليب والموضوعات. كما كانت قراءة كتاب «المفكرون الأساسيون - من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية» لسايمون تُورمي إنجازاً مهماً بالنسبة لي، لا يكمُن في الموضوع فقط؛ بل في تصدير المُترجم أيضاً، والتعرُّف من جديد إلى الدكتور محمد عناني، والتساؤل بإعجاب شديد عن حقيقة العمر العقلي لهذا المُترجم الفَذ الذي أثرى المكتبة العربية بزاد أدبي متنوع له مذاقه الخاص.

توجَّه نظر مروة نبيل إلى أعمال «هان كانج» في الرُّبع الأخير من العام... قرأت «النباتية»، وهي رواية جيدة في سياق الأدب الكوري الراهن، لكن بالنسبة للكتابة عن الصدمات التاريخية، والكشف عن هشاشة الحياة البشرية؛ تحفظ الشاعرة مروة نبيل للروائيين الشرق أوسطيين قدرهم، وترى أنهم يمتلكون القدرة على كتابة أكثر تجريداً لما يدور حولهم، حيث نضجت التجربة الإنسانية في الشرق الأوسط إلى حد التعايش مع الصدمات والعنف.

وتضيف الشاعرة المصرية: «منحتني قراءة (الكتاب الأبيض) للمؤلفة نفسها تكهُّناً باختلاف بين فضاءي الشعر والرواية، وأنه سيظل اختلافاً جوهريّاً، مهما امتدت العلاقات بينهما، فالشاعر والروائيّ لا يتشابهان إلا في القدرة على كتابة العبارات المؤثرة، لكنهما يختلفان في كل شيء بعد ذلك».

وتتابع: «أما الفوز الأكبر في قراءات هذا العام فكان كتاب (البحث عن الوعي - مقاربة بيولوجية عصبية) لكريستوف كوتش، ترجمة د. عبد المقصود عبد الكريم، ذلك الكتاب الذي أظهر لي غموضاً ساحراً في علم البيولوجيا، وإمكانية لاستمرار بصيص من التأمل الروحي في هذا العالم».

هبة عبد العليم: كتابات تداوي جراح الحروب والديكتاتورية

من جهتها، تشير الكاتبة الروائية الشابة هبة عبد العليم إلى أنها أعادت قراءة الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ ضمن مشروع إحدى دور النشر لإعادة نشر أعماله، حيث تعقد عبد العليم ندوة شهرية تستضيف فيها أحد الكتاب المتميزين لمناقشة أحد أعمال محفوظ في لقاء مفتوح للجمهور، تتخلله نقاشات غالباً ما تكون شيقة، شديدة الموضوعية.، حتى يخيل لي أحياناً أننا بصد اكتشاف نجيب محفوظ من جديد.

كما قرأت كذلك للمرة الأولى ثلاثة أعمال للكاتب البريطاني من أصل ليبي هشام مطر. بدأت برواية «اختفاء»، ثم «شهر في سيينا» والتي تعدّ جزءاً من سيرته الذاتية ويحكي فيها وقائع شهر سافر فيه لبلدة سيينا الإيطالية لمشاهدة لوحاتها الفنية التي تنتمي إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها، وذلك بعد أن أنهى كتابه السيري «العودة» الذي قرأته هبة باللغة الإنجليزية وترجمت بعض فصوله لشدة حماسها له.

وترى هبة عبد العليم أن كتابة مطر تتميز عموماً بصدق وأمانة لافتين للنظر، لا سيما على مستوى رصد تداعيات مأساة فترة حكم معمر القذافي الديكتاتوري لليبيا التي استمرت على مدار نحو أربعين عاماً، ومحاولة اللجوء للفن لمداواة آثار الجروح النفسية والتعافي منها.

كما استوقفها أيضاً رواية «لا شيء أسود بالكامل» لعزة طويل، والتي ترصد فيها آثار الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي بلبنان، كذلك أثر الثورة السورية الذي امتد إلى العمق اللبناني.

وتوقفت كذلك أمام بعض التجارب السردية المختلفة ككتاب «تلات ستات» والذي يرصد فيه الصحفيان محمد العريان وعمر سعيد سيرة ثلاث سيدات من العاملات في الجنس التجاري، وأيضاً كتاب «كرنفال القاهرة» للشاعر علاء خالد الذي يرصد فيه الملامح الشخصية لخريطة الوسط الأدبي بقاهرة التسعينات.

محمد البرمي: أسرار «الثورة الثقافية» روائياً

وتركزت قراءات القاص المصري محمد البرمي على رواية «الزمن المفقود» للكاتب الصيني وانغ شياوبو، بترجمة عن الصينية مباشرة للمترجم والباحث أحمد السعيد، ويرى أنها رواية تنتمي إلى الأعمال الإبداعية القصيرة؛ إذ تقع في 150 صفحة من القطع المتوسط وتتسم بالإيقاع السريع والأسلوب الساخر لشخصيات عدة تنتمي إلى البسطاء والطبقة المتوسطة في المجتمع الصيني في حقبتَي الستينات والسبعينات إبان ما عُرف آنذاك باسم «الثورة الثقافية».

وشملت قائمة البرمي في قراءات العام كذلك روايات «لا شيء نحسد العالم عليه» وهي عن الحياة في كوريا الشمالية للكاتبة باربرا ديميك والتي جاءت بمثابة وثيقة إبداعية تنقل بدقة وذكاء واقع دولة لا زلنا لا نعرف عنها الكثير، وقام بترجمتها الدكتور محمد نجيب. وأيضاً رواية «الشعب الدموي» لبول أوستر، حيث يسرد فيها بذكاء إبداعي لافت كيف تغلغل السلاح في البيوت الأميركية.