تستمر المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة «في الإعلام» و«على الإعلام» و«عبر الإعلام»، الذي تحول إلى جبهة صدام بدرجات توتر غير مسبوقة بين البلدين، لا سيما على خلفية تكرار واشنطن اتهاماتها لروسيا بقرصنة مواقع إلكترونية لقوى سياسية أميركية، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي آخر فصول تلك المواجهة كان لافتًا أن ينقطع بث برامج قناة التلفزيون الأميركية «C - SPAN» يوم الثالث عشر من يناير (كانون الثاني)، لتحل محلها برامج قناة «آر تي» الروسية الناطقة بالإنجليزية. ومع صدور بيان رسمي عن تلك القناة الأميركية تؤكد فيه أن ما جرى نتيجة «خطأ فني» ارتكبه طاقمها، سارع كثيرون، وما زال البعض يصر أن ما جرى كان نتيجة عملية قرصنة، والمتهم دوما «قراصنة روس»، ذلك أن عملية تحويل البث جرت أثناء نقل القناة الأميركية «مباشر» لوقائع جلسة في الكونغرس، كانت تتحدث خلالها العضو عن كاليفورنيا مكسين أووتريس، معترضة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، بسبب «التدخل الروسي» فيها، وتوجه انتقادات حادة اللهجة لروسيا.
وتكشف المواجهة الإعلامية الدائرة حاليًا بين «الخصمين التاريخيين» عن حجم التحولات التي طرأت على آليات وأساليب وسياسة عمل الإعلام الروسي، الذي استغل دون شك التطور التقني ووسائل الاتصال الحديثة، فضلا عن استفادته بدرجة كبيرة من «حرية الإعلام» في الغرب، لينقل إلى الرأي العام هناك، وبشكل مباشر، وجهة نظر مغايرة عن تلك التي اعتاد على سماعها طيلة عقود من الزمن. ولا شك بأن «وصول» الإعلام الروسي إلى «عقر دار» الخصم الغربي ومخاطبته مباشرة للرأي العام هناك، خطوة تشكل نقلة نوعية في مواجهة إعلامية بين موسكو وواشنطن، لم تهدأ منذ عقود بعيدة.
وفي العهد السوفياتي اعتمدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي على وسائل عدة لمواجهة «الزحف الفكري والإعلامي للإمبريالية العالمية»، أي الغرب. وإلى جانب النشاط الآيديولوجي الرامي إلى نشر الفكر الشيوعي عبر أحزب وقوى يسارية في أرجاء العالم، اعتمدت موسكو السوفياتية في الحرب الإعلامية حينها على وسائل إعلام حكومية رئيسية، وفي مقدمتها وكالة «تاس» الشهيرة، التي كانت حينها الجهة الإعلامية الوحيدة «المخولة أن تعلن»، وإلى جانب الوكالة اعتمد عقائديو الحزب الشيوعي السوفياتي على صحف محلية، هي بمثابة «لسان حال» اللجنة المركزية للحزب، وفي مقدمتها صحف مثل «إزفستيا» وكذلك «البرافدا» السوفياتية الشهيرة، التي كان الغرب يعتمد أخبارها لمتابعة التطورات في الداخل السوفياتي، وقرارات القيادة السوفياتية في شتى المجالات. إلا أن دائرة تأثير وسائل الإعلام تلك كانت حينها محدودة، نظرًا لمحدودية قدرات وسائل الاتصال التي كانت متوفرة في تلك الحقبة، لذلك لم يكن بوسع أي مواطن غربي الاطلاع على الصحافة السوفياتية ومتابعة أخبار «تاس». وعلى الجهة الأخرى كان «وصول» الإعلام الغربي إلى العمق السوفياتي شبه معدوم، في ظل حصار سياسي وفكري وثقافي وإعلامي فرضته السلطات السوفياتية، وحال دون وصول المعلومات من وسائل الإعلام الغربية إلى الرأي العام المحلي.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تغير كل شيء، بما في ذلك طبيعة «المواجهة الإعلامية»، والأدوات العصرية الحديثة التي دفعت الإعلام مع الوقت إلى «الخطوط الأمامية» للمواجهة الإعلامية، وسمحت له بـ«إنزال» في الخطوط الخلفية للخصم. إذ شهدت التسعينات في روسيا انفتاحًا واسعًا على الإعلام الغربي، الذي تمكن بعد عقود طويلة من مخاطبة الرأي العام في روسيا بصورة مباشرة، وتم تأسيس مؤسسات إعلامية روسية بمشاركة غربية، وأصبح بوسع أي قارئ روسي متابعة الصحافة الغربية التي أخذ كثير منها يصدر نسخة باللغة الروسية. أما روسيا فقد اقتصر نشاطها الإعلامي على افتتاح «إدارات تحرير» باللغات الأجنبية في وكالات أنبائها الرئيسية، مثل «تاس» و«ريا نوفوستي».
النقلة النوعية الروسية في «المواجهة الإعلامية» جاءت عام 2005، حين تم تأسيس قناة «روسيا اليوم» الدولية الناطقة باللغة الإنجليزية، أو شبكة «RT»، والتي افتتحت في السنوات التالية محطات تحمل نفس الاسم، تبث باللغات العربية والإسبانية، بينما تبث أخبارها باللغة الألمانية عبر الموقع الإلكتروني، وافتتحت عدة مكاتب في واشنطن ومدن أميركية أخرى، فضلا عن مكاتب في عواصم أوروبية، ولها مكتب في تل أبيب وآخر في دمشق. ومنذ افتتاحها أعلنت روسيا بوضوح أن هدف عمل هذه المؤسسة الإعلامية هو «نقل وجهة النظر الروسية حيال قضايا السياسة الدولية، ولعرض الأخبار من روسيا».
وبالتزامن مع إحكام السلطات الروسية قبضتها تدريجيًا على وسائل الإعلام المحلية، وفي ظل غياب شبه تام لبث أي من القنوات الغربية برامجها عبر محطات البث بواسطة «شبكات الكابل» الوطنية الروسية، مما جعل وجهة النظر الرسمية هي المهيمنة إعلاميًا في روسيا، كانت شبكة «RT» تعزز حضورها في عواصم الغرب، وتنشط لجذب الرأي العام المحلي، عبر مجموعات من البرامج، وظفت لها نخبة من الإعلاميين الغربيين. وقد نجحت في ذلك لعدة أسباب أهمها أن المشاهد الغربي وجد في تلك القناة نافذة يتعرف من خلالها على روسيا كما لم يرَها سابقًا، وقناة إخبارية يستمع فيها لوجهة نظر جديدة، إلى جانب البوتقة الواسعة من وجهات النظر والآراء التي تقدمها له وسائل إعلامه المحلية. وقد عزز من الحضور الإعلامي الروسي في عمق الرأي العام الغربي إطلاق الكرملين وكالة أنباء «روسيا سيغودنيا» التي تضم شبكة قنوات «RT»، ومجموعة من وكالات الأنباء باللغات العالمية، حملت اسم «سبوتنيك»، وذلك على أرضية وكالة «ريا نوفوستي» العريقة، التي انطلقت منها شبكة «RT» عام 2005.
وعلى الرغم من الانتشار الكبير لاسم شبكة «RT»، والإقبال الواسع بين المشاهدين في دول الغرب ودول الشرق الأوسط على متابعة برامج قنوات تلك الشبكة، فإن الشهرة الأكبر جاءت خلال الأشهر الأخيرة الماضية، عندما بدأت الولايات المتحدة تتحدث عن «التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية»، وكانت «RT» ومعها «سبوتنيك» على قائمة «الأدوات التي يستخدمها الكرملين للتأثير على الرأي العام المحلي». وقد شغلت تلك الاتهامات مساحات واسعة من التقرير الذي أعدته مؤخرًا أجهزة الاستخبارات الأميركية حول «عمليات روسيا السرية للتأثير على الانتخابات». وفي وقت سابق دعا مايكل ماكفول، سفير الولايات المتحدة الأسبق في موسكو، إلى وضع شبكة قنوات «روسيا اليوم» ووكالة «سبوتنيك» على قائمة «عملاء أجانب»، بموجب قانون أميركي يحمل الاسم ذاته ويحظر التمويل الخارجي للحملات الانتخابية. ويطالب ماكفول بالنظر في إمكانية تعديل التشريعات الأميركية، ليشمل حظر أشكال أخرى من الدعم خلال الحملات الانتخابية غير الدعم المالي، متهمًا «RT» و«سبوتنيك» بأنهما «أطلقتا حملة دعم لواحد من المرشحين، دونالد ترامب».
وكانت مارغاريتا سيمونيان، رئيسة تحرير وكالة «روسيا سيغودنيا» التي تدير شبكة «RT» ووكالة «سبوتنيك» قد ردت أكثر من مرة على حملة الاتهامات، واعتبرت أن ما يجري يدل على أن «النخب الإعلامية - السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، لا يريدون خسارة احتكارهم لكيفية تقديم المعلومات»، معربة عن قناعتها بأنه «على كل وسائل الإعلام الأجنبية أن تلتزم بسيناريو واحد (خلال عرض الحملات الانتخابية) كي لا تُتهم بالتدخل»، متهمة الولايات المتحدة بأن الأسلوب الوحيد الذي كانت ستقبله هو «دعم كلينتون والهجوم على ترامب» في الإعلام. أما ماريا زاخاروفا المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية فقد دافعت عن نشاط المؤسسات الإعلامية الروسية، مشددة على أنها «تقدم وجهة النظر البديلة» عما يقدمه الإعلام الغربي، موجهة النصح لواضعي التقرير حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية بأن يطلعوا على ما تنشره راديو «صوت أميركا» و«صوت الحرية» قبل اتهام وسائل الإعلام الأخرى بممارسة «البروبغاندا»، في إشارة منها إلى أن وسائل الإعلام الممولة أميركيا هي من يمارس «البروبغاندا».
الإعلام في موسكو من «تاس» و«البرافدا» إلى «آر تي» و«سبوتنيك»
على ضوء أزمة ترامب ومزاعم القرصنة الإلكترونية والتدخل في الانتخابات
الإعلام في موسكو من «تاس» و«البرافدا» إلى «آر تي» و«سبوتنيك»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة