من الصعب الفصل بين «داعش» وتنظيم «القاعدة» ومقاتلي المجاميع المتطرفة الأخرى في ليبيا. فقد ظهرت وجوه كانت تقاتل مع «داعش» في سرت، في صفوف «القاعدة» وضمن ميليشيات أخرى تمولها جماعة الإخوان الليبية.
لكن في النهاية يبدو أن كل طرف يحاول الاستفادة من الطرف الآخر إلى أقصى حد، خاصة بعد فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية وسياساته المتوقعة حيال الجماعات المسلحة في هذا البلد المهم في شمال أفريقيا.
تمكن «داعش» من لملمة عناصره التي تشتت عقب هزيمته في سرت في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ووجد مواضع لأقدامه في بلدات ومدن ومناطق تقع في غرب العاصمة الليبية وفي شرقها. منها «الخُمس» و«مسلاتة» و«الزاوية» و«زوارة»، أما «صبراتة» التي تعرض فيها لغارة أميركية العام الماضي، ما أدى لمقتل نحو خمسين من عناصره فيها، فقد حولها إلى نقطة عبور للدواعش القادمين من تونس المجاورة.
وفي المقابل يعاني تنظيم «القاعدة» (الذي تمثله الجماعة الليبية المقاتلة) من تنامي الخلافات بين قادة ميليشياته المنتشرة في طرابلس. ويوجد تنافس محموم بين هذه القيادات على شراء الأسلحة واستئجار المقاتلين الأجانب، وامتلاك مخازن لحماية الدبابات والأسلحة الثقيلة وإخفائها عن الخصوم. وتنتشر الميليشيات المحسوبة على تنظيم «القاعدة» في الضواحي الجنوبية والغربية من العاصمة. كما زادت وتيرة إصدار الفتاوى التي تبرز تربص عدة قيادات بعضها ببعض.
ومما يزيد من الغموض في طبيعة العلاقات الخفية بين الدواعش و«القاعدة» في ليبيا، أن غالبية هذه القيادات كانت تقاتل في الماضي جنبا إلى جنب ضد الوجود الروسي في أفغانستان، سواء كانوا ليبيين أو وافدين من العرب والأجانب، خاصة من الأجيال القديمة... أي أولئك الذين أصبحت أعمارهم تتراوح بين الـ55 و65 عاما.
ويقول مصدر على صلة بالجماعات المتشددة، من العاصمة: هؤلاء يعرفون بعضهم بعضا وخاضوا الحرب في أفغانستان سويًا. ولذلك من السهل أن يعبر أحد القادة المحسوبين على «داعش»، بمقاتليه، من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة. يوجد تفاهم غير مكتوب بين «زعماء الجهاد القدامى» على أن كلا منهم يسعى لإقامة دولة الخلافة. ويضيف: «إذا كنت من (القاعدة) ولديك خلاف مع فريق آخر من (القاعدة) أيضا، فإن مسألة تقديم خدمة للدواعش توضع في الحسبان من جانبهم، وتصبح مصدر قوة لك في المستقبل».
وتجددت الخلافات بين قادة في الجماعة الليبية المقاتلة أثناء احتفالات الليبيين بذكرى «الثورة» على معمر القذافي يوم الجمعة الماضي. واستغلت عناصر من «داعش» «التلاسن» بين زعماء في الجماعة، لتأجيج الصراع ما يمكن أن يمنح مزيدًا من المكاسب لهذا التنظيم داخل العاصمة وما حولها.
وأجريت الاحتفالات في الساحة المطلة على البحر المتوسط، والتي كان القذافي، حتى صيف عام 2011 يلقي فيها الخطب في محاولة للإبقاء على حكمه. كان اسمها «الساحة الخضراء». ومنذ الإطاحة بالنظام السابق أصبح اسمها «ساحة الشهداء». وفي ذروة احتفالات طرابلس بالذكرى السادسة لـ«الثورة»، تفجرت «خلافات فقهية» بشأن مدى التزام المحتفلين بالتعاليم الدينية، بين أبرز قادة الميليشيات التي أصبحت تتحكم في العاصمة، وغالبيتها تنتمي لـ«الجماعة المقاتلة».
الخلافات التي ما زالت دون حسم، تتعلق بشرعية توزيع ميليشيات تابعة لعدة قيادات من «الجماعة المقاتلة» للسجائر والسماح بتشغيل الموسيقى وفتح الباب لحضور «فتيات وسيدات سافرات ومتبرجات» إلى موقع الاحتفالات. وبينما يجري زعماء آخرون في الجماعة الموالية لـ«القاعدة» تحقيقات حول مسؤولية بعض «الإخوة»، ممن كانوا قديما يجاهدون معهم في أفغانستان، لمعرفة السبب في هذه «التصرفات المخالفة»، أخذ تنظيم داعش يراقب الأوضاع، وهو يتحين الفرص للتمدد داخل العاصمة التي تعاني أصلا من الفوضى وتتنازع السلطة فيها حكومتان وعدة جماعات مسلحة.
وتأسست الجماعة الليبية المقاتلة أساسا في أفغانستان، في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت تهدف إلى العودة إلى ليبيا لمحاربة نظام القذافي. وبعد مناوشات مع قوات الأمن الليبية في منتصف التسعينيات في منطقة الجبل الأخضر، عاد قادة الجماعة للعمل ضد القذافي في عام 2011، رغم أن النظام نفسه هو من أفرج عن كثير من هؤلاء القادة الذين تسلمتهم طرابلس من مخابرات دول غربية في عام 2004.
في أثناء الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأدت لنهاية عهد القذافي، كان أبرز أربع قيادات في الجماعة الليبية المقاتلة، قد وزعوا أنفسهم على أربعة مواقع تنظيمية داخل الجماعة، وهم يرفعون أعلام «الثورة» مع ألوف الليبيين. الأول تولى مسؤولية القيادة، والثاني مسؤولية الشؤون العسكرية، والثالث مختص بالشؤون الفقهية والرابع مختص بالإمداد والتموين.
ومع تأسيس أول حكومة وبرلمان لإدارة السلطة في هذه الدولة الغنية بالنفط وقليلة السكان، كان من نصيب اثنين من هؤلاء الأربعة مقعدان؛ واحد في الحكومة السابقة وواحد في البرلمان السابق، أما الاثنان الآخران، ففضلا العمل من خارج منظومة الحكم الجديدة، وانخرط أولهما، الذي كان يقود مجموعة الأربعة، في أعمال اقتصادية واسعة عبر منطقة الشرق الأوسط، انطلاقا من ليبيا، وأصبح مليارديرا. بينما اتجه ثانيهما إلى تطوير اختصاصاته المتعلقة بالفتاوى وأمور الفقه من خلال كثير من المؤسسات الموجودة في طرابلس.
وعقب الانتخابات البرلمانية الجديدة في صيف 2014، والتي أسقط فيها الليبيون غالبية مرشحي التيار الذي كان يهيمن عليه هؤلاء الأربعة، مع تيارات أخرى مماثلة، منها جماعة الإخوان، ومع ظهور تنظيم داعش في ليبيا في تلك السنة، بدأت الخلافات تدب بين زعماء القاعدة الأربعة في ليبيا. وابتعد كل منهم عن الآخر بميليشياته ومقاتليه وأفكاره ونوع ملابسه وعطوره الخاصة وعلاقاته الجديدة، بما فيها العلاقة مع تنظيم داعش.
وفي «ميدان الشهداء» صباح يوم الجمعة الماضي بدأ التساؤل بين عدد من قادة ميليشيات «الجماعة المقاتلة» عمن أرسل «فتيات متبرجات سافرات، بعضهن غير ليبيات» إلى مكان الاحتفال بذكرى «الثورة». وتبين أن كثيرا من هؤلاء الفتيات الجميلات والمتأنقات «في ملابسهن الغربية القصيرة والملونة»، هن موظفات أصلا في شركة متعددة الجنسيات تخص القيادي الجهادي الذي تحول بعد القذافي إلى أحد كبار رجال الأعمال بالمنطقة.
ويقول أحد الزملاء القدامى للملياردير الجهادي، إنه «هو نفسه أصبح يرتدي البدلات المستوردة من أشهر المحلات الأوروبية، ويستخدم العطور التي يعلن عنها نجوم الفن والكرة». ويضيف: أعتقد أن طريقة حياته أصبحت تتناقض مع الشعارات التي ترفعها الجماعة المقاتلة، وهذا تسبب في ابتعاد الرفاق الأربعة عن بعضهم البعض. لكن في الفترة الأخيرة، وفي خضم التنافس على النفوذ في العاصمة، أصبح هناك اتجاه لتصيد الأخطاء.
أيا ما كان الأمر فقد ظهر الخلاف الجديد واضحا منذ صبيحة يوم الجمعة الماضي خاصة حول الموقف الفقهي من اختلاط النساء بالرجال في ساحة واحدة. وأفتى موالون للجهادي الملياردير بأنه لا توجد مؤاخذات شرعية على وجود المرأة بجوار الرجل أثناء الاحتفال بذكرى «الثورة»، وأن «النساء كن يجاهدن مع الرجال في الغزوات في الماضي».
وفي المقابل رد شيوخ من أتباع المسؤول العسكري الجهادي في مجموعة الأربعة نفسها، بالتشديد على «رفض الاختلاط ورفض السفور ورفض التبرج». ووصف ما حدث بأنه أمر مخالف لتعاليم الدين.
وظهر في خضم هذا الجدل أن المسؤول بالشؤون الفقهية، القديم، من المجموعة نفسها، والذي يقود ميليشيا خاصة به، أصبح منحازا لتيار جماعة الإخوان، وله كذلك علاقات بميليشيات محسوبة على الدواعش الذين يقاتلون الجيش الوطني في بنغازي. وهو جيش يقوده المشير خليفة حفتر. أما الرابع والذي كان مختصا بالإمداد والتموين، فقد أصبح نشاطه يتركز على جلب المقاتلين والأسلحة من خارج ليبيا، وبيعها لأي جماعة قادرة على الدفع، سواء كانت جماعته (المقاتلة)، أو للدواعش، أو لما يسمى بـ«السرايا» التي تتكون من خليط متعدد الولاءات يتفق فقط على محاربة حفتر.
واحتدمت المناقشات والاتهامات بين فريقين داخل تنظيم «القاعدة» الليبي خلال اليومين الماضيين. ودافع الفريق الأول عن موقفه من احتفالات «ساحة الشهداء» بالقول إنه كان لا بد من إرسال رسالة إلى العالم الخارجي بأن الحياة في طرابلس تسير بشكل طبيعي مثلها مثل أي مدينة في الدول الأخرى، وأن التيار المتشدد لا يسيطر عليها ولا يفرض فيها قوانينه كما تحاول كثير وسائل الإعلام الغربية تصوير الأمر للرئيس ترمب.
وفي ظل هذه الخلافات، ورغم ضعف إمكانياتها، رصدت أجهزة أمنية في طرابلس، تحركات لتنظيم داعش وهو يقوم بتعضيد موقف الفريق الرافض لما جرى في «ساحة الشهداء»، وشن التنظيم، هو الآخر: «حملة فقهية» للنيل من الجهادي الملياردير الذي تنتشر ميليشياته في الوقت الراهن في مناطق غرب طرابلس، وهي مناطق يسعى «داعش» للاستحواذ عليها دون منافس.
لكن «داعش» قام بأكثر من ذلك، وتجرأ على الاتفاق على تحريك بعض عناصره داخل العاصمة نفسها بداية من يوم أمس (الأحد)، في محاولة منه على ما يبدو للضغط على منافسيه في غرب طرابلس، ولامتلاك أوراق جديدة للعب على مناطق النفوذ. كما استغل «داعش»، قبل عدة أيام، خلافات مماثلة بين قيادات «القاعدة»، وتمكن من إدخال العشرات من المقاتلين إلى العاصمة بعد أن جلبهم من دولة مالي في حافلات عبر الصحراء الجنوبية الغربية.
«داعش» على خط «جدل فقهي» بشأن الاحتفال بذكرى إسقاط القذافي
استغل خلافات أنصار «القاعدة» للتمدد في طرابلس
«داعش» على خط «جدل فقهي» بشأن الاحتفال بذكرى إسقاط القذافي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة