بينما كانت مفردة «البريكست» أكثر الكلمات الجديدة انتشارًا في اللغات العالمية، كان اسم دونالد ترمب الأكثر تكرارًا في مختلف لغات العالم طوال الشهور الماضية. وهو ما يبدو سيستمر طوال فترته، فالعالم يعيش على وقع تصريحاته وتغريداته مرشحًا منذ بدء حملته في يونيو (حزيران) 2015، إلى تنصيبه رئيسًا في 20 يناير (كانون الثاني) الحالي 2017، حيث سيستمر لـ4 سنوات مقبلة.
مما لا شك فيه أن الحقبة الترمبية، وصعود اليمين المتشدد غربيًا، الذي احتفى بفوزه واعتبره رفدًا ورصيدًا مضافًا له على عكس تيارات الوسط واليسار، تمثل هاجسًا عند اليمين والتطرف العنيف في المناطق الأخرى، من إيران لكوريا الشمالية لجماعات التطرف والإرهاب المنسوبة للإسلام، في سوريا والعراق.
إن الحسم هو عنوان الإجابة الترمبية على ما يبدو على التطرف العنيف، وفي حسم كثير من الأزمات المنتجة له، وضبط نشاطهم في المجال العام، حيث تضيق المسافة بين ما يعد معتدلاً وما يعد متطرفًا. وهي حالة أشبه بحقبة الرئيس جورج دبليو بوش بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 مباشرة، وما تم فيها من مساس بالحريات العامة وتقييدها، وفق قوانين وزير عدله جون أشكروفت، ولكنها تراجعت مع الحقبة الأوبامية.
وكما يتضح من خطاب ترمب وتوجهاته تتصاعد الهواجس لدى نظام كالنظام الإيراني وتنظيمات التطرف من هذا الحسم والإصرار على المجابهة الصريحة معه. وتساءلت الصحافة الإيرانية خلال الأسبوع الأخير عن مصير قاسم سليماني، الذي ظهر قبل أسابيع في معارك حلب، ويقود معارك في سوريا والعراق، وهو المطلوب بقرارات من مجلس الأمن والكونغرس الأميركي، وكيف يمكن أن تؤدي سياسات وتوجهات ترمب لتقييد حركته في المرات المقبلة، بل تتساءل وتطرح الصحافة الإيرانية ككل سيناريوهات بديلة أكثر تواءمًا وتكيفًا مع الحقبة الترمبية، تقوم على الاعتدال وتغيير سياسة التدخل والتقارب مع المحيط الإقليمي، وغير ذلك من أمور.
لكن لا يمكن نفي بعض تداعيات الحقبة الترمبية سلبيًا، على الاعتدال والوسط بشكل عام، شرقًا وغربًا، كما لا يمكن تجاهل استثمار وتوظيف جماعات التطرف العنيف لخطواتها وخطاباتها شحنًا وعنفًا مضادًا، وهو ما نحاول أن نستكشفه هنا في قراءتنا الأولية له.
الروافد المتشابهة لأفكار اليمين والتطرف
يفسر البعض صعود تيارات اليمين غربيًا نظريًا بفشل البدائل الاجتماعية، وفي مقدمتها الديمقراطية الاجتماعية أو ما عرف بـ«الطريق الثالث» وفشل البدائل السياسية والآيديولوجية في تحقيق الرفاه والأمن للمواطنين، ومما يعد كذلك رافدًا مهمًا من روافد صعود اليمين المتشدد، وكذلك أفكار التطرف، وصعود الفردية المفرطة المحمولة على سيولة شبكات التواصل الاجتماعي، وانتشار تصورات الكراهية والتمييز والرفض لفكرة الاختلاف أو التسوية أو الاقتناع بحكم الأغلبية. وهكذا غدا كل فرد يعتقد الصحة المطلقة فيما يقول. ويربط الكاتب الفرنسي جان بينون في مقاله بـ«اللوموند» الفرنسية يوم الخميس الماضي 26 يناير 2017 بين صعود ترمب وصعود هذه الفردية المفرطة، التي يمثل ترمب تحققًا كاملاً لها حسب وصفه، وأنه يمثل بدرجة ما تجسيدًا لفلسفة سوبرمان النيتشوية وإن لم يكن قرأ نيتشه. ولعل صعود وانتصار النزعات اليمينية عبر صناديق الديمقراطية - شرقًا وغربًا - هو نتاج لذلك، وأن ذلك إن فسر بانتصارات الديمقراطية، فلا شك أنه يمثل خطرًا على مستقبلها، وتهديدًا للمستقبل نفسه... بعيدًا عن الأنساق القيمية والأخلاقية التي استقرت طوال القرن العشرين، من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين والتجارة الحرة وحرية التنقل واللجوء وغيرها.
لكن مما لا شك فيه، أن ثمة روافد أخرى عملية وواقعية كثيرة لهذا النزوع والصعود اليميني والانعزالي، في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك صعود الإرهاب من جديد وصعود «الإسلاموفوبيا» معه، ونشاط «داعش» وأخواته في تنفيذ عمليات في كبرى العواصم الغربية، مع اشتداد الحرب الدولية عليه في العراق وسوريا، مما أعاد أيضًا هذا التشويه والربط القديم بين «الإسلام والإرهاب»، خصوصًا مع عودة مئات من المقاتلين الأوروبيين والغربيين إلى بلادهم منها، ويتوقع تنفيذهم عمليات باسمها داخلها من آن لآخر.
كما أن مفهوم «الإيرانوفوبيا» بدأ يصعد مع ترمب أيضًا، وقطعًا مع الإرث الأوبامي في تقاربه مع إيران ورفع العقوبات عنها، مقابل اتفاق نووي في يوليو (تموز) العام الماضي، أعلن ترمب رغبته في إلغائه أو تعديله على الأقل، مع بقاء تصنيفها (إيران) من قبل تقرير الخارجية الأميركية كأكبر داعم للإرهاب في العالم، وبقاء تدخلاتها وتوسعاتها في المنطقة ودعم ميليشيات وجماعات مسلحة موالية لنظامها.
مسلمون أيدوا ترمب ولوبان
لم يكن مستغربًا أن بعضًا من مسلمي الولايات المتحدة وأوروبا يؤيدون سياسات اليمين المتشدد، رغم ما يصرح به قادته من مواقف معادية أو مقلقة تجاه المهاجرين أو التطرف المنسوب للإسلام أو الإسلام نفسه أحيانًا. وهو ما يعود لكونهم مواطنين بدرجة أولى، وثانيًا لمشاركتهم مواقف اليمين في العداء الشديد للتطرف الإسلامي الذي صار عبئًا ثقيلاً على أكتافهم يتبرأون منه، وقد يريدون التأكيد على هذه البراءة، وسنكتفي بمثالين على هذا التأييد فيما يلي:
1 - تأييد ترمب: في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نشرت شبكة «بي بي سي» التلفزيونية مقطع فيديو تصدر أعلى نسبة مشاهدة بعدة عدة ساعات من نشره، لسيدة أميركية مسلمة من مؤيدي ترمب وناخبيه، بررت تأييدها المستغرب له ساعتها، أنها بعد كثير من التفكير والمناقشات، كان دافعها بسبب نظرته المتشددة للإرهاب والتطرف العنيف المنسوب للإسلام، وإصراره على مواجهته والقضاء عليه. ونقلت السيدة عن ترمب قوله إن «التطرف الإسلامي مشكلة آيديولوجية وتصورات»، معقبة أن هذا بعيد كل البُعد عن كونه هجومًا على الإسلام كديانة أو على المسلمين. ودعت السيدة المسلمين أن ينخرط في حوار لمناقشة هذه القضية، وألا نقع ضحايا رهاب الإسلام والفوبيا منه.
2 - مسلمون يؤيدون لوبان: في السياق نفسه، نشرت مجلة «الإكسبرس» الفرنسية في 4 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تحقيقًا حول تأييد أهالي جزيرة مسلمة بجنوب شرقي أفريقيا لزعيمة اليمين المتشدد الفرنسي مارين لوبان، التي تخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمعة في شهر أبريل (نيسان) 2017. إذ استقبل المسلمون في جزيرة مايوت الفرنسية الذين يمثلون أغلبية سكان الجزيرة (التي كانت تتبع أرخبيل حزر القمر) بالورد والحفاوة التي لم تكن هي نفسها تنتظرها، وأعلنوا دعمهم الكامل لها في الانتخابات، على اعتبارها الأجرأ والأكثر تشددًا في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تسيء إلى صورة الإسلام. وهو ما وصفته «الإكسبرس» في حينه بأنه «مفاجأة وهبة من السماء» حين صرحت القيادات المسلمة في مايوت بأنهم يصلون كي تغدو لوبان رئيسة للجمهورية عام 2017، مطالبين بالمحافظة على دورها في مكافحة الأصولية والتطرف العنيف المنسوب للإسلام. وجاء رد زعيمة التشدد الفرنسي - حسب المجلة نفسها - على هذه الحفاوة بقولها: «أحيي القادة الدينيين من المسلمين الذين يلعبون دورًا كبيرًا في استقرار المجتمع». كما أعلنت في مؤتمر صحافي أن للأديان دورًا في النسيج الاجتماعي، ويجب أن تظل لها المكانة الروحية. وأكدت مارين لوبان خلال هذه الزيارة: «أنا أحترم كل الأديان، أنا ضد التطرف العنيف، وأنه يمثل خصمًا مشتركًا لنا وللإسلام المتسامح».
وهكذا مثل التطرف العنيف المنسوب للإسلام رافدًا لليمين المتشدد ولمؤيديه ولمسلمين يخشون الخلط بينه وبين ما يعتقدون من وسطية وقدرة على التعايش.
بين العولمة والانعزالية
عودة إلى دونالد ترمب. لم ينتظر ترمب طويلاً قبل أن ترتفع التوقعات بإمكانية تراجعه، بل كان واضحًا منذ البداية حين ألغى «أوباما كير» كما وعد. ثم انطلق في تنفيذ أجندته فيما يخص المهاجرين، فشرع منذ يوم تنصيبه في توقيع كثير من القرارات التي وعد بها أثناء حملته، وكان في مقدمها قراره فيما يخص جدار المكسيك وتحميل حكومة الأخيرة تكلفته، وهو ما ترتب عليه إلغاء رئيس المكسيك زيارته لأميركا. كذلك ترتبك إيران بشكل واضح مما ينتظرها معه، ولكن يبدو القلق الأكبر من مواقفه موجودًا لدى الأقليات والمهاجرين. إذ كان من أول قراراته حظر الهجرة واللجوء على مواطني 7 دول في الشرق الأوسط، بينها إيران وسوريا. ويبدو أن الرجل لن يختلف مرشحًا عنه رئيسًا، مصرًا على القطيعة الكلية مع الحقبة الأوبامية السابقة، التي اتسمت بالرتابة وانعدام الحسم.
في المقابل، يرى البعض في تصريحات ترمب وقراراته تهديدًا لقيم العولمة المستقرة منذ انتهاء الحرب الباردة. ويحذر سلفه الرئيس السابق باراك أوباما ونائبه جون بايدن ترمب من هدمها والتجرؤ عليها، كما أعلنت وزيرة الخارجية السابقة (في عهد بيل كلينتون) مادلين أولبرايت يوم الخميس 26 يناير استعدادها لتسجيل نفسها كمسلمة تضامنًا مع المسلمين بعد قرارات ترمب التي أصدرها بخصوص حصر شامل لهم في المجتمع الأميركي، وحظر مؤقت على المهاجرين منهم.
إلا أن ثمة رأيًا آخر يرى ما يطرحه ترمب هو أن شعار «أميركا أولاً» أو «بريطانيا أولاً» ليس قطعًا مع العالمية والعولمة، بل ظل كامنًا فيه. فالدولة الوطنية والهم القطري لم تنكره يومًا النزعات الاتحادية أو الوحدوية أو العالمية، والعلاقة بينهما جدلية وليست احتواء، فيتقدم أحدهما مرة ويتقدم الثاني مرة أخرى.
ولم يعد ممكنًا لأي رئيس أميركي العودة إلى خيار الانعزالية الذي كان قبل الحرب العالمية الأولى، كما ليس ممكنًا لمؤمن بالدولة الوطنية أو «أميركا أولاً» تجاهل حقيقة العولمة الماثلة والمستمرة.
لذا جاء كثير من تصريحات ترمب وقراراته ذات طابع عالمي. فهو يطمح لقيادة مختلفة للعالم أكثر حسمًا، ولم تحصر رسائله فقط في الداخل الأميركي. وهذه هي الترجمة الفعلية لشعاره «أميركا أولاً» وقد حادثته فيه تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، أثناء زيارتها للولايات المتحدة يوم الخميس 26 يناير من ضرورة قيادة مشتركة للعالم، بينهما، وما تدعوه له مارين لوبان من قيادة اليمين المتشدد في أوروبا والعالم. وهذا يعني أن الترمبية تتوجه نحو العالمية، ولكن بشكل مختلف، أكثر حسمًا وأكثر تشددًا في آن، وقطعًا كلية مع الحقبة الأوبامية السابقة.
حسم يربك التطرف
ختامًا، فإن حسم ترمب يربك التطرف أكثر من الوسط بشكل واضح. فهو لا يمكن له أو لليمين المتشدد في أوروبا الخروج عن إطار الحداثة والتنوع الغربي في معاداة ما هو اعتدال ديمقراطي، خصوصًا أن كثيرين من مؤيديه من الأقليات والمهاجرين الذين يشاركونهم المواقف نفسها من التطرف. ولذلك يبدو قلق البعض مفهومًا، كما أن دعايات الخصوم ترفع من مستوى هذا القلق. وكان القلق الإيراني الصاعد من الترمبية مفهومًا، بعدما تكرست «الإيرانوفوبيا» شرقًا وغربًا، وأعلن ترمب الحملة والحرب عليها، وصار تغييرها ضرورة يفرضها الواقع الجديد.
ولا شك أن هذا القلق يوجد مثله لدى تنظيمات كـ«داعش» و«القاعدة»، بل وتنظيمات أخرى كـ«الإخوان المسلمين» و«الحرس الثوري الإيراني»، الذي يرجح تصنيفهما كمنظمتين إرهابيتين من قبل الإدارة الأميركية قريبًا، وليس فقط «فيلق القدس» المصنف الوحيد بين فصائل الحرس الثوري والجماعات المرتبطة به.